ملخص
من بين ما شجع الخزانة على تلك التخفيضات الضرائبية أنها لن تكون مضطرة لزيادة الاقتراض الحكومي بل ستمول العجز بتقييد الإنفاق العام
لم يعلن وزير الخزانة البريطاني جيريمي هانت في بيان موازنة الخريف أمام البرلمان أمس الأربعاء ما كان متوقعاً من خفض أو إلغاء ضريبة التركات التي تمس كل أسرة في بريطانيا، لكنه أعلن في الوقت نفسه عن أكبر خفض للضرائب في 35 عاماً. مع ذلك، يرى أغلب المحللين حتى من المؤسسات البحثية القريبة من حزب المحافظين الحاكم أن الوضع النهائي بعد موازنة الخريف هو زيادة في حصيلة الضرائب للخزانة.
ليس هذا فحسب، بل إن خفض الضرائب في شكل تقليص نسبة مدفوعات التأمينات الاجتماعية من 12 في المئة إلى 10 في المئة وتمديد تجميد الضريبة على الأعمال سيتم تمويله من تقليص الإعانات الاجتماعية مثل مدفوعات إعانة البطالة وعلاوة الأطفال وغيرها، بالتالي يبدو ما أعلنه هانت كأنه "يأخذ بالشمال ما أعطى باليمين".
في النهاية أرادت حكومة المحافظين برئاسة ريشي سوناك، الذي كان وزيراً للخزانة في حكومة بوريس جونسون، أن تبعث برسالتين، أنها تدير الاقتصاد بشكل جيد ما سمح لها بالالتزام بسياسة المحافظين التقليدية في خفض الضرائب لتشجيع النمو الاقتصادي، وأيضاً محاولة تحسين شعبية الحزب المتدهورة قبل الانتخابات العامة المتوقعة العام المقبل.
تزيد كلفة التخفيضات الضريبية التي تضمنتها الموازنة على 20 مليار جنيه استرليني (25 مليار دولار)، إضافة إلى زيادة الأجور ومعاشات التقاعد التي أعلن عنها قبل يوم من بيان جيريمي هانت وتضمنتها الموازنة.
الانعكاس على حياة الناس
سيشعر العاملون وأصحاب العمل بخفض أقساط التأمينات وإلغاء شريحة من شرائح التأمينات الاجتماعية مع مطلع يناير (كانون الثاني) المقبل، فأقساط التأمينات يدفعها مناصفة العاملون وأصحاب العمل، وكما قال وزير الخزانة فإن 27 مليون بريطاني سيستفيدون من الخفض الذي يكلف الخزانة 10 مليارات جنيه (12.5 مليار دولار).
بالطبع، يحق لوزير الخزانة هانت ورئيسه سوناك التحمس لتحسين المالية العامة التي أتاحت للحكومة تقديم هذه "الرشوة الانتخابية"، فتراجع نمو التضخم إلى نسبة 4.6 في المئة لشهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي يقلل من مخاوف أن تؤدي زيادة الأجور وخفض الضرائب إلى زيادة الضغوط التضخمية، وإن كان محافظ بنك إنجلترا (المركزي البريطاني) أندرو بايلي حذر النواب قبل إعلان بيان الموازنة بيوم من أن معدلات التضخم ما زالت عالية وتزيد على ضعف المستهدف من قبل البنك عند نسبة اثنين في المئة.
معنى ذلك أن أسعار الفائدة في بريطانيا ستظل مرتفعة فوق نسبة خمسة في المئة لفترة مقبلة، ولن يبدأ البنك في خفضها قريباً، بل إن هناك من يتوقع أن يضطر البنك المركزي إلى رفع سعر الفائدة مرة واحدة أخرى إذا لم يواصل معدل التضخم التباطؤ، وسيشكل ذلك ضغطاً على النمو الاقتصادي بل وربما يعيد مخاوف الركود من جديد.
من بين ما شجع الخزانة أيضاً على تلك التخفيضات الضرائبية أنها لن تكون مضطرة لزيادة الاقتراض الحكومي بقوة، بل ستمول ذلك العجز من تقييد الإنفاق العام، إذ تضمن بيان الموازنة الإبقاء على إنفاق الوزارات والإدارات والمؤسسات العامة من دون زيادة ولا حتى بمعدل أقل من معدل التضخم، ويعني ذلك مزيداً من التدهور في الخدمات العامة التي لن تجعل مستوى المعيشة أفضل على أي حال.
الضرائب والدين
من العوامل الأخرى التي تساعد الخزانة في تدبير الانضباط المالي تلك التعديلات التي أدخلتها الحكومة على طريقة حساب نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي والتي أصبحت تتطلب فقط انخفاض تلك النسبة في العام الأخير من الأعوام الخمس للموازنة، بالتالي، بحسب تقديرات تقرير مكتب مسؤولية الموازنة الذي صدر عقب بيان وزير الخزانة، فإن الحكومة يظل لديها حرية التصرف في حدود 13 مليار جنيه (16.3 مليار دولار) بنهاية فترة الموازنة عام 2028.
الحيلة الأكبر في بيان الموازنة كانت تجميد سقف شرائح ضريبة الدخل وعدم رفع ذلك السقف ولا حتى بأقل من المعدلات السنوية التقليدية، ويعني ذلك دخول المزيد من دافعي الضرائب في تلك الشرائح ومن ثم زيادة حصيلة الخزانة العامة من الضرائب. ويقدر مكتب مسؤولية الموازنة أن عائدات الخزانة من تحصيل الضرائب ستزيد على ضعف التخفيضات المعلنة في بيان جيريمي هانت.
يقدر تقرير المكتب أن حصيلة الضرائب للخزانة العامة حتى عام 2028 ستزيد بمقدار 44.6 مليار جنيه (56 مليار دولار) نتيجة تجميد الشرائح الضريبية، وتلك زيادة بمقدار 15 مليار جنيه (19 مليار دولار) عن تقديرات الحصيلة الضريبية السابقة في مارس (آذار) الماضي. وسيزيد عدد البريطانيين الذين يدفعون ضريبة في ظل شريحة الـ20 في المئة بحوالى أربعة ملايين شخص، وسيزيد عدد من يدفعون ضرائب ضمن شريحة الـ40 في المئة بحوالى ثلاثة ملايين شخص، مع أقل من نصف مليون شخص سيدخلون في الشريحة الضرائبية الأعلى عند نسبة 45 في المئة.
ربما هذا ما جعل المعارضة السياسية في انتقادها لبيان الموازنة تتهم جيريمي هانت ورئيس الحكومة ريشي سوناك بأنهما طرحا موازنة لمصلحة الأغنياء وليس الفقراء ومحدودو الدخل، وفي ذلك إشارة أيضاً إلى ما تضمنته الموازنة من إعفاء الأعمال من زيادة الضريبة التي توفر للشركات 11 مليار جنيه (13.8 مليار دولار) في فترة الموازنة.
النمو والانتخابات
تتباين الآراء في شأن ما إذا كانت الموازنة التي أعلنها هانت والموازنة التالية التي سيعلن عنها قبل نهاية العام المالي في أبريل (نيسان) المقبل، أي على الأغلب في مارس (آذار) 2024 ستكون إغراءً كافياً للناخبين لاستعادة ثقتهم في الحزب الحاكم، وربما يطرح وزير الخزانة مزيداً من خفض الضرائب في بيان موازنة الربيع.
يذكر أن حزب المحافظين تراجع في استطلاعات الرأي عن حزب العمال المعارض بنحو 20 نقطة، وذلك ما يجعل كثيراً من نواب الحزب في البرلمان يخشون من فقدان مقاعدهم إذا أجريت الانتخابات العامة في مايو (أيار) 2024.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا كان شعار وزير الخزانة جيريمي هانت هو "موازنة من أجل إنعاش النمو الاقتصادي" فإن ذلك أيضاً لا يبدو أمراً مؤكداً، وصحيح أن مكتب مسؤولية الموازنة رفع تقديراته للنمو الاقتصادي هذا العام إلى 0.7 في المئة، إلا أن بنك إنجلترا ما زال يقدر النمو بحدود الصفر تقريباً، لكن حتى تقرير المكتب يرى أن الاقتصاد البريطاني سيظل يفتقر إلى النمو في الأعوام الثلاثة المقبلة.
أما بالنسبة لانعكاس كل ذلك على حياة الناس، فلا يبدو أنه يحسن كثيراً من فرص حزب المحافظين الانتخابية، فالأسعار ما زالت مرتفعة وكلفة المعيشة لا تتوقف عن الزيادة، ولعل آخر ذلك ما أعلنته هيئة تنظيم سوق الطاقة للمستهلكين (أوفجيم) اليوم الخميس، من رفع سقف فاتورة الغاز والكهرباء بمقدار 94 جنيهاً (118 دولاراً)، وذلك بالأساس هو ما يصوت على أساسه الناخبون.