Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نيران الحرب تأكل هوية غزة الثقافية

مثقفون قتلهم القصف الإسرائيلي وعشرات المراكز الفنية والمواقع الأثرية دمرتها القنابل

شمال قطاع غزة تحول إلى مدينة أشباح جراء القصف الإسرائيلي العنيف (أ ف ب)

لم تكن الفنانة الشابة حليمة الكحلوت (23 سنة) على دراية أن المعرض الذي شاركت فيه الصيف الماضي للفنون التشكيلية، سيضم آخر أعمالها الفنية، فالمعرض الذي حمل اسم "شظايا المدينة " وحاكى تاريخ قطاع غزة ومعالمه الأثرية أصبح أثراً بعد عين، ولم يتبق منه سوى اسمه، فالشظايا أصابتها في مقتل وأودت بحياتها.

أما المدينة فسحقتها آلة الحرب الطاحنة التي تدور رحاها منذ أكثر من 40 يوماً، إلى جانب مئات المعالم والمراكز الثقافية والمكتبات والمسارح التي كانت تروي ظمأ المثقفين والمبدعين المحاصرين في غزة.

وعلى رغم صعوبة حصر الخسائر التي تعرض لها المشهد الثقافي في القطاع، قالت وزارة الثقافة الفلسطينية، إن 15 شخصاً في الأقل من الفنانين والمبدعين الغزيين قتلوا جراء القصف الإسرائيلي وأصيب العشرات، فيما دمرت عشرات المراكز وتأثر عديد من المؤسسات الثقافية والفنية، كما تعرضت مساجد وكنائس وأسواق ومدارس قديمة ذات قيمة أثرية وتاريخية عالية لدمار كبير.

قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ضم القطاع 76 مركزاً ثقافياً وثلاثة مسارح وخمسة متاحف و80 مكتبة عامة، إلى جانب 15 داراً للنشر والتوزيع وبيع الكتب، وكان عدد المشاركين في الأنشطة الثقافية يصل سنوياً إلى نحو 220 ألف مشارك.

مثقفون ومبدعون

الكاتبة الشاعرة هبة أبو ندى (24 سنة) التي حصلت أخيراً على المرتبة الأولى في القصة القصيرة بفلسطين كانت من بين القتلى، وبعد ساعات من رثائها صديقتها، قضت هي تحت الأنقاض، وقالت في آخر تغريدة لها "نحن في الأعلى نبني مدينة ثانية، أطباء بلا مرضى ولا دماء، أساتذة بلا ازدحام، عائلات جديدة بلا ألم ولا حزن، وصحافيون يصورون الجنة، وشعراء يكتبون الحب الأبدي، كلهم من غزة كلهم. في الجنة توجد غزة جديدة بلا حصار تتشكل الآن".

إلى جانب أبو الندى، قتلت الفنانة التشكيلية هبة زقوت مع ابنها، والشاعر عمر أبو شاويش، الذي ترك إسهامات مختلفة على الصعيد المجتمعي والشبابي والثقافي والفكري، وشارك في تأسيس عديد من الجمعيات والهيئات الشبابية، والفنانة إيناس السقا المتخصصة في الفنون البصرية والمسرح، والفنان المؤثر علي عبدالله حسن النسمان، الذي ظل حتى اللحظات الأخيرة يظهر في مقاطع فيديو يتحدث عما يحدث في قطاع غزة.

 

 

وعرف من بين القتلى، عازف الغيتار الكاتب يوسف دواس، الذي كان نشطاً في مبادرة "لسنا أرقاماً"، التي توثق معاناة الشعب الفلسطيني تحت الحصار، والفنانة التشكيلية نسمة أبو شعيرة، إلى جانب الناشطة الثقافية إيمان أبو سعيد التي قتلت مع أطفالها و22 فرداً من عائلتها، وكان آخر مشاريعها جمع صدف البحر وتنظيفه وصناعة أدوات لتزيين البيوت إضافة إلى توثيق أيام الحصار في القطاع عبر التاريخ الشفوي.

ونعت وزارة الثقافة كذلك، الفنان طارق ضبان، والخطاط الفنان مهند الأغا، والشاعر الفلسطيني الباحث التربوي شحده البهبهاني، والطفلتين شام أبو عبيد وليلى عبدالفتاح الأطرش (ثمان سنوات) من فرقة تشامبيونز للدبكة الفلسطينية في قطاع غزة، والفنان محمد قريقع، الذي نشر على منصات التواصل الاجتماعي الفيديو الشهير لأطفال المستشفى الأهلي المعمداني وهم يلعبون في حديقة المستشفى قبل يوم واحد من قصفه الذي راح ضحيته 500 فلسطيني.

مراكز إيواء

وفقاً للتقرير الأولي لوزارة الثقافة الفلسطينية، تسبب القصف الإسرائيلي بتدمير عديد من المراكز الثقافية عرف منها خمس مكتبات ودور نشر وستة مراكز ثقافية، إضافة إلى تصدع وتأثر عديد من المكتبات الأخرى والمؤسسات الثقافية والفنية بأضرار كلية أو جزئية، كما تحول عديد من المؤسسات الثقافية لمراكز إيواء للنازحين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتعرض مبنى المركز الثقافي الأرثوذكسي في منطقة تل الهوا المكون من طابقين لهدم كامل وسويت قاعاته وأدواته الرياضية وقاعات عرض وتنظيم النشاطات الثقافية والفنية بالأرض.

واعتبر وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف أن" استهداف المثقفين والأدباء والفنانين هو استهداف للرواية الفلسطينية وللثقافة الوطنية ومكوناتها، وهي التي تمكنت من إيصال صوت القطاع المحاصر لكل دول العالم". وأضاف "الهجمة والتدمير للقطاع الثقافي والأثري والتاريخي وشواهده، تثبت وحشية الاحتلال وإجرامه بحق الشعب الفلسطيني وأرضه."

قطع نادرة

طالت القذائف والصواريخ الإسرائيلية وفقاً لإحصاءات الوزارة الأولية، عديداً من المتاحف والمنشآت الأثرية والثقافية التي تعود إلى الفترة الكنعانية والرومانية واليونانية والإسلامية، إذ تصدعت جدران متحف القرارة الثقافي الذي تأسس في عام 1958، بشكل كبير وتهشمت أجزاء كثيرة من مقتنياته الأثرية.

كما تعرض أكبر متحف أثري في خان يونس، الذي يحوي آلاف القطع الأثرية التي تعود للحقبة البيزنطية والرومانية لخسائر بالغة وكبيرة، تسببت بضياع نقود إسلامية تعود للعهد الأموي والعباسي والعثماني، وتحطم  عديد من الآلات الموسيقية التقليدية الفلسطينية الخشبية كاليرغول والشبابة والربابة، إلى جانب أدوات زراعية قديمة وأوان تعود لأكثر من 100 عام، إضافة لأزياء تراثية تعود لفترة ما قبل النكبة عام 1948.

وطال الدمار كذلك، متحف العقاد الذي بني سنة 1975، ويضم أكثر من 2800 قطعة أثرية تعود للعصر البرونزي والحديدي والهلنستي والروماني والبيزنطي الإسلامي، كما تعرض بيت السقا الأثري في حي الشجاعية الذي يعود تاريخ بنائه إلى 400 عام، لدمار جسيم وهو الذي جسد ملامح غزة القديمة، وأعيد ترميمه عام 2014، ليتحول إلى مركز ثقافي على مساحة 700 متر.

 إضافة إلى ذلك، تعرض معظم أجزاء البلدة القديمة لمدينة غزة وفيها 146 بيتاً قديماً إلى أضرار هائلة، إضافة إلى ميناء غزة القديم المدرج على اللائحة التمهيدية للتراث العالمي ولائحة التراث الإسلامي.

وقالت الوزارة، إن الدمار وصل إلى قصر الباشا الذي شيد في العصر المملوكي، وقلعة برقوق في خان يونس التي أسست في القرن الرابع عشر الميلادي كحصن للتجار المتنقلين ما بين القاهرة ودمشق، وحمام السمرة العثماني، وسبيل السلطان عبدالحميد الذي أسس كمنشأة معمارية تقدم المياه للمارة وعابري السبيل، في حين يخشى مجلس بلدية غزة من أن يطاول الدمار مقر البلدية التاريخي، الذي يعود تشييده إلى ما قبل نحو 200 عام، بعدما تلقى تهديدات وإنذارات بقصفه وتدميره.

وبحسب الدليل الأثري الذي أصدرته وزارة السياحة والآثار في قطاع غزة يونيو (حزيران) الماضي، يوجد في قطاع غزة 145 معلماً أثرياً، ويشمل المعالم الأثرية والشواهد العمرانية التاريخية.

دور عبادة

الدمار والقصف لم ينل فقط المراكز الثقافية والمسارح والمتاحف والمواقع الأثرية والتاريخية، بل وصل إلى عشرات المساجد كذلك، كمسجد "السيد هاشم" المدفون فيه جد الرسول الكريم هاشم بن عبد مناف، وجامع الشيخ زكريا في حي الدرج الذي تأسس في القرن الخامس الهجري، وجامع الشيخ عبدالله في حي التفاح الذي يضم قبر عبدالله الايبكي، أحد مماليك السلطان المملوكي، وأيضاً مسجد ابن عثمان الذي شيد في القرن الثامن الهجري، وجامع الشمعة في حي البخارين.

 

 

ولم تسلم كنيسة القديس برفيريوس الأرثوذكسية الشرقية في حي الزيتون من التعرض لدمار جزئي، وهي التي تنبع أهميتها من مكانتها الدينية العالمية، وكونها في طريقها للترشح على لائحة التراث العالمي.

وطالبت الباحثة في التراث الفلسطيني منى أبو حمدية "بتشكيل لجنة علمية عاجلة فور انتهاء الحرب للعمل على تحديد الأخطار التي ألمت بالمواقع الأثرية والتاريخية في قطاع غزة". وأضافت "لا بد من خطة لإنقاذ ما تبقى من الآثار في غزة وترميمها بدعوة متخصصين وخبراء من شتى أنحاء العالم".

مخاوف جدية

يخشى مراقبون من تدمير دير القديس هيلاريون، جنوب مدينة غزة، الذي يمتد عمره لأربعة قرون من أواخر الإمبراطورية الرومانية إلى العصر الأموي، ويحتوي الموقع على خمس كنائس متتالية وحمامات ومجمعات مقدسة وفسيفساء هندسية معقدة وسرداب واسع.

ووفقاً لموقع "ميل أونلاين"، قال جان باتيست هامبرت، عالم الآثار الفرنسي الذي عمل في فلسطين لعقود، إنه "مستعد للتعامل مع التدمير الكامل للتراث الثقافي في غزة"، مضيفاً أن الظروف في فلسطين "أدت إلى خسارة لا مفر منها للتراث الثقافي للمنطقة".

وقال متحدث باسم اليونيسكو للموقع، إن الهيئة لديها بالفعل "مخاوف جدية للغاية" في شأن الحفاظ على عديد من المواقع التاريخية في غزة، كما تشعر بقلق عميق إزاء التأثير السلبي الذي يمكن أن يحدثه هذا الصراع على التراث الثقافي في المنطقة.

يذكر أن مئات المخطوطات والكتب والرسائل النادرة والنفيسة التي جمعتها مؤسسة "عيون على التراث" من مكتبات علماء ومؤرخين ومفكرين من أعلام غزة على مر العصور، لإنقاذها من الضياع والاندثار، باتت مجهولة المصير ومهددة بالاحتراق والتلف نتيجة القصف العنيف بالقرب من مقر المؤسسة، وهي التي باشرت قبل سنوات قليلة، باستخدام تكنولوجيا المسح الضوئي عالية الدقة وبرامج الأرشفة الرقمية، لضمان عدم فقدانها بسبب الحروب.

المزيد من متابعات