ملخص
على رغم إطلاق الوعود بعام يسود فيه السلام والاستقرار إلا أن الوقائع على الأرض كشفت عن صراعات جديدة في القرن الأفريقي
لم يكن عام 2023 مختلفاً بشكل كبير عن سابقيه في منطقة القرن الأفريقي، فعلى رغم أنه بدأ بتباشير توقيع اتفاق بريتوريا للسلام في نهاية 2022 بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تيغراي بعد حرب ضروس استمرت لعامين، راح ضحيتها نحو مليون شخص، بين قتيل ومصاب ونازح، وأفرزت أكبر كارثة إنسانية عرفتها المنطقة خلال عقدين من الزمن.
وعلى رغم إنجاز الاتفاقية وإسراف سياسي المنطقة في إطلاق الوعود بعام يسود فيه السلام والاستقرار، إلا أن الوقائع على الأرض تكشف عن صراعات جديدة، ليست أقل خطراً عن حرب تيغراي.
وكأن هذا القرن الناتئ من اليابسة الأفريقية مجبول بالصراعات الدامية، وأن السلام يعد فعل استثناء في واقعه السياسي، مما يطرح أسئلة أمام المراقبين لشؤون هذه المنطقة عن العوامل الفعلية المساهمة في خلق حالات عدم الاستقرار والحروب المتناسلة عن بعضها.
استمرار الحرب
ما إن وضعت حرب تيغراي أوزارها مخلفة تداعيات إنسانية مؤلمة، على مستوى منطقة القرن الأفريقي عموماً، بخاصة أن أطرافها تتجاوز الداخل الإثيوبي، إذ شاركت وحدات من الجيش الإريتري في القتال بجانب الجيش النظامي الإثيوبي وميليشيات الأمهرة، حتى بدأت مفاصلة جديدة ذات علاقة وثيقة بتداعيات تلك الحرب، حيث نصت اتفاقية بريتوريا للسلام على نزع سلاح كافة القوات غير النظامية بما فيها "جيش الدفاع التيغراوي" والقوات الخاصة التابعة لإقليم الأمهرة، كجزء من استحقاقات السلام.
الرؤية التي اعتمد عليها معدو الاتفاق من الاتحاد الأفريقي والولايات المتحدة الأميركية، وممثلي الاتحاد الأوروبي، قامت على ضرورة إنهاء كافة المظاهر المسلحة، من خلال توحيد المؤسسة العسكرية في جيش نظامي واحد، على أن يتم تخيير عناصر الميليشيات بين التسريح أو إعادة إدماجهم داخل الجيش الفيدرالي، إلا أن هذا البند، يتعارض تماماً مع مطالب القوات الخاصة الأمهرية المعروفة بميليشيات "الفانو" التي تعتبر نفسها ليست طرفاً في الاتفاق المبرم.
وتعارض "الفانو" مطلب نزع السلاح، بخاصة أنها تشكلت وفق الدستور الفيدرالي الإثيوبي، الذي يسمح للأقاليم الفيدرالية إمكانية تشكيل قوات مسلحة لحفظ الأمن في الإقليم، علاوة على أن مشاركتها في حرب التيغراي لقمع ما تسميه بـ"التمرد العسكري على الدولة المركزية"، يستدعي مكافآت مجزية، وليس مساواتها مع الجهة "المتمردة".
وفي حين يسعى رئيس الوزراء الإثيوبي إلى تنفيذ اتفاق السلام وضمان احتكار الدولة للعنف المسلح، وإنهاء أي قوات موازية أو مناوئة للجيش النظامي، وهو الخلاف الذي فجر حرباً جديدة في إقليم الأمهرة، بين الجيش النظامي الذي يسعى لنزع السلاح وبين قوات "الفانو" التي ترفض تسليم عتادها العسكري، أو إعادة إدماج عناصرها في الجيش، وهي الحرب التي تزعمت عدد من المنظمات الدولية من بينها "أمنيستي إنترناشونال" و"هيومن رايت ووتش"، أنها تشهد انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، ترقى لجرائم حرب، باعتبارها امتداداً لحرب تيغراي وارتداداتها.
انقلاب التحالفات
وبدخول الأمهرة في حرب مع الجيش النظامي انفضت شروط التحالفات السابقة، بما فيها تحالف النظام الإريتري مع نظيره الإثيوبي، إذ ظل الأخير يراهن على القضاء على عزيمته التاريخية، جبهة تحرير التيغراي التي دخلت بدورها في تحالف تكتيكي مع العدو السابق (النظام الإثيوبي)، لتشهد المنطقة اصطفافات جديدة، بخاصة بعد المطالبات المفاجئة التي أطلقها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، بالحصول على موانئ في الشواطئ الإريترية، مبرراً ذلك بالمطالب التاريخية لبلاده الحبيسة.
وأوضح أحمد "أن التعداد السكاني المتزايد في بلاده يحتم على حكومته ضرورة إيجاد منفذ بحري"، مؤكداً "أن الحصول عليه بالطرق السلمية والقانونية، سيقي المنطقة من دخول الأجيال القادمة في حرب مفتوحة مع الجوار" مما اعتبرته أسمرة تهديداً مباشراً لسيادتها البحرية.
تزامن تلك التصريحات مع إبرام معاهدة "دفاع مشترك" مع جيبوتي، يوحي بدخول قوى إقليمية ودولية في التحالفات الجديدة، بخاصة أن جيبوتي تستضيف أكبر القواعد العسكرية الأجنبية في المنطقة من بينها القواعد الفرنسية والأميركية.
من جهته، يرى المتخصص في شؤون القرن الأفريقي عبدالرحمن سيد، أن المراقب لشؤون هذه المنطقة يلاحظ أنها منطقة صراعات إقليمية ودولية تغذيها الخلافات الداخلية، سواء ذات الطابع القومي أو الوطني.
وفي قراءته لتفكيك التحالفات وإعادة بناء تحالفات جديدة في مدة زمنية قصيرة، أرجع سيد ذلك إلى بعدين محلي وآخر دولي، مشيراً إلى أن البعد المحلي، يتمثل في انتهاء "تحالف المصلحة" بين الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، الذي ظل مرتكزاً بشكل أساس على محاربة "العدو المشترك"، المتمثل في جبهة تحرير التيغراي، وبانتهاء الحرب في الإقليم الشمالي الإثيوبي، ودخول آبي أحمد في معاهدة للسلم مع الجبهة انفض العقد بين أديس أبابا وأسمرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف سيد أما البعد الإقليمي والدولي فيمكن النظر إليه من خلال مساعي الدول الكبرى، لتقاسم الثروة الأفريقية، وخلق مناطق نفوذ بخاصة في المناطق الحيوية وعلى رأسها حوض البحر الأحمر وباب المندب، الذي يعد من أهم ممرات الملاحة الدولية والذي يحاذي الحدود الإريترية الجيبوتية فضلاً عن الصومال.
وإضافة إلى الأهمية الاقتصادية، والجغرافية لهذا المضيق، يوضح المتخصص بشؤون القرن الأفريقي أنه على المستوى السكاني تعد الدول الثلاث ذات غالبية مسلمة وقريبة من المحيط العربي، ما قد يجعلها تسهم في نصرة القضايا العربية من خلال التحكم في مضيق باب المندب، مما يدفع الدول الغربية لدعم مطالب إثيوبيا في هذه المنطقة الحساسة، لتقديرات تتعلق بسيطرة النخب المسيحية على الحكم في أديس أبابا، بما في ذلك مطالب "أحقية إثيوبيا في امتلاك منفذ بحري على البحر الأحمر"، إذ من المرجح أن تحصل الإدعاءات الإثيوبية بقبول الدول الغربية، علاوة على الدعم الداخلي.
خريطة جديدة
وأكد سيد أن ثمة إمكانية لإحداث تغيرات محورية في خريطة القرن الأفريقي، سواء على مستوى دعم حصول إثيوبيا على منفذ بحري أو لمصلحة وجود دول خاصة بالأمهرة والتيغراي تطل على البحر الأحمر من خلال إريتريا وجيبوتي، وأخرى للأورومو تطل على البحر من خلال "جمهورية أرض الصومال" في شمال الصومال، إضافة إلى احتمالات انهيار وتفكك السودان الذي قد يفضي إلى ظهور أكثر من دولة في غربه وشماله ووسطه.
وفي السياق ذاته، يقرأ سيد التحالف الإثيوبي- الجيبوتي، بخاصة بعد توقيع اتفاقية الدفاع المشترك، في ظل الخلاف الإريتري- الإثيوبي حول المنفذ البحري والقضايا الداخلية المتعلقة بأقليمي أمهرة وتيغراي، بالقول إن جيبوتي تعد دولة صغيرة وذات موارد محدودة، وتعتمد بشكل أساس على عوائد خدمات الميناء وتأجير جزء من أراضيها لمصلحة القواعد العسكرية للقوى الكبرى، بالتالي فإن تحالف جيبوتي الرئيس لا يزال مع فرنسا، مضيفاً "لا أعتقد أن بإمكانها بناء تحالفات مستقلة عن باريس أو من دون موافقتها".
على الجانب الآخر، يشعر كل من الأمهرة والنظام الإريتري، بتهديد وجودي جراء الاتفاقات التي يقيمها آبي أحمد، مع جبهة التيغراي داخلياً وحلفائه الجدد المدعومين من الغرب الساعي لتحييد أسمرة، بخاصة بعد اقترابها بشكل كبير من معسكر روسيا والصين، مما يخلق حالة الاستقطابات الحادة في هذه المنطقة المطلة على أحد أهم الممرات المائية.
سيناريو إقليمي
ولا يستبعد عبدالرحمن سيد، سيناريو الحرب الإقليمية في القرن الأفريقي، فهناك مؤشرات جدية ترجح هذا الاحتمال، بخاصة في ظل تماهي الحكام والنخب السياسية في هذه المنطقة مع سياسات القوى الكبرى، على حساب شعوبها.
ولفت سيد إلى أن ثمة شعوراً متنامياً لدى أديس أبابا بحصولها على الدعم الغربي، في حال قررت إعلان الحرب على إريتريا، بغرض الحصول على منفذ بحري أو إزاحة النظام الحاكم هناك، ومن ثم خروج أديس أبابا كأقوى دولة في منطقة القرن الأفريقي ذات تأثير فعلي على أمن البحر الأحمر وباب المندب، مقابل ارتباطها بالسياسات الغربية، منوهاً إلى أن هذا السيناريو على رغم رواجه بين النخب الحاكمة، فإن تنفيذه يعد بعيد المنال، لا سيما في ظل ضعف النظام الإثيوبي في السيطرة على كل مناطق إثيوبيا الحالية.
بدوره يقدر المُحاضر الإثيوبي في القانون الدولي، ديجين يماني، أن المسعى الإثيوبي لاستعادة السيادة البحرية ينبغي أن يرتكز على الحجج القانونية الدولية، مؤكداً أن ثمة التباساً في الطرح الذي قدمه آبي أحمد، مما أدى إلى صدور ردود أفعال قوية من الدول الساحلية مثل جيبوتي وإريتريا والصومال.
ويرى يماني أن سياق الطرح في البرلمان الإثيوبي افتقد اللغة الدبلوماسية المطلوبة، مما عرض أجندة البحر الأحمر إلى تأجيج التوتر الإقليمي، مشيراً إلى أن التلويح بأن الحرب قائمة لا محالة سواء الآن أو لاحقاً، يعد تجاوزاً للقانون الدولي والمعاهدات الدبلوماسية.
وفي الوقت ذاته، يزعم المتخصص الإثيوبي في القانون الدولي، أن مسألة مطالبة بلاده بالمنفذ البحري، لم يتم مقاضاتها وتسويتها بشكل صحيح بعد، مشيراً إلى أن ثمة إمكانية لإعادة الأمر مجدداً أمام محكمة القانون الدولي، إذ إن الخسارة الفعلية للسواحل، باستقلال إريتريا في عام 1993، لا يعني بالضرورة فقداناً دائماً للحق القانوني في تأكيد السيادة البحرية المعنية والتقاضي بشأنها واستردادها بحجج قانونية.
وأضاف ديجين يماني أن الحجة القائلة بأن الخسارة الفعلية للسواحل في عام 1993 لها تأثير مباشر وأمر واقع على وضعها القانوني الدولي على ساحل البحر الأحمر ليست صحيحة من الناحية القانونية، ولا يمكن إصدار حكم نهائي بشأن هذه المسألة التي طال أمدها إلا من قبل محكمة العدل الدولية، مشيراً إلى أن تقاعس الحكومات الإثيوبية أثناء وبعد استقلال إريتريا لا يمكن تفسيره باعتباره حجة قانونية قاطعة على الوضع القانوني حيال هذه المسألة.
وقلل يماني من أهمية الدخول في حرب جديدة من أجل تحقيق هذه المطالب سواء مع إريتريا أو جيبوتي، بل ثمة إمكانية لإيجاد بديل قضائي يتيحه القانون الدولي، ويرى أن عام 2024 ينبغي أن يشرع أبواباً جديدة للحوار والتقاضي في هذه المسألة الحيوية لإثيوبيا، كما ينبغي إخراج ملف "البحر الأحمر" من الاستغلال السياسي الداخلي أو الإقليمي.