Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الفن الخام المتمرد على الاصول في تجلياته الراهنة

معرض باريسي يتأمل في الآثار الباهرة لرسامين اختبروه بفرادتهم

عمل فني لغبريال أودبير في المعرض (خدمة المعرض)

ملخص

معرض باريسي يتأمل في الآثار الباهرة لرسامين اختبروه بفرادتهم

صحيح أن عبارة "فن خام" تعود إلى الرسام الفرنسي جان دوبوفي، الذي اشتقّها عام 1945 لوصف فن المجانين وفن أشخاص هامشيين (سجناء، متصوفون، منعزلون، فوضويون، متمرّدون...) كان يتابع عملهم منذ مطلع العشرينيات. لكن هذا الفن لم ينبثق في التاريخ المذكور، كما يروّج لذلك عدد من مؤرّخي الفن، لسبب بسيط وهو أنه يمكن العثور على مثل هؤلاء الأشخاص في مختلف الأزمنة، وإن لم نكن نعير أي اهتمام لفنهم. بالتالي، يمكن أن ننحدر بتاريخ الفن الخام إلى زمن إنسان المغاور، خصوصاً إن اعتمدنا التحديد الثاني والموسَّع له الذي وضعه دوبوفي عام 1963: "ابتكارات من جميع الأنواع تتميّز بطابع عفوي وإبداعي شديد، ولا تدين بشيء للفن المعهود والكليشيهات الثقافية، ويقف خلفها أشخاص غامضون أو من خارج الدوائر الفنية المهنية".

دوبوفي الذي مارس هذا الفن بنفسه ونظّر فيه كثيراً، لم يكتف بهذين التحديدين له، بل وضع تحديداً ثالثاً عام 1964، هو الأفضل في نظرنا: "أعمال أصحابها أشخاص غرباء عن أي محيط ثقافي أو فكري، لم يخضعوا في غالبيتهم لأي تعليم فني، ولهذا يمارسون إبداعهم من دون أن يفسد أي تأثير عفويتهم". بالتالي، يدين الفن الخام بالكثير لهذا الفنان، لكونه هو الذي أخرجه من الظل وسلّط الضوء على قيمته الفنية، وروّج له طوال حياته. لكن الحقيقة أيضاً هي أن دوبوفي هجس بهذا الفن إلى حد جعله يُنصب نفسه المنظِّر الشرعي الوحيد فيه، ويحدد له معايير جامدة وصارمة تناقض ماهيّته بالذات.

ولأنه حيوي وحرّ في جوهره، كان من الطبيعي أن يفلت الفن الخام من هذه المعايير، بعد وفاة مكتشفه، ليصبح ما كان دائماً عليه، أي واقعاً مفتوحاً بمعالم في حالة تطوّر مستمر. وفي سياق تحرّره، أنجب عالماً فنياً ابتداعياً، أو غير تقليدي، ينشط اليوم في أرجائه أشخاص لا ينكرون صفتهم كفنانين، لكنهم يقفون خارج ثقافة الفن الرسمي الخانقة، ويشكّلون خير نقيض لها. مبدعون جعلوا من أعمالهم، التي تندرج تحت تسميات قابلة للتبديل (فن فريد، فن خارج القواعد، فن دخيل...)، أو لا تندرج تحت أي تسمية، مكاناً لمسرحٍ خاص حقيقي، وركيزة لسرديات شخصية بعمق، فلا يتعارض القلق من الموت إطلاقاً مع نشوة الوجود. مبدعون متعددون في أساليبهم وموادهم ومحركات عملهم، ما برح القائمون على "بازار سان بيار" الفني في باريس يستكشفون ابتكاراتهم منذ سنوات في معارض فريدة، آخرها معرض راهن تحت عنوان "على حدود الفن الخام".

15 رساماً في معرض

قيمة هذا المعرض تكمن في تقديمه لزواره 15 فناناً يتعذّر تصنيفهم وفقاً لمعايير الفن الخام الجامدة التي حددها دوبوفي، أو لمعايير الفن الساذج التقليدي الذي غالباً ما يتداخل فضاؤه مع فضاء الفن الخام. أشخاص لم يتابع معظمهم أي تعليم فني، ولكن يتسلّط على جميعهم هوس الإبداع وهاجس الاختبار، وتحمل عوالمهم علامات خاصة يمكن التعرّف إليها من النظرة الأولى. ولأنهم لم يسلكوا الدروب المؤدية إلى داخل المحيط الفني التقليدي، أو نادراً ما كشفوا عن تجليات مخيلاتهم الجامحة، ما زالوا حتى اليوم مجهولين.

