ملخص
حافظت قسنطينة على مكانتها كثاني مدينة لصناعة النحاس في الجزائر
استرجعت حرفة النقش على النحاس وصناعة الأواني النحاسية في الجزائر، بريقها الخاص بعد أن تشبث الحرفيون بمهنة توارثوها أباً عن جد، وحافظوا عليها من الاندثار باعتبارها تراثاً مادياً يمتد إلى مئات السنين. ولا تزال صناعة النحاسيات قائمة في مدينة قسنطينة الجزائرية العتيقة (430 كيلومتراً شرق الجزائر العاصمة) حيث تحافظ الحرفة، التي ترجع إلى قرون خلت، على هويتها كإحدى أبرز المهن اليدوية التقليدية في الجزائر وأكثرها عراقة.
وتحتل المنتجات النحاسية مكانة ميزة لدى العائلات القسنطينية بخاصة والجزائرية عموماً، إذ يتم استخدامها في ديكور المنازل، وتدخل ضمن جهاز العرائس، وتستعمل في المناسبات لتقديم الأطباق والحلويات للضيوف والزوار، وتحرص العائلة القسنطينية على إهداء الزائر هدايا متنوعة من الأواني المصنوعة من النحاس.
وتستعمل في عملية النقش على النحاس أدوات تقليدية مختلفة لا يمكن الاستغناء عنها، لأنها أساس ممارسة هذه الحرفة، وتتمثل في منضدة خشبية صغيرة، ومطارق حديدية متعددة الأنواع والأحجام، وأقلام فولاذية للحفر، وبعض الأحماض الكيماوية التي تستعمل في تلميع المنتجات.
رصيد
ويذكر "المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ وعلم الإنسان والتاريخ" (تابع لوزارة الثقافة الجزائرية) أن الجزائر عرفت صناعة النحاس منذ العهد الزياني "إذ أنشأ الزيانيون مصانع لسبك النحاس والمعادن الأخرى في القرن الـ13 الميلادي وقاموا بصنع النحاسيات لتلبية حاجيات السكان"، وبحسب المصدر "كانت قسنطينة في العهد العثماني ثاني مراكز صناعة النحاس بعد العاصمة (الجزائر)، واستمرت كذلك في العهد الفرنسي"، وتطور استخدام النحاس في المنطقة من الأواني ولوازم الاستحمام إلى أدوات الزينة التي تصاحب لوازم العروس.
ويصف المركز التقنيات المستعملة في صناعة النحاس بأنها "نقوش بمواضيع نباتية داخل أشكال هندسية"، وأن معظم التحف يعمل عليها "بتقنية الحز والتطريق ومن أهم أوانيها الميضأة (القيروانية والقفيطرة)، والدلاء بأشكالها وأنواعها والمرشات والأطباق، إلى جانب نوع آخر من الأواني يدعى القطارة وهي خاصة لتحضير عطور الورد والياسمين". ويوضح المركز أن هذه الحرفة "تراجعت كثيراً وأصبحت مهددة بالزوال، في الوقت الحاضر، بجميع مناطق الوطن باستثناء مدينة قسنطينة" التي تنتج حالياً "أكبر نسبة من المصنوعات النحاسية بطابعها التقليدي على المستوى الوطني" في الجزائر.
تطور
وتشير مراجع تاريخية إلى أن ظهور حرفة النقش على النحاس وصناعة الأواني النحاسية بدأ خلال العهد العثماني وتحديداً عام 1740، إذ انتشر الحرفيون الذين كانوا يطلق عليهم اسم "صنايعية النحاس" في شوارع وأزقة حي القصبة بالجزائر العاصمة، وحي بارادو وسط مدينة قسنطينة التي أصبحت تنتج اليوم نحو 70 في المئة من صناعة النحاس على المستوى المحلي. وأسهم "النحاسون" في الجزائر في دعم المقاومة الشعبية ضّ الاستعمار الفرنسي، عبر تطوير هذه الصناعة وامتلاك مصانع مهمتها تزويد المقاومين بالقطع الأساسية في صناعة البنادق والسيوف والدروع وسروج الخيل.
وحافظت قسنطينة على مكانتها كثاني مدينة لصناعة النحاس في الجزائر، خلال فترة الاحتلال الفرنسي، إذ استعمل القسنطينيون في البداية النحاس لصناعة أواني الطبخ ولوازم الاستحمام، ثم توسعت استخداماته ليصبح من أدوات الزينة الأساسية التي تقتنيها العروس.
ومن أهم الأواني المصنوعة من النحاس نجد "الكيروانية" و"الكافاتيرة" والدلاء بأشكالها وأنواعها، و"المرشات" سواء لوضع العطر، أو ماء الزهر المقطر أو الأطباق، إلى جانب نوع آخر من الأواني يدعى بـ"القطارة"، وهي آنية خاصة بتقطير وتحضير عطور الورد والزهر والياسمين، وغيرها من النباتات العطرية، إضافة إلى "الطاسات بألوانها النحاسية الفضية والذهبية والحمراء ودلاء الحمام والمهراس والصواني الخاصة بالزينة والشمعدان والطفال والإبريق والمحبس والمهراس"، وغيرها من قطع الديكور المختلفة التي اختفى كثير منها من حياتنا اليومية لعدم استخدامها حالياً، ويقدر عدد أنواع الأواني حوالى 300 نوع.
ويتراوح سعر إبريق الشاي من الحجم الكبير بين 4500 دينار (33.5 دولار) و5500 دينار (40.89 دولار) تبعاً لنوع النحاس المصنوع منه، أما الفوانيس فيتجاوز سعرها أحياناً 7 آلاف دينار (52 دولاراً)، بينما تتراوح أسعار الصواني النحاسية بين 35 ألف دينار (260 دولاراً) و120 ألف دينار (893 دولاراً) بحسب حجم كل واحدة.
انتعاش
واسترجعت صناعة النحاس مكانتها وزبائنها بعد سنوات من هيمنة الأواني الصينية، التي غزت السوق المحلية بشكل كبير، بالنظر إلى حجم الإقبال على اقتنائها من زبائن أعجبوا بزخارفها وأشكالها العصرية، محليين كانوا أو أجانب ومغتربين يبحثون عن التصاميم الجديدة والعصرية والنقوش المتنوعة، خصوصاً مع استغلال الحرفيين للفضاء الرقمي للترويج لمنتجاتهم داخل البلاد وخارجها. واستفاد حرفيو النحاس من تزايد اهتمام العائلات الجزائرية برسكلة الأواني النحاسية القديمة التي تمتلكها التي صمدت أمام تغيرات الزمن، سواء من خلال بيعها أو بإعادة تلميعها واستعمالها في ديكور المنازل وانتعشت بذلك أسواق بيع الخردة للنحاس العتيق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول عضو المنظمة الجزائرية لحماية المستهلك فادي تميم في تصريحات صحافية، إن "سوق بيع النحاس غير مؤطر، بخاصة في ما يتعلق بالأشياء القديمة والتحف الأثرية التي يجب ألا يتلاعب بها خارج القانون"، مطالباً بتشجيع حرفة صناعة النحاس التي تعرف حالاً من الركود بعد هجرة كثيرين من أصحابها. ويضيف "التحف القديمة تباع بأثمان غالية، وبعض المحتالين يبيعون بعض الأواني والتحف على أنها نحاسية مستغلين منصات التواصل الاجتماعي، وهو غش يقع ضحيته المستهلك"، ويشير إلى أن مافيا التهريب تعيث في هذا المجال فساداً، بتهريب مادة النحاس عبر الحدود الشرقية والغربية، إضافة إلى تضييق السلطات الأمنية على استرجاع هذه المادة، بسبب اعتماد بعض المسترجعين غير الشرعيين على تخريب الممتلكات العامة للكهرباء أو الاتصالات للحصول عليها.
دعم
ونجح حرفيو النحاس في قسنطينة عام 2015، في الظفر بدعم من الاتحاد الأوروبي لدعم الحرف التقليدية بأفريقيا، ويتمثل المشروع في وضع برنامج تكويني خاص للحرفيين، مدعوم من الاتحاد الأوربي وبإشراف وزارة السياحة، ويستفيد الحرفيون الجزائريون من دورات تكوينية داخل وخارج الجزائر، يشرف عليها مختصون في الرسم والنقش، وأيضاً في تعلم استخدام آخر مستحدثات التكنولوجيا لصناعة المنتجات النحاسية. ويكمن الهدف من هذا البرنامج بالدرجة الأولى، في حماية هذه الحرفة العريقة من الاندثار، والترويج لها عالمياً بخلق أقطاب تجارية، وبيع هذه السلع في السوق العالمية كمنتجات حرفية راقية تتماشى مع العصر الحالي. وفي أبريل (نيسان) 2023، أعادت السلطات بعث مشروع "العلامة المسجلة للنوعية" للصناعات النحاسية التقليدية القسنطينية بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية.
وعلى إثر ذلك تنقل في إطار هذا البرنامج خبراء دوليون في المجال إلى قسنطينة لتنشيط لقاءات وفتح نقاشات مع حرفيين قسنطينيين مختصين في الصناعة التقليدية للنحاس من أجل تهيئة الظروف والوسائل اللازمة لتجسيد هذا المشروع وتنميته من حيث الجودة التي تطالب بها السوق العالمية. وأدخل برنامج مجمع الصناعات النحاسية بقسنطينة، الموضوع حيز الخدمة بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية وبتمويل من الاتحاد الأوروبي وإيطاليا، مطلقاً دورات تكوينية متخصصة في هذا المجال موجهة لحرفيي النحاس في قسنطينة مع توفير أدوات للحماية بالمجان.