ملخص
تدخل تونس عام 2024، بلا آفاق واعدة اقتصادياً واجتماعياً، في ظل ركود نتج منه تفاقم للبطالة وارتفاع معدلات التضخم وغلاء الأسعار وسط تدهور القدرة الشرائية للتونسيين
لم تكن 2023 في تونس، مختلفة عن سابقاتها، حيث تعمقت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، في ظل ركود اقتصادي غير مسبوق، ومنذ تفشي وباء كورونا، لم تتحسن مؤشرات النمو، كما شهد الوضع السياسي في البلاد تدهوراً لافتاً بتنامي الملاحقات القضائية لعدد من السياسيين والنقابيين ورجال الأعمال، فضلاً عن استفحال أزمة المهاجرين غير النظاميين الذين تدفقوا على تونس، بخاصة أمام تأزم الوضع الأمني في أفريقيا جنوب الصحراء.
وتعتبر هذه السنة، الثانية في المسار السياسي الجديد الذي دخلته البلاد إثر الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها رئيس الجمهورية قيس سعيد، وقطع وفقها مع منظومة سياسية حكمت البلاد لمدة عشر سنوات كاملة.
إيقافات تطاول سياسيين ورجال أعمال
تنفيذاً لوعود الرئيس، بمحاسبة كل من أجرم في حق التونسيين طيلة العشرية الأخيرة مرت السلطة إلى السرعة القصوى في حملة الاعتقالات التي طاولت سياسيين من عائلات فكرية وحزبية مختلفة، ووجوهاً نقابية وإعلامية ورجال أعمال، ما أثار جدلاً داخلياً وخارجياً حول أهداف هذه الحملة، بين من يراها تصفية حسابات سياسية، ومن يرى أنها تندرج في سياق ما وعد به سعيد، من محاسبة كل من أجرم من المنظومة الحاكمة السابقة، وكل من تورط في نهب المال العام.
وسبقت تلك الإيقافات تصريحات متتالية لرئيس الجمهورية، عند لقاءاته بوزيرة العدل ليلى جفال، داعياً فيها إلى "التسريع في محاسبة من ارتكب جرماً في حق الشعب التونسي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وطاولت الإيقافات كمال اللطيف، رجل الأعمال المعروف بنفوذه السياسي طيلة فترة ما قبل 2011، وما بعدها، ووجوهاً سياسية معروفة بمعارضتها لمسار 25 يوليو (تموز) 2021، على غرار الأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي، الذي أوقف في 25 فبراير (شباط) 2023، وزعيم حزب حركة النهضة، راشد الغنوشي، إلى جانب إيقاف الأمين العام السابق للتيار الديمقراطي، غازي الشواشي، والقيادي السابق في حركة النهضة عبدالحميد الجلاصي، والناشط السياسي، خيام التركي بتهمة التآمر على أمن الدولة.
كما شملت الاعتقالات القيادي في حركة النهضة، نور الدين البحيري، والوزير السابق والمحامي لزهر العكرمي، والناشطة السياسية شيماء عيسى، قبل أن يتم الإفراج عنهما.
وآخر الاعتقالات البارزة في تونس، كانت توقيف رئيسة الحزب الدستوري الحر، عبير موسي، وإصدار بطاقة إيداع بالسجن في حقها، بعد أن حاولت تقديم شكاية لمكتب الضبط في رئاسة الجمهورية.
مخاوف من ضرب الحريات
يصف الرئيس التونسي، الذي تتهمه المعارضة باعتماد "نهج استبدادي"، الموقوفين بأنهم "إرهابيون"، قائلاً إنهم متورطون في "مؤامرة ضد أمن الدولة".
ونددت إذاعة "موزاييك" الخاصة بإيقاف مديرها العام نور الدين بوطار، قبل أن يتم الإفراج عنه بكفالة، ودانت "عملية الترهيب الهادفة لضرب استقلالية الإذاعة وحرية العمل الصحافي"، وشددت على "تمسكها باستقلالية خطها التحريري"، بحسب بيان صدر عنها.
ولم تستثن الإيقافات قيادات من الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يعتبر أكبر منظمة نقابية وله وزن سياسي هام في البلاد. وأثارت تلك الاعتقالات تخوفات لدى عديد المتابعين من التضييق على الحقوق والحريات في بلد، لطالما كان يفاخر بأنه التجربة الديمقراطية الناشئة في محيطها الإقليمي.
ويقول الكاتب الصحافي والمحلل السياسي محمد صالح العبيدي إن "السلطة في تونس أمعنت في محاصرة المعارضة السياسية، إلا أن هذا النهج لن يستمر طويلاً، لأنه لا يخدم مصلحة تونس لا في الداخل ولا في الخارج، محذراً من التداعيات الوخيمة للانقسام السياسي الحاد الذي يشوب المشهد السياسي الراهن في البلاد".
وكرد فعل على تلك الاعتقالات، دان مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك ما وصفه بـ "تفاقم القمع في تونس، من خلال الإجراءات التي تتخذها السلطات الأمنية في مواصلة لضرب استقلالية القضاء".
وتتزامن حملة الاعتقالات مع سعي رئيس الجمهورية لتكريس مساره السياسي الذي يقوم على نظام رئاسي بصلاحيات واسعة ونظام انتخابي يقوم على الاقتراع على الأفراد بدل القوائم.
تأجيج الأوضاع الاجتماعية
وفي تعليقه على الحملة الواسعة للاعتقالات، بين رئيس الجمهورية، قيس سعيد، في مقطع فيديو نشرته الرئاسة، أن "عدداً من الموقوفين والمجرمين والمورطين في التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي وبالإثباتات، هم الذين يقفون وراء هذه الأزمات المتصلة بتوزيع السلع وبالترفيع في الأسعار"، والهدف من ذلك "تأجيج الأوضاع الاجتماعية.
ويرى الدبلوماسي السابق عبدالله العبيدي في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، أن "مشكلة المنظومة الحالية الحاكمة في تونس، لم تتحالف مع أي منظومة سياسية وبقيت من دون حزام سياسي يدافع عن خياراتها، داعياً إلى التسريع في البت في التهم الموجهة لعدد من الموقوفين السياسيين تفادياً لمزيد من تدهور صورة تونس في الخارج".
ويؤكد أن "البلدان التي أبدت تخوفها من تدهور الوضع الحقوقي في تونس إثر تلك الاعتقالات هي في الأصل تدافع عن مصالحها الاقتصادية، ولا تدافع عن مبادئ الديمقراطية والحرية والعدالة".
الهجرة غير النظامية ملف حارق
ويضيف العبيدي أن "رئيس الجمهورية دعا إلى معالجة أسباب الهجرة غير النظامية من خلال مقاربة تنموية، إلا أن الدول الأوروبية لم تتفاعل مع تلك المقاربة وتفضل المقاربة الأمنية في صد المهاجرين، ومنعهم من العبور إلى السواحل الأوروبية".
ويحذر عبدالله العبيدي من "تأزم الوضع السياسي الداخلي الذي ستكون له تداعيات خطيرة في علاقات تونس مع حلفائها في الخارج وهي التي تحتاج مزيداً من التمويل لتشجيع الاستثمار وتمويل الموازنة لتجاوز الصعوبات الاقتصادية التي تعيشها".
وخلص الدبلوماسي السابق إلى أن "الشغل الشاغل للدول الأوروبية هو التخوف من مزيد تدفق المهاجرين غير النظاميين، وهو الملف الحارق بالنسبة إلى أوروبا".
وصول 4200 قاصر إلى إيطاليا خلسة
معضلة الهجرة غير النظامية لا تؤرق الدول الأوروبية فحسب، بل تونس أيضاً التي عجزت عن مكافحة الظاهرة عبر الأدوات الأمنية المتمثلة في تأمين الحدود البرية والبحرية والتصدي للهجرة السرية.
وفي الفترة الممتدة بين 15 سبتمبر (أيلول)، و15 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أعلنت السلطات التونسية، في بيانات رسمية أنها "منعت 12 ألفاً و346 أجنبياً من جنسيات أفريقيا جنوب الصحراء، من التسلل إلى التراب التونسي وإلقاء القبض على 114 بين منظم ووسيط في ذلك".
وأضاف بيان صادر عن الإدارة العامة للحرس الوطني في تونس، أنه "تم في الفترة المذكورة، إحباط 668 عملية اجتياز للحدود البحرية، لـ 9850 مهاجراً غير نظامي، بينهم 6094 أجنبياً، و3486 تونسياً".
وأحصت وزارة الداخلية التونسية في 2023، "1293 بين ضحية ومفقود، بينما بلغ عدد التونسيين الواصلين إلى إيطاليا بطريقة غير نظامية، حوالى 16 ألف خلال السنة ذاتها، كما منع 75923 عملية اجتياز للحدود البحرية تجاه السواحل الإيطالية، فيما وصل إلى إيطاليا 4200 قاصر خلال 2023".
ويعتقد الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحريات الاقتصادية والاجتماعية، رمضان بن عمر، أنه "على رغم الضغوط السياسية التي يمارسها الاتحاد الأوروبي على تونس، من أجل ضبط الحدود البحرية، وعلى رغم المجهودات الأمنية الكبيرة التي تقوم بها السلطات التونسية فإن هذه المقاربة الأمنية أثبتت فشلها في التصدي لهذه الظاهرة، في غياب مقاربة متعددة الأبعاد تُدمج الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية".
غياب أي منجز اجتماعي
وتتزامن الأزمة السياسية مع استمرار تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وتشهد الأسواق نقصاً متواصلاً في المواد الأساسية على غرار السكر والقهوة والحليب وطاولت الأزمة الخبز، الغذاء الأساسي للتونسيين عبر التاريخ.
ويرى المتابعون للمشهد السياسي، أن غياب المنجز الاجتماعي، يؤثر في نسبة المشاركة السياسية في المحطات الانتخابية المقبلة، ودعا النائب عبدالرزاق عويدات النائب عن حركة الشعب، الداعمة لمسار رئيس الجمهورية، في تصريح خاص، إلى "ضرورة تحقيق إنجازات اجتماعية من أجل تعزيز المشاركة السياسية، بخاصة في الانتخابات المحلية المقررة في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2023".
عام 2024 مثقل بالديون الخارجية
ويتوقع أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية رضا الشكندالي، أن "تكون 2024 صعبة اقتصادياً واجتماعياً طالما أن الاقتصاد الوطني لم يحقق النمو المطلوب".
ويقر أن "تونس كسبت رهان التوازنات المالية، على غرار نجاحها في تسديد ديونها الخارجية، وهو رسالة جيدة إلى شركائها في الخارج، إلا أن ذلك تحقق على حساب الاقتصاد الحقيقي عبر التقليص من التوريد من المواد الأولية، ومن المواد نصف المصنعة الضرورية لعملية الإنتاج في اقتصاد تونسي مرتبط أساساً بالخارج تكنولوجياً، وهو ما يعكس أيضاً النقص في حجم الاستثمار، ما أنتج ركوداً تضخمياً وتراجعاً للنمو الاقتصادي".
وضع أدى في تقدير أستاذ الاقتصاد إلى "تفاقم البطالة، وتدهور القدرة الشرائية للتونسيين"، داعياً إلى "التركيز على النمو الاقتصادي والتشغيل وعلى محاربة التهرب وتنمية المقدرة الشرائية للتونسيين، والتوجه بخطاب متوازن إلى الداخل من أجل تشجيع الاستثمار ودفع محركات النمو".
وخلُص رضا الشكندالي أن تسديد الديون التونسية المستحقة إلى الخارج تم على حساب الاستثمار الداخلي، وعلى حساب الحاجيات الأساسية للتونسيين، وهو ما يفسر النقص الحاد في عدد من المواد الأساسية".
يذكر أن تونس ستدخل 2024 مثقلة بالديون الخارجية، ما سيعمق من صعوباتها المالية في ظل تواضع الموارد وركود الاقتصاد. وأظهرت وثيقة الموازنة العامة، أن تونس ستسدد في 2024 ديوناً خارجية بقيمة 9 مليارات دولار، أي بزيادة قدرها 40 في المئة عن 2023، وسط ندرة التمويل الخارجي.
ورفضت تونس شروط صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على قرض بملياري دولار في مقابل القيام بإصلاحات اقتصادية ضرورية، قال عنها رئيس الجمهورية إنها "تهدد السلم الأهلي في البلاد".
غلاء الأسعار يعود إلى التقلبات العالمية
ولدى مناقشة موازنة وزارة التجارة وتنمية الصادرات لعام 2024 في مجلس نواب الشعب أفادت وزيرة التجارة كلثوم بن رجب بأن "تزويد السوق بالمواد الأساسية متواصل بعقود يبرمها الديوان الوطني للتجارة مع المزودين تغطي كافة الحاجات وعلى دفعات متتالية وبنسق مدروس"، مضيفة أن "الوزارة تعمل على تشديد الرقابة على نقاط الخزن والتوزيع ومقاومة التلاعب بالأسعار والمضاربة عن طريق تحيين التشريعات وتطوير تطبيقات في الغرض، واعتماد الرقمنة في ظل ضعف الإطار المكلف بالرقابة ومحدودية الإمكانيات اللوجستية".