ملخص
الأنغولي أوند جاكي ينتهج الفانتازيا ليسرد واقعاً قاسياً
خمسة قرون، كانت نصيب أنغولا من الاستعمار البرتغالي. وكحال غالب الدول التي تجرعت الإمبريالية، عاشت الدولة الأفريقية مشكلات كبرى بعد استقلالها، فاستمرت حربها الأهلية ما يقرب من ثلاثة عقود. وعلى رغم انتهاء الحرب في مطلع الألفية الثالثة، عانى البلد الغني بالنفط والمعادن، مشكلات وأزمات طاحنة، على الصعيدين السياسي والاقتصادي، من ناحية، وعلى الصعيد الاجتماعي من ناحية أخرى. هذا الواقع رصده الكاتب الأنغولي أوند جاكي في روايته "المدينة الشفافة"، التي صدرت أخيراً عن "العربي للنشر" في القاهرة، بترجمة جمال خليفة.
بدأ الكاتب رحلته السردية باستهلال نسبه لشخصيته المحورية "أودوناتو": "انتهى وقت التذكر. أبكي في اليوم التالي، على الأشياء التي كان يجب أن أبكي عليها اليوم"، ليحيل عبر هذه التوطئة، إلى حال من النوستالجيا تغلف النسيج. ثم سلك بناء دائرياً، انطلقت فيه الأحداث، من حريق هائل التهم العاصمة لواندا، لينتهي السرد بالحريق نفسه الذي أرجئ الكشف عن أسبابه، بغرض التشويق. وعلى رغم كثرة وتعدد الشخوص في نسيجه الروائي، نجح أوند جاكي - عبر الحوار المسرحي- في بناء شبكة تواصلية بينها. وتمكن عبر المساحات الحوارية الكثيفة، من كسر أحادية صوت الراوي العليم، الذي انتهجه كأسلوب للسرد. ومنح شخوصه في الوقت نفسه، مساحة حرة للكشف عن مواقفها، واستبطان نوازعها، والتعبير عما يعتمل في دواخلها المسكونة بالتناقضات. وعزز كذلك حال الإيهام بآنية الحدوث، مما خدم واقعية طرح ما طرقه من قضايا.
مركز السرد
وكما في أعمال الكاتب السابقة، كانت العاصمة الأنجولية "لواندا"، مركز السرد، وموضوعه الرئيس. ليس لكونها الفضاء المكاني الذي تدور فيه الأحداث وحسب، ولكن لاتصال القضايا التي طرقها، بماضي المدينة وحاضرها. وكان المبنى ذو الطوابق السبعة في ميدان "مايانغا"، معادلاً للمدينة، يجسد معاناتها وآلامها ومآسيها. ويعبر سكانه عن الأغلبية الأنغولية، التي تعاني التهميش، فتلجأ إما للتعايش معه، أو للتحايل عليه. فبينما تقبل "أودوناتو" الجوع وتوقف عن تناول الطعام، بعد فصله من عمله، استسلم الرفيق الأبكم للفقر والوحدة والعمل الشاق، من أجل أجر زهيد. أما "جواو" البطيء، فلجأ إلى الاحتيال، للتحكم في النسوة اللاتي يعملن بتغيير العملة، من أجل كسب المال. واستخدم الحيل نفسها لاستثمار سطح المبنى والكنيسة، وتحقيق مصالحه الخاصة، من دون الاهتمام بمدى مشروعية الوسيلة.
عمد الكاتب لإبراز التقابل بين واقع من يسكنون مبنى "مايانغا" والمترددين عليه، وبين الحياة المترفة، التي يعيشها الوزير ومعاونوه، بين طبقة الأغنياء الجدد، وأغلبية الشعب المنسحق، تحت وطأة الظلم والفساد، بين احترام الأجنبي، وامتهان المواطن، بين أحياء فقيرة عشوائية، وأخرى متطورة لا تنقطع عنها الخدمات، وبين عقول ظلت على ولائها لليسارية، وأخرى دهستها تروس الرأسمالية المتوحشة. وجسد عبر هذه الصور زخم التناقضات، التي تميز المدينة، والتفاوت الهائل بين الطبقات. وأبرز الفساد الضارب في أركان الدولة. فبينما فشلت كل محاولات ساعي البريد في الحصول على دراجة بخارية، ولم يقتنع أي من المسؤولين باستحقاقه لها، لتيسير مهمات وظيفته، كان لمستشار الوزير موازنة خاصة تتحملها الوزارة، بهدف توفير الثلج والمشروب، لتيسير مهمات وظيفته! ولم يكن التناقض سمة المدينة وحدها، وإنما كان أيضاً من نصيب أبنائها، الذين نبت في دواخلهم القبح إلى جانب النقاء، والاحتيال إلى جانب التكاتف، والتعاطف إلى جانب القسوة. وأكسبت هذه التناقضات، الشخوص ثراء نفسياً، ساعد بدوره في تحريك الأحداث. غير أن الكاتب لم يمنح الثراء نفسه لشخوصه النسائية، فكان حضور المرأة غائماً، وغير مؤثر في السرد.
واقع معطوب
انشغل النص بقضايا اجتماعية شائكة في الداخل الأنغولي، تعد من تبعات ونواتج الاستعمار. ومن بين هذه القضايا، الفساد المستشري في كل مؤسسات الدولة، لا سيما مؤسسة الشرطة، التي تحولت مهمة عناصرها، من حماية الأمن، إلى تلقي الرشاوى، وفرض الإتاوات، حتى على أكثر المواطنين فقراً. كما عمد الكاتب إلى توثيق استشراء الجريمة والبطالة، والهوس بالسلاح، والتسول المقنع، وانتشار الثقافة الاستهلاكية، وتركز الثروة في أيدي قلة من النخبة. وتطرق إلى ممارسات ذوي النفوذ، وخرقهم للقانون، وسطوة أصحاب الرتب العسكرية. ونقل صورة حية لرأسمالية نهمة، استعانت بسلطة فاسدة، من أجل الاستيلاء على موارد الأنغوليين ومقدراتهم. وهددت حياتهم ومصائرهم، بإقدامها على الحفر لاستخراج البترول، من أرض تتشكل من صفائح تكتونية. "المدينة ليس بها دعامات، وإذا حفروا الأرض، فلن يمكن التنبؤ بالعواقب لكن على الأقل، سوف تحدث انهيارات أرضية. ربما هم لا يهتمون سوى بملأ جيوبهم" ص 132. نجح أندو جاكي في بث الحياة والحركة بالنص، عبر لغة مشهدية. وأتاحت له خبرته في كتابة السيناريو، إمكان توظيف بعض التقنيات السينمائية، في خدمة السرد، مثل تقنية المزامنة بين بعض المشاهد، وتقنية عين الكاميرا: "على الأرض كان حارس القبور يئن دون حول ولا قوة. وفي السماء كانت الطيور تطير بسرعة، وتثير ضجيجاً، يلخص آلام البشر" ص 346.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي رصده لواقع مدينته، لم يغفل الكاتب نواتج الماضي، وميراث الحروب، التي خاضتها البلاد، ولا تزال على رغم انقضائها حاضرة، تثقل كاهل الواقع وتؤرقه، إذ لم ينفك الأنغوليون يرددون حكاياتها الدموية، حتى في احتفالاتهم. ولم يزل العنف البدني واللفظي سمة غالبة عليهم. ولم يزل كثير منهم يعاني الفقد، بعد أن التهمت الحروب أحباءهم، مثل "بازينيو"، الذي أمضى عمره بحثاً عن أم فقدها طفلاً، ومثل الجدة التي لم تعد الحرب زوجها، فوسمت قلبها وجسدها بندبة الفراق. وعلى رغم ميراث الحرب الثقيل، هيمنت النوستالجيا على السرد. وتجلت عبر مقارنات عقدها الكاتب بين الماضي والحاضر، أبرز من خلالها التحول الاجتماعي الكبير، الذي لحق بالمدينة، وساكنيها، وفقدوا معه بعض من قيمهم، وأخلاقهم: "في الماضي كان الناس يقولون إن عدم تقديم الماء من الخطايا. كان الإنسان الذي يسير في الطريق، يتوقف أمام أي حديقة، ويصفق مرات عدة، ويطلب الماء. كان ذلك أمراً طبيعياً. أما اليوم، فسرعان ما يشك الناس أنه لص أو متسول. مر الزمان وتلاشت أشياء، الاحترام، والأخلاق، والعادات الطيبة" ص 81.
أثر الاستعمار
لا يزال الأدب يثبت قدرة الشعوب، على الاحتفاظ بكثير من موروثها الثقافي، على رغم محاولات الاستعمار، لطمس هذا الموروث. إذ لم تفلح خمسة قرون من الاحتلال البرتغالي، في إلغاء الهوية الأنغولية بشكل كامل. فلا يزال الأنغوليون، على رغم تحدثهم اللغة البرتغالية، يستدعون لغاتهم القديمة "الأمبوندو، الكيمبوندو". ولا يزالون يمارسون رقصاتهم الشعبية "الكيزومبا، الريبيتا الأنجولية". ويعدون أطباقهم التقليدية "الموفيتي، الفونجي، الموزونجي، الكاشوبا المكونة من الذرة، والفاصوليا والدهن، واللحم، وطبق الكالولو، الذي يرتبط بالعزاء والمآتم". وعلى رغم اندثار بعض عاداتهم لا يزالون يتكافلون على نحو ما. يتكاتفون، ويتقاسمون طعامهم، على رغم أنف الفقر. ويحيون عاداتهم الخاصة في الرقص والاحتفال. وكما حرص الكاتب على إبراز الهوية، والثقافة الأنغولية المحلية، بدا في المقابل، تأثره بالأدب العالمي، لا سيما في رسمه شخصية ساعي البريد، التي تقاطعت مع الشخصية نفسها في رواية "ساعي البريد يدق دائماً مرتين" للأميركي جايمس كاين، و"مكتب البريد" لتشارلز بوكوفسكي، وكذا في رسم شخصية "الديك" الذي بدا عبره تأثره برواية "دون كيشوت" للإسباني ميغيل دي ثربانتس. كذلك عمد إلى التناص المباشر مع الكتاب المقدس، عبر استدعاء بعض آيات الإنجيل. ولجأ أحياناً إلى التناص غير المباشر: "أعط ما للقيصر لقيصر، وليدبر الآخرون أمورهم"، مما زاد عمق السرد وجماليته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عمد الكاتب إلى خلخلة سوداوية الواقع، بالفكاهة والطرافة أحياناً، وأحيان أخرى بالسخرية، التي مررها في مواضع عدة ، لا سيما في حادثة موت الأيديولوجية، وعبر شخصيتي "الآن" و"لاحقاً"، اللذان استفادا من صلة تربطهما بمستشار الوزير، واستخدماها لابتزاز الناس، وإبرام صفقات فاسدة. ومثل اسميهما كانت مفردتا "الآن ولاحقاً"، قانونيهما في إبرام تلك الصفقات.
الفانتازيا كانت كذلك وسيلة أخرى انتهجها الكاتب، زادت من جمالية السرد، وأسهمت في تعزيز أثر ما مرره إدانات لواقع المدينة. فكانت شخصية "أودوناتو" مزيجاً من حقيقة وخيال. واكتسب غرائبيته بعدما أرغمه الفقر والجوع على التوقف عن تناول الطعام. مما أدى إلى أن يصبح جسمه شفافاً، وبلا وزن، على نحو حتم ربطه في جسم ما، حتى لا يطفو أو يطير. كذلك تجلت الفانتازيا مرة أخرى، في ثقل جثة "سيبني ذا غراند"، التي ثقبت سقف طوابق المبنى وهيأت للكاتب مناسبة لاستدعاء المأثور، "الثقيل في الحياة، ثقيل في الممات"، وتمرير ما ضمنه من رؤى وفلسفات.