مَن تسنح له فرصة زيارة هذا المعرض الرائع، يُفتن حتماً بالدراماتورجيا التي تحضر فيها تماثيل بيار أموريت (1947) المرصودة لموضوع الأمومة، ولمريم العذراء وطفلها يسوع تحديداً، والتي تستحضر في أشكالها وتعابير وجوهها وألوانها تلك التي تركن في ظلام كنائس الغرب الرومانية، وتعود إلى القرون الوسطى. تفتنه أيضاً لوحات روجيه لورانس (1925 ــ 2018) الخشبية، التي يتجلى فيها عالم حلمي بألوان نيّرة، تقطنه كائنات مسخيّة تعكس هوسه برمزية الأحلام والميثات، وتختلف كلياً عن شخصيات غابريال أوديبير (1924 ــ 2007) التي لا تقل فتنة، والمكوّنة من ورق صحف. شخصيات استقاها هذا الأخير تارةً من مسرح فرنسا السياسي، وطوراً من داخل لوحات فان غوخ وموديلياني وتولوز لوتريك، وتشكّل مجتمعةً كوميديا بشرية.

وبينما يستثمر شينيشي ساوادا (1982) العناصر الأربعة ليشكل بمادة التراب، مخلوقات غريبة تعلو جلدها تضاريس مسنَّنة، وتستحضر بأشكالها تارةً بشراً وطوراً زواحف أو طيوراً؛ يلجأ المغربي محمد باباهوم (1942) إلى قلم لُبدي (feutre) أسود وورق تغليف سميك ليرسم بأسلوب ساذج جميل، شخصيات من ذكرياته في مدينة الصويرة، تحضر متباعدة داخل واحات أو أسواق تعجّ بكائنات مختلفة، كالحمير والبطّ والثعابين والجِمال، ضمن إخراج مثير في حيويته. ولأن الرسام والشاعر باتريك نافاي (1955) أمضى فترة طويلة في الترحال بين إيران وتركيا واليونان والمغرب، تدعونا لوحاته المشحونة بالإشارات والرموز المختلفة، إلى سفر حميم تتلاقى داخله ثقافات العالم وتتلاقح.

من جهته، أمضى يوشيهيرو واتانابي (1989) طفولته في الحقول يراقب حياة الحشرات، فطوّر باكراً فضولاً تجاه الطبيعة قاده إلى إعادة خلق كائناتها بمادتي الطين والورق. هكذا تحوّلت قصاصات ورق تغليف إلى ركائز كان يطويها بغية منحها الشكل المنشود، قبل أن يستبدلها بورق السنديان لخلق شخصياته الصغيرة والرقيقة، بلا تصاميم مسبقة أو لِصاق. وفي عمل مارك ديسيمو (1958)، نستشفّ السعي نفسه لإعادة التواصل مع الطبيعة الحية. فتركيباته التي تتكوّن من مواد نباتية أعيد تدويرها، تستحضر في هندستها وأشكالها شبكات جذور النباتات والأشجار. في المقابل، تشكّل مركبات جان برانسيار (1954) السوريالية، بقدرتها على الحركة، ركائز هروب منقِذ من عالمنا الوظيفي والنفعي، وفي الوقت نفسه، تعكس بالمواد والقطع التي تتشكّل منها، رغبة مبتكِرها في ردّ الكرامة إلى الحياة اليومية وأشيائها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وداخل علب متفاوتة الحجم، يعمد رونان جيم سيفيليك (1938) إلى استنساخ الواقع بشكل مصغّر. لكن سواء تعلّق الأمر بمشاهد داخلية أو بتراكم أشياء متفرّقة، تبدو عوالمه المصمّمة بدقة تفصيلية مدهشة، مألوفة بشكلٍ غريب، ومعلّقة خارج الزمن، داخل فضاء تنتفي فيه الحاجة إلى السرد. وفي توليفات ماريون أوستر (1960)، يتجلى عالم سحري تقطنه دمى قديمة تحمل وشوماً قبلية، وشخصيات بملابس مخرّزة، وتملأ فضاءه قطع على شكل نذور (ex-votos) وتركيبات ذات طابع روحي وثني. عالم ينبثق من خيال الفنانة الملهَم بطفولتها في إفريقيا.

وبينما يجسّد سيلفان وجيسلان ستايلنس (1960 و1968) في منحوتاتهما المصنوعة من مواد طبيعية، أرواح الغابة السلتية وسكّانها القدماء (محاربون، كهنة، صيادون...)، أو فرسان يمتطون مخلوقات غريبة؛ يستلهم جون ساركين (1953) الثقافة الشعبية والحياة اليومية في لوحات ذات مفاعيل بصرية مذهلة، يشرّك فيها الكتابة والرسم بطريقة تردم الهوة التي تفصل بين المحسوس والمعقول (أو المجرَّد).

أما المحللة النفسية إيتي بوزين (1935)، فتمارس الرسم أثناء إصغائها إلى مرضاها، بترك يدها تخطّ أشكالاً ملهَمة مما يصل إلى مسمعها. هكذا، على مدار الجلسات، تنتقل الكلمة من لاوعي إلى آخر، لتصبح عملاً مشتركاً، وتنسج يد بوزين المصغية، بشبكات خطوطها العشوائية، الروابط المفكّكة لعالمنا الداخلي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة