ملخص
القوة ليست بالضرورة الحل المناسب للإرهاب الذي قد يستدرج استخدامها ضده في بعض الأحيان. وجربت الهند أساليب اخرى ناجعة في مواجهته ولعلها تفيد في تجربة إسرائيل معه
بعد الهجوم الإرهابي المروع الذي شنته "حماس" على إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، بدا من المحتم أن تل أبيب ستنتقم بطريقة مدمرة، إذ يتجسد أول رد فعل طبيعي على مثل هذا الهجوم بالاشمئزاز المصحوب بالرغبة في الانتقام والعقاب. وقد تصرف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بناءً على هذه الرغبة، فتعهد تدمير حركة "حماس"، وقصف قطاع غزة، وشن غزواً برياً، على رغم أنه لا يزال من غير الواضح كيف ستتوصل إسرائيل إلى القضاء على "حماس" عسكرياً أو أيديولوجياً.
لكن، يشكل قرار مواجهة العنف بالعنف مسألة خيار. وفي الواقع، بعض ضحايا الإرهاب لا يختارون الانتقام. في 26 نوفمبر 2008، وصل 10 إرهابيين باكستانيين خلسة إلى مومباي من طريق البحر. وارتكبوا مذبحة على مدار اليومين التاليين من خلال شن هجمات على الفنادق والمقاهي ومحطة قطار رئيسة ومركز اجتماعي، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 174 شخصاً وإصابة أكثر من 300 آخرين. وسرعان ما أدركت السلطات الهندية أن الإرهابيين جاءوا من باكستان، ويحظون بدعم المؤسسة الأمنية في ذلك البلد. في ذلك الوقت، كنت أتولى منصب وزير الخارجية في الحكومة الهندية. وتمثل رد فعلي الأول بالضغط من أجل اتخاذ إجراءات انتقامية قوية ضد جارتنا بسبب ذلك الهجوم الوقح.
وفي المقابل، بعد المداولات المتأنية التي درست وتناولت النتائج المحتملة والتأثيرات الأوسع نطاقاً المترتبة على مختلف المسارات التي يمكن اتباعها، اختارت حكومة رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ في نهاية المطاف عدم توجيه ضربة عسكرية مباشرة وعلنية إلى المعسكرات الإرهابية في باكستان. وعوضاً عن ذلك، ردت نيودلهي على الفظائع الإرهابية التي وقعت في مومباي من خلال القنوات الدبلوماسية والسرية. وفي العلن، اختارت البلاد ضبط النفس، لا الانتقام. شكل هذا القرار سبباً في حصول الهند على الدعم الدولي، وكذلك فقد منع نشوب حرب كارثية محتملة وقلل من الخسائر في صفوف المدنيين، ولعله حال دون وقوع مزيد من الأعمال الإرهابية. وحتى الآن في الأقل، لم تشهد الهند أي هجوم آخر مدعوم من باكستان أسفر عن سقوط أعداد كبيرة من الضحايا على الأراضي الهندية.
لا شك في أن الهند وإسرائيل دولتان مختلفتان تماماً. ولا يمكن مقارنة الوضع في باكستان بما يحصل في غزة. وهناك سياقات مختلفة تحدد رد فعل الدولة على هجوم إرهابي. في ظروف مغايرة في عامي 2016 و2019، حينما واجهت الهند حوادث إرهابية عبر الحدود، اختارت الانتقام عسكرياً ضد أهداف محددة بوضوح في باكستان. في المقابل، تشكل التجربة الهندية [بالتزام ضبط النفس] تذكيراً صارخاً بالحدود والقيود المرتبطة بالتعامل مع الإرهاب بوصفه مسألة عسكرية بحتة تتطلب رداً عسكرياً. وفي هذا وقت تدمر فيه إسرائيل أجزاءً من قطاع غزة وتمحقها محقاً، ناثرة بذور الكراهية في المستقبل، من المفيد أن ننظر في الجوانب الإيجابية المترتبة على تجنب الرد على العنف الإرهابي بأفعال تنطوي على مزيد من العنف.
الساموراي الغاضب
أعاد مؤلف ومحلل الأساطير الأميركي جوزيف كامبل سرد حكاية شعبية يابانية تروي قصة ساموراي صمم على الانتقام لسيده المقتول. وبعد مطاردة القاتل والعثور عليه، وفيما استعد الساموراي لقطع رأس المجرم، بصق هذا الأخير في وجهه، فما كان من الساموراي إلا أن أغمد سيفه على الفور وغادر. لقد تعلم من سيده ألا يقدم على أية خطوة بدافع الغضب الأعمى، وأن العقاب يتطلب استجابة ترتكز على الموضوعية والعدل. إذاً، تسلط حكاية كامبل الضوء على ضبط النفس باعتباره رد فعل محتملاً على الإرهاب. [ولد كامبل في 1904 وتوفي في 1987. ووضع نظرية مفادها أن كافة أساطير البشر متشابهة في سردياتها، فكأنه وجه بألف قناع].
بعد الهجوم الإرهابي على مومباي في عام 2008، رأت الهند إنه من غير المرجح حل مشكلة الإرهاب الآتي عبر الحدود مع باكستان. وبالأحرى، فمن شأن تلك الضربة أن تنحرف بالتعاطف الدولي بعيداً من الضحايا الهنود الذين استهدفهم الإرهاب، مما يوحي بأن تلك القضية عبارة عن خلاف صغير بين الهند وباكستان اعتبرت فيه الدولتان متكافئتين. كذلك، من شأن تلك الضربة أن تمنح الإرهابيين ورعاتهم بالضبط ما تأملوا أن يسفر الهجوم عنه من غضب وانقسام، وحتى الحرب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لذا، بدا أن ضبط النفس يجسد الخيار الأقل سوءاً بين الخيارات المتاحة للهند. ونتيجة لذلك، أفلت من العقاب عدد من رعاة الهجوم الرفيعي المستوى في الجيش الباكستاني، وضمن قيادة فصيل "العسكر الطيبة"، الجماعة المسلحة المناهضة للهند التي تتحمل المسؤولية عن أعمال العنف. من المؤكد أن الهند ليست قوة مسالمة، وفي حالات أخرى لجأت إلى القوة في ردها على العنف الإرهابي. وبالاسترجاع، حينما هاجم إرهابيون مدعومين من باكستان معسكراً للجيش الهندي في "أوري" عام 2016 وقافلة أمنية في "ليثبورا" عام 2019، اختارت الهند الانتقام عسكرياً عبر خط المراقبة الحدودية ["خط السيطرة الفعلية"، وهو خط ترسيم افتراضي يفصل الأراضي التي يسيطر عليها كل من البلدين]. وقد ضربت منصات إطلاق الإرهابيين وقواعدهم. ولم يكن لأي من العملين الانتقاميين تأثير كبير في إخماد الإرهاب عبر الحدود أو القضاء على الجهات التي حرضت عليه ونظمته.
عقب الأعمال الوحشية الإرهابية التي وقعت في مومباي، اختارت الهند ضبط النفس، لا الانتقام
في غالب الأحيان، يتمثل هدف العنف الإرهابي بزعزعة استقرار دولة أكثر قوة والتحريض على إراقة الدماء. يقدم لنا التاريخ أمثلة تحذيرية عن نجاح الإرهابيين في استدراج الدول القوية لارتكاب أخطاء استراتيجية فادحة. إذ أدى رد الفعل النمسوي المجري إزاء مقتل الأرشيدوق فرانز فرديناند إلى الحرب العالمية الأولى ونهاية إمبراطورية آل هابسبورغ. وبعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، اختارت الولايات المتحدة شن حرب عالمية على الإرهاب لا يمكن الفوز بها، وأطلقت غزوات وتورطت في صراعات في أفغانستان والعراق. ونتيجة لذلك، من المستطاع الإشارة إلى أن حالة الدولتين المذكورتين والمنطقة ككل أصبحت في نهاية المطاف أسوأ مما كانت عليه في البداية. لقد ولدت الحرب على الإرهاب جماعات إرهابية أكثر فتكاً، كـ"تنظيم الدولة الإسلامية"، وادت حصيلة القتلى المرتفعة من المدنيين والانتهاكات التي ارتكبها الجيش الأميركي إلى تشويه سمعة الولايات المتحدة.
في الواقع، إن الطريقة التي تقرر الحكومة استخدامها في الرد على الإرهاب غالباً ما تكون معقدة بسبب عوامل سياسية داخلية ورغبة عامة الناس في الانتقام. ويميل القادة الذين يفتخرون بقوتهم أو مؤهلاتهم القومية إلى اختيار الرد بالقوة، بيد أن تصحيح الخطأ بخطأ آخر لا يجعل من ذلك صواباً. ولا يظهر التاريخ تأييداً لأولئك الذين يستسلمون لعواطفهم ويعتمدون على الوسائل العسكرية في مواجهة التهديد الإرهابي.
لقد أدت الأفعال التي ارتكبتها إسرائيل في حق المدنيين في غزة والعنف المستمر في الضفة الغربية إلى تراجع تعاطف المجتمع الدولي مع تل أبيب. والأرجح أن الاعتماد حصراً على رد عسكري "صارم"، عوضاً عن اتخاذ مجموعة من التدابير العسكرية والسرية والسياسية المصممة لمواجهة تلك الحالة، لن يحقق هدف إسرائيل المتمثل في القضاء على "حماس". وتشير التجارب السابقة إلى أن غالب الاستجابات العسكرية الضخمة رداً على الهجمات الإرهابية أدت إلى حروب طويلة، وعواقب غير مقصودة، وتصعيد في التهديد الإرهابي. وفي هذا السياق، كثيراً ما يشار إلى نجاح الحكومة السريلانكية في القضاء على تنظيم "نمور التاميل" الانفصاليين كقوة عسكرية في عام 2009 باعتباره مثلاً على الاستخدام الفعال للقوة ضد جماعة إرهابية، لكن هذا النصر الذي حققته الحكومة ظاهرياً أدى إلى نزوح مئات الآلاف من الأشخاص، وفشل في حل التوترات العرقية، وشوه العمليات الديمقراطية في البلاد، ولا تزال هذه المشكلات مستمرة حتى يومنا هذا.
من ثم، يأتي رد الفعل العسكري المبالغ فيه بمثابة دائرة الضوء التي يسعى الإرهابيون إلى وضع أنفسهم فيها، إذ يساعد على الترويج لادعاءات الجماعة الإرهابية بأنها تمثل السكان المحرومين. والحقيقة أن أحد دوافع "حماس" وراء تنفيذ هجمات السابع من أكتوبر ربما تمثل بإيجاد ظروف تدفع الفلسطينيين الذين لم تؤيد غالبيتهم حركة "حماس" سابقاً، إلى أحضان الحركة نتيجة الإجراءات العقابية التي اتخذتها إسرائيل.
القوة غير كافية
إن الإرهاب سياسي في دوافعه وأهدافه ويجب التعامل معه على هذا الأساس. ويتوافق الرد العنيف للغاية مع النهج الذي اتبعته إسرائيل في مواجهة الأعمال الإرهابية طوال عقود من الزمن، المتمثل في استراتيجية تطلق عليها تل أبيب تسمية "جز العشب"، وتتمظهر في حملات عقابية دورية تقمع النشاط الإرهابي، لكنها لا تقضي عليه. وقد أعلن الباحث والاستراتيجي العسكري الإسرائيلي إيتان شامير، أحد مؤلفي تلك العبارة، أن ذلك التكتيك لم يعد كافياً. ويرى أن الردع الإسرائيلي قد فشل، ولا يمكن للبلاد البقاء إلا إذا استأصلت "حماس" من غزة. وليس من الواضح كيف يمكن تحقيق ذلك الهدف من دون التسبب في وقوع إصابات ومعاناة واسعة النطاق في صفوف المدنيين في غزة.
ويذكر أن تجاهل حقوق الفلسطينيين ورغبتهم في إقامة دولة لهم يشكل على وجه التحديد السبب الذي أوصل المنطقة إلى وضعها المؤسف الحالي. ومن المرجح أن القصف الإسرائيلي والهجمات الصاروخية ونيران الدبابات ستدفع سكان غزة نحو تأييد "حماس" والجماعات المسلحة الأخرى.
واستطراداً، لم يشكل هجوم "حماس" تحدياً سياسياً بالنسبة إلى إسرائيل وحدها. في الواقع، أصبح من الممكن الآن اتهام الغرب بازدواجية المعايير والنفاق في موقفه إزاء الاحتلال الأجنبي والهجمات على المدنيين في أوكرانيا وفلسطين. كذلك يرى كثر في الجنوب العالمي وبعض ممن هم في الشمال العالمي، إن إحجام القوى الغربية عن ممارسة الضغط من أجل وقف إطلاق النار أو التصدي للهجمات الإسرائيلية على المدنيين، يجعل التزام الغرب العلني بقوانين الحرب والاعتبارات الإنسانية أمراً مثيراً للسخرية.
تثبت تجربة إسرائيل نفسها أن القمع وحده لا يقضي على التهديد الإرهابي
لا يمكن إيجاد خطوات مقبلة تقضي فعلياً على "حماس" في شكلها الرافض والعدمي الحالي إلا من خلال التعامل مع الإرهاب سياسياً، أي عزل الإرهابيين عن السكان الذين يزعمون أنهم يمثلونهم، إضافة إلى تقديم بديل أفضل. وتثبت تجربة إسرائيل نفسها أن القمع وحده لا يقضي على التهديد الإرهابي. ويعد استخدام القوة على نحو مراقب ومضبوط مفيداً، لا بل ضرورياً، من أجل إفساح مجال للسياسة كي تعمل وتكون فاعلة. وإذا جسد السلام الهدف النهائي المنشود، فإن ضبط النفس يفتح المجال للتواصل والتفاوض، في حين أن الرد العسكري المحض على الإرهاب من شأنه أن يضعف أولئك الذين يعتبرون السلام هدفهم الحقيقي.
وبطبيعة الحال، تصبح الحسابات أكثر تعقيداً حينما يكون الإرهابي مدعوماً من دولة أو دول عدة. وفي مثل تلك الحالات، فإن الفائدة المحدودة أصلاً من استخدام قوة هائلة ضد الجهات الفاعلة غير الحكومية، تتضاءل أكثر بسبب الحصانة ضد العقاب] التي تقدمها حماية الدولة لتلك الجهات. لذا، يتعين على الحكومة أن تعمل على صياغة رد فاعل، عسكرياً وسياسياً، على الدول الراعية للإرهاب. في الواقع، تتمتع الهند بخبرة كبيرة في التعامل مع الإرهاب الذي ترعاه الدولة. وقد تمكنت بشكل عام من احتواء تلك المشكلة من خلال مجموعة من الوسائل العسكرية والسياسية والاجتماعية وغيرها من الوسائل داخل الهند وخارجها.
وبالطبع، إن كل هذه التدابير لا توفر لأي بلد حماية مطلقة من الهجمات الإرهابية. وتشير التجارب السابقة إلى أنه لا وجود لرد مثالي محدد في وجه الإرهاب، بل هناك استجابات أقل إيلاماً وأكثر فاعلية. وثمة قناعة راسخة بين الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء بأن إحساسهم بأنهم ضحايا يبرر اتخاذهم تدابير متطرفة وغير إنسانية، ويشعر بقية دول العالم بأنها مضطرة إلى اختيار أحد الجانبين. ويبدو أن أصوات الذين يطالبون بالانتقام والعقاب واستخدام القوة العشوائية قد طغت على أصوات أولئك الذين يسعون إلى تحقيق نتائج سلمية بالوسائل السياسية. وفي المقابل، إذا كان ثمة درس يمكن استخلاصه، فإنه يتمثل في حاجة الحكومات إلى إدراك حدود استخدام أسلوب القمع والقوة، وأن اختيار ذلك الأسلوب وحده لن يؤدي إلا إلى مزيد من المآسي.
* شيفشانكار مينون أستاذ زائر لمادة العلاقات الدولية في جامعة أشوكا. بين عامي 2010 و2014 شغل منصب مستشار الأمن القومي لرئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ. ووضع كتابين هما "الاختيارات، داخل صناعة السياسة الخارجية الهندية" و"الهند والجغرافيا السياسية الآسيوية، الماضي والحاضر".