ملخص
حياة عمال المناجم... أضواء خافتة وأصوات صاخبة وانتظار مزمن للموت.
حوادث السيارات معروفة للجميع ولها تصنيفات وطنية وأخرى دولية ومعدلات قياس ومعايير للأحكام. وحوادث القطارات تحدث بين الحين والآخر وتكون آثارها وخيمة في دول نامية متخمة بالسكان وتغيب عنها قواعد وقوانين الصيانة والرقابة والسلامة، وبسيطة في دول متقدمة حيث معايير الأمن حاكمة وقواعد الرقابة صارمة. وحوادث الطائرات تقع لأسباب بعضها يُكتشف، وأخرى تتعذر معرفتها وتسقط بالتقادم. ومعها حوادث سقوط العمارات السكنية واشتعال الحرائق والغرق في مياه البحار والأنهار والمحيطات، وقائمة الحوادث "الكلاسيكية" طويلة، ويبدو جميعها معروفاً ومتداولاً، باستثناء حوادث المناجم.
تدهش سكان الأرض
فهذه الحوادث تدهش سكان الأرض. ربما لا تقع بالكثافة نفسها التي للحوادث الكلاسيكية أو تنتشر في شتى ربوع الأرض، حيث تظل المناجم موجودة في دول من دون أخرى، وعمال المناجم معروفون في مجتمعات ومجهولون في غيرها، لكن تبقى كل حادثة منجم قادرة على إدهاش العالم وجذب انتباه سكانه، قبل أن يعودوا أدراجهم نحو حياتهم اليومية.
وترتبط حوادث المناجم دائماً بثالوث الفقر والعمل غير القانوني والجشع، وإن كانت الأخيرة يتم تمويهها وتجميلها وتزيينها حتى لا تضر بأعمال المناجم وأرباحها المليارية ومصالحها المتشابكة بالمال والسلطة والوجه غير الحسن.
وللوجوه غير الحسنة في عمل المناجم أشكال عدة. بحسب "منظمة العمل الدولية" يواجه هؤلاء تحديات ومخاطر متغيرة باستمرار بسبب ظروف عملهم غير التقليدية. والغالبية منهم تعمل لأسابيع أو أشهر في بيئة لا يدخلها ضوء أو تحظى بتهوية. وجميعهم يكونون في مرمى مخاطر يصعب التحكم فيها، حيث أعمال الحفر تؤدي إلى خلق فراغات في الأرض، مما قد ينجم عنها انهيارات أو تحركات في التربة لا يحمد عقباها.
وتشير المنظمة –التي تعمل على تعزيز الممارسات العادلة في العمل وتمكين العمال وحماية حقوقهم- إلى أنه على رغم الجهود المبذولة في عديد من الدول، فإن معدلات الوفيات والإصابات والأمراض التي تصيب عمال المناجم تعني أن التعدين في معظم دول العالم يظل المهنة الأكثر خطورة.
إلهام ونسيان
حوادث المهنة الأكثر خطورة ألهمت الأدباء والشعراء وصناع السينما، ودفعت العشرات من الناشطين في مجالي حقوق الإنسان والعمال للفت الأنظار بتسليط الضوء تارة واتهام جموع الساكتين بالظلم والجشع والازدواجية تارة أخرى، لكنها لم تلهم صناع القرار –حكومات وأصحاب بيزنس التعدين- لعمل ما هو أكثر لمزيد من تأمين العاملين في المهنة الأخطر.
والمهنة الأخطر حصدت قبل أيام قليلة حياة 11 من عمال المناجم في زامبيا، بعد أن تسببت الأمطار الغزيرة في انهيارات أرضية داخل أنفاق كانوا يحفرونها في منجم نحاس. أما بقية زملائهم فما زالوا ينتظرون من ينقذهم مع مرور ما يزيد على أسبوعين من دفنهم بين الحياة والموت تحت الأرض.
تحت الأرض، قضى الآلاف على مدار عمر المهنة، لكنهم يحالون إلى دفاتر النسيان. وعلى رغم أن عمال المناجم لا يشكلون سوى واحد في المئة من القوة العاملة العالمية، فإن العمل في المناجم مسؤول عن ثمانية في المئة من مجموع الحوادث المميتة في العمل، وذلك بحسب منظمة العمل الدولية.
عاملان في تركيا ماتا قبل ساعات، فيما أصيب آخرون بجروج بعد انهيار منجم لعنصر الكروم الكيماوي في محافظة دنيزلي شرق تركيا. وقبل حادثتي زامبيا وتركيا بأسابيع قليلة، حبس العالم أنفاسه وهو يتابع تفاصيل انهيار نفق في الهند على رؤوس العمال الذين كانوا يحفرونه، وكان نفقاً تابعاً لوزارة النقل، لكن من أنقذ العمال العالقين تحت الأرض كانوا عمال المناجم، وتحديداً مناجم الفحم الذين يطلق عليهم اسم "عمال أنفاق الجرذان".
وكأن العمل في المناجم، حيث احتمالات الخروج جثة هامدة تكاد تعادل الخروج على قيد الحياة، ليس كافياً لجعل هذه المهنة الأكثر خطورة في العالم، فإذ بحادثة انهيار نفق في الهند على عمال الحفر تلقي ضوءاً على نوعية من عمال المناجم أقل ما يمكن أن يوصفوا به أنهم "الموتى الأحياء" أو "الأحياء الموتى".
أبطال "أنفاق الجرذان"
هؤلاء عمال مناجم فحم متخصصون في حفر الأنفاق بالأيدي بغرض استخراج الفحم. والنفق الواحد لا يتسع إلا لشخص واحد يتيح له قطره الدخول فيه باستخدام حبال وسلالم بدائية، ثم يخرج من الاتجاه نفسه. وبسبب الخطورة الشديدة التي يواجهها العمال في هذا النوع من الأنفاق، فقد حظرته دول عديدة بعد زيادة أعداد العمال الذين ماتوا جراء الاختناق والجوع.
في ديسمبر (كانون الأول) عام 