تشكل الكتابة في "أدب الرحلات"، ومنذ زمن بعيد جزءاً أساسياً من النتاجات الإبداعية لعدد كبير من الروائيين والكتاب غير الروائيين. ومنهم من كان ذلك الأدب يكمن في خلفية أعماله الروائية نفسها (على غرار بيار لوتي الذي يصعب أحياناً التفريق بين رواياته ونصوص رحلاته، أي بين ما ابتدعه خياله وما عاشه حقاً). وتواصل هذا التقليد في عصرنا الحديث بحيث نعرف أن كتاباً مثل نايبول وويليام غولدنغ، من بعد أندريه جيد وجان كوكتو، يشكل متن نصوصهم في أدب الرحلات أعمالاً كبيرة. ومن كبار منتجي أدب الرحلات في القرن الـ19، كان تيوفيل غوتييه، الفرنسي الذي عاد من بعض رحلاته - لا سيما إلى مصر - ببعض أقوى نصوصه الأدبية. غير أن هناك من الباحثين والنقاد من يرى أن النصوص التي كتبها غوتييه عن رحلاته، تنبض بالحياة أكثر مما تفعل نصوصه الأدبية الخالصة. وغوتييه لم يكن بخيلاً في الاستفاضة في الكتابة عن رحلاته، إذ إنه خلف كتباً عدة في هذا الميدان، إثر رحلات ظلت تشغل وقته وهمه طوال أربعة عقود، وعايشت الحياة الثقافية الفرنسية وغير الفرنسية منذ ذلك الحين، ولا تزال تفعل حتى الآن. وبين هذه الكتب ما يتحدث عن رحلاته إلى إسبانيا وإيطاليا وروسيا، إذ إن كثيراً منها يعتبر أشبه بوثائق تصور الحياة الاجتماعية، وحتى أحياناً السياسية، في تلك البلدان أواسط القرن الذي عاش فيه غوتييه. ومع هذا، على رغم جمال النصوص التي ذكرنا وحيويتها، تظل كتب غوتييه ونصوصه عن "الشرق" أجمل ما كتب، وهي مجموعة في ثلاثة كتب يجمع بينها ذلك الحنين الدائم إلى زرقة السماء وإلى إطلالة الشمس كل يوم على هذه الدنيا. وهي تحمل العناوين الآتية "الشرق" (1877) و"بعيداً من باريس" (1865) أما النص الذي يحمل عنوان "القسطنطينية" (1853) فيعتبر من جانب الباحثين أقدمها وأجملها... وهو الذي يهمنا هنا.
نزهة صيفية
صدر كتاب "القسطنطينية" لتيوفيل غوتييه أول الأمر في شكل حلقات مسلسلة في مجلة "لا برس" بدءاً من أول أكتوبر (تشرين الأول) 1852، ثم ظهر في كتاب جامع في العام التالي. ولقد حقق الكتاب فور صدوره للمرة الأولى من النجاح ما جعله يطبع أكثر من 10 مرات حتى نهاية القرن الذي صدر فيه. ويصف غوتييه في الكتاب الرحلة التي بدأها أوائل صيف عام 1852 منطلقاً من مارسيليا، ليصل بعد 11 يوماً إلى إسطنبول حيث بقي حتى الـ28 من أغسطس (آب) أي خلال الفترة الطويلة نسبياً، التي أعطته المادة الغنية التي تشغل صفحات الجزء الأكبر من النص. أما عند عودته فإنه نزل في أثينا وكورفو والبندقية، ليصل إلى باريس أوائل شهر أكتوبر، وبعد أيام من بدء نشر حلقات الكتاب التي كان أرسلها قبل وصوله انطلاقاً من تركيا، وكان عنوانها العام أولاً هو "من باريس إلى القسطنطينية... نزهة صيفية".
إذا كان الكتاب لقي إقبالاً من جمهور القراء العريض، ورسخ توجهات جديدة في الأدب الاستشراقي، فإن النقاد والباحثين لم يكونوا أقل حماسة له وإدراكاً لمرامي غوتييه من خلاله. وها هو ذا واحد منهم يقول متحدثاً عن الكتاب: "إن الجهد الكبير الذي يبذله غوتييه هنا، إنما يطاول بحثه الحثيث عن عالم لم تلامسه الحضارة الغربية بالمعنى المعاصر الحديث لكلمة مدينة - فإنه كان من حظه أن عثر هناك، في البعيد، على شرق لا يزال على حاله. غير أن غوتييه، في الوقت نفسه لم يكتف بالتمعن في شرق جامد حول إلى مومياء، بل تجاوز هذا ليحاول أن يحدثن النظرة إلى تركيا (الحقيقية) عبر قراءته الإشارات إلى الحياة اليومية والتي كانت لا تزال قابلة لأن تقرأ". والحقيقة أن تلك الحياة اليومية بعبقها وبعدها الإنساني، هي ما كان يهم تيوفيل غوتييه أكثر من أي أمر آخر. من هنا، لم يعد نصه نص مستشرق مدهوش، ولا نص عالم إناسة يدرس ويحلل، بل صار نص راءٍ يتمعن ويصف الأمور كما هي، يصف نبض الناس كما هو.
زمن التطورات الإصلاحية
والحال أن من حظ غوتييه أن زار تركيا في حقبة كانت تعيش فيها تطورات إصلاحية كثيرة... كان نصه شاهداً عليها. لكن هذا النص يأتي كذلك شاهداً على انبهار غوتييه بإسلام كانت لا تزال له هو الآخر براءته الأولى، بعيداً من الإصلاحات السلطوية ذات المنحى الأوروبي، التي أتته من أعلى، أي من سلطات راحت تسعى أكثر فأكثر إلى استخدامه في تبرير ما تقدم عليه، كما بعيداً من استخدام سياسي أتى ليبرر ضروب عنف وكراهية للآخرين. ولعل في نظرة نلقيها على عناوين فصول الكتاب، ما يكشف عن توجه تيوفيل غوتييه في تعبيره عن نظرته إلى تركيا التي يختلط فيها الدين بالحياة اليومية، والحداثة السلطوية بعفوية الشارع. فهو بعدما يتحدث عن اجتيازه البحر المتوسط وتوقفه فـي مالطا، وسيرا، ونزوله في إزمير، يتوقف عند الدردنيل، ثم عند القرن الذهبي، قبل أن يغـوص مباشرة في ليلة رمضانية، ثم تقوده خطواته إلى المقاهي فالحوانيت حيث يخبرونه عن وجود السلطان في المسجد، ليدعى بعد ذلك إلى عشاء تركي تقليدي. وتكون هذه، بالنسبة إليه، مناسبة للحديث عن النساء التركيات. وإذ تحل في يوم تال ساعة الفطور، يجد صاحبنا الرحالة لذة مطلقة في مشاركة الصائمين إفطارهم بعد يوم صيام شاق. وهو بعد ذلك يتوجه إلى أسوار إسطنبول لزيارتها "لا سيما في مناطق من إسطنبول نائية، كان يحدث ندراً للمسافرين الأوروبيين أن يصلوا إليها. فهؤلاء لم يكن فضولهم ليبعثهم إلى أبعد من بزستين وآكميدان وساحة السلطان بايزيد، حيث تتركز كل مظاهر الحياة الإسلامية بالنسبة إليهم".
نظرة شديدة الخصوصية
ومن الواضح هنا أن فضول غوتييه يبعث به إلى أبعد من ذلك، إلى حيث يزور الفنار، ثم حماماً تركياً. ومنذ تلك اللحظة تتخذ رحلة غوتييه طابع التعمق في الحياة - وليس فقط في المشاهد - التركية. هكذا، حتى إذا كانت خطواته التالية، بدءاً من توغله في احتفالات السكان بعيد الفطر (البيرم)، ستقوده إلى حيث تقاد عادة خطى غيره من الرحالة الأجانب، فإن نظرته ستبدو مختلفة تماماً، ذلك أن حنينه الدائم إلى الأزرق وإلى المجتمعات البعيدة سيكسو نظرته تلك بألوان محلية غير مدهوشة ولا مستغربة، بل ستكون نظرة شخص يعرف جيداً كيف يندمج في المكان وكيف يتأقلم. من هنا، في كثير من النصوص التالية نجد تيوفيل غوتييه يصف المكان وإنسانه كأنه يصفهما من الداخل. ولم يفت هذا الأمر النقاد، إذ نجدهم دائماً يؤكدون أنه إذا كان غوتييه يقارن دائماً، وفي كل فصل، بين هذا العالم المسلم الذي يكتشفه وسمات الحياة في أوروبا المسيحية التي يعرفها جيداً، فإن "الإسلام هو الذي يخرج في معظم الأحيان متفوقاً". وليس أدل على هذا من أن غوتييه يحدثنا في آخر فصول الكتاب عن أن "المرء بعد نهار صيفي حار يجد جسده وقد عادت إليه الحياة، ويشعر بفرح الوجود عند المساء بحيث لا تعطيه العودة للسرير سوى الندم"، مع أن مستشرقين غيره كانوا لا يتوقفون عن وصف الإمبراطورية العثمانية بـ"الباردة" و"المترنحة" بل و"المشلولة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سيناريو ما قبل السينما
عندما نشر تيوفيل غوتييه (1811 - 1872) نصوصه هذه عن القسطنطينية، كان قد تجاوز الـ40 من عمره، لكنه كان قد عرف المجد الأدبي ككاتب روائي رومانسي وغرائبي النزعة بأعمال مثل "السلسلة الذهبية" و"كوميديا الموت" و"إسبانيا" و"فورتونيو". أما الجانب الأهم والذي سيكون الأكثر نجاحاً بين كتاباته وهو كتبه المرتبطة بالشرق على وجه الخصوص، فسيكون من أبرزها على الإطلاق كتابه عن القسطنطينية ولكن أيضاً كتبه المصرية ومنها روايته الكبرى "حكاية المومياء" التي لا تزال تكتشف ويعاد اكتشافها، ولا سيما في اقتباسات سينمائية بدت ناجحة إلى حد مدهش خلال العقود الأخيرة. وناجحة إلى درجة أن واحداً من النقاد وصفها بأنها سيناريوهات سينمائية "كتبت قبل ولادة السينما بزمن طويل".