في روايته الثالثة بعد "المهزلة " و"رجل واحد لأكثر من موت"، يتابع الكاتب الفلسطيني الشاب محمد جبعيتي (26 سنة)، بناء عوالمه "الموازية" بل الفانتازية استناداً إلى سيرته أو بعض من سيرة متخيّلة لشاب مثله، مقيم في الأراضي الفلسطينية التي تسمّى أراضي الحكم الذاتي، وتدعى الرواية الثالثة التي نحن بصددها "غاسل الصحون يقرأ شوبنهاور" والصادرة حديثاً عن دار الآداب (2019).
يفتتح الكاتب روايته بالمشهد الأول - إذ الرواية مؤلفة من 24 مشهداً – بإشارة زمنية واقعية (صيف 2017) للإحالة على زمن الشخصية أو الراوي الحقيقي، وقد اصطلح على تسميته "نوح"، وأضاف إليها، في المقطع الأول من المشهد الأول، عبارة "إنها لعنة اللغة "(ص:9) ربما للإيحاء بأنّ مصير الشخصية الرئيسة التي يتولّى الراوي سرد سيرتها، أو جزء من سيرتها الذاتية، سوف يؤول إلى مأساة أكيدة لأسباب تتصل بانشغال الراوي بالأدب ومتابعة دراساته الجامعية (في جامعة بيرزيت).
إذاً، يتركّز الإطار المكاني للرواية ذات الطابع السيري العام، في حيّز واقعي يقع بين مدينتين أو ثلاث وهي رام الله وبيرزيت وسلفيت، وفي إطار زمني واقعي يمتد من العام 2013، عام بلوغ الراوي نوح التاسعة عشرة وانتقاله من مدرسة القرية سلفيت إلى الجامعة في بيرزيت، وانصرافه إلى حياة التسكّع في مدينة رام الله لا يغادر أياً منها، إلا وقد اختطف حبيبته دينا من بيتها وتواريا عن أنظار عائلتها لأربعين يوماً.
سيرة شاب فلسطيني
إذاً، تحكي الرواية سيرة شاب فلسطيني من مواليد سلفيت، وقد بلغ التاسعة عشرة، فمضى الى مدينة بيرزيت ليتابع دراسته الجامعية فيها، وراح يتنقل فيها من مبيت إلى آخر، ومن سكن جامعي إلى آخر، مطروداً ومهاناً حيناً ومرحّباً به ومحاطاً حيناً آخر، إلى أن أودعته المغامرات والتسكّع في حضن فتاة أحبّته وارتضت خوض آخر مغامراته التي قد تفضي بهما إلى الموت -على يد أهل خطيبته الذين هددوه بالقتل – أو يستكملان تسكّعهما في "فلسطين حلبة الصراع" (ص:250). أما الحبكة الرئيسة ولئن كانت غير ظاهرة للعيان، بخلاف ما هي عليه الروايات التقليدية، فقد استعاض الروائي عنها بسلسلة من الأحداث التي تكفل رسم مسار البطل السلبي (نوح) الميلودرامي، هي مجموع المغامرات والصراعات التي يخوضها، أولاها العمل اليدوي (حمّالاً، ونادلاً) من أجل أن يبقى على قيد الحياة فحسب، وثانيها تحدّي حصوله على "التميز الأكاديمي" (ص:84) وكتابته المقالات الكبرى في الصحف والمجلات وهو لا يزال على مقاعد الدراسة الجامعية، وثالثها الحصول على ركن دافئ في إحدى المدن الثلاث التي هي مسرح لتسكّعه إلى جانب صديقته دينا والتي نجح في استمالتها إليه بعد سلسلة من الخيبات العاطفية، ورابعها محاكاة النضال الفلسطيني الجارية فعالياته، في الضفة الغربية، وإن يكن قد تخيّله نوح وصنع له إطاره ومناخاته وشخصياته وآراءه السياسية في السلطة والجاسوسية والفساد وغيرها.
بيد أنّ نجاح الروائي محمد جبعيتي في روايته الثالثة "غاسل صحون يقرأ شوبنهاور" واكتسابها معقولية ومقروئية ذات سيرورة واسعة، في الأمد القريب، خصائص عديدة يمكن إجمالها في الآتي:
أولاً، صدور الروائي الفلسطيني الشاب محمد جبعيتي عن ثقافة وافية ومطّردة، تتيح له بناء رؤية خاصة يختار على أساسها شخصيات روايته؛ فهم بمجملهم هامشيون بدءاً من الشخصية الرئيسة نوح، ومروراً بمحمود، وحنا من بيرزيت، وعطيّة البلا ظلّ، وسالم الديك، وانتهاء بمن جاء لتنفيذ الحكم في نوح بعد تسعة وثلاثين يوماً من خطفه أختهما دينا. وبالمقابل، قد لا يكون من قبيل الصدفة أن تكون الشخصيات الأنثوية في الرواية ذوات شكيمة وقرار وقدرة جسمانية تكفل لهنّ حماية رجالهنّ المغلوبين على أمرهم والمنبوذين من المدينة، والسلطة، وذوي المال على ما وصفنا.
ثانياً، سعي الروائي إلى بناء مشاهده الأربعة والعشرين وفقاً لمناخ الحياة الهامشية، من دون العناية المفرطة بتأثيث المكان بما يستدلّ به على الواقع الذي يحيل الكاتب عليه، عنيتُ الواقع الفلسطيني في مدن الضفة الغربية، مثل رام الله وبيرزيت، أي بالحدّ الأدنى الذي يستأهل أن يكون إطاراً لتسكّع الراوي نوح وصحبه. وبهذا المعنى، تبدو كاميرة الروائي داخلية تُعنى بتصوير الغرف والمقاهي والمنازل والسوبر ماركات، وغيرها، وما يتيح لها أن تصف أيضاً هيئات الشخصيات وسحناتهم ولباسهم وسلوكهم وانخراطهم في دُرجات (موضة) القرن الواحد والعشرين، أو تصف منغرسين في بيئتهم للريفية بأدق تفاصيلها.
ثالثاً، إصرار الروائي على توشيح روايته، ولا سيما المشاهد الأخيرة منها بأجواء خرافية أو خارقة من مثل هبوط نساء أجنبيات من السماء واختلاطهنّ بالرجال، ثمّ تساقط أرتال من الغربان السوداء ميتة وملئها الشوارع والساحات، بحيث استلزم تشغيل عمال البلدية لرفعها عن الأماكن العامة. ولا يخفى أن الروائي قصد من هذه المشاهد الغرائبية الفانتازية أن يوحي بأنّ روايته تستطيع أن تعوّض ما فاتها في اتساق الحبكة القصصية بنقاط تخييلية لافتة ومضيئة في آن، وتلقي بظلالها القاتمة على مصائر الشخصيات، في نوع من الإحالة على الواقع الفلسطيني الموصوف، وبما يغلّب النزعة السوداوية الكافكاوية على ما عداها، وذلك على الرغم من التوشيحة التهكمية والميلودية التي يريد بها تطفيف المآل الدرامي الذي يتوقعه القارئ العربي المتابع تفاصيل الواقع الفلسطيني.
رابعاً، لغة الروائي الفلسطيني الشاب البليغة والسليمة على امتداد الرواية -وهذا لعمري من الأمور الجديرة بالتنويه نظراً لحال اللغة العربية لدى أجيالنا- تتيح له حسن التصرف بمضامين أساليب الوصف والسرد والحوار والتعليق الدالّ على موقف ناضج من القضايا، وعلى شكل ضربات أو لطخات في لوحة المشاهد التي يجهد في رسمها، من دون أن يغفل إحكام ربط كل ذلك بحبل السيرة الذاتية الذي مدّه لنا الراوي "نوح" من البداية حتى النهاية.
أياً يكن فإنّ رواية "غاسل الصحون يقرأ شوبنهاور" لن يسأل الكاتب أين تجلّى تأثره بالفيلسوف الألماني المتشائم من أخلاق الإنسان والناظر في إرادة الطبيعة من دون أدلّة مادية ومنطقية دامغة، ولن يسأل أيضاً عن إشارات مبثوثة في الكتاب دالة على تثاقف متنام لدى الكاتب. بحسبه أنه ارتضى الدخول في متاهات الصراع بين الثقافة والواقع، وبين النضال للحياة وللمصالح والشعارات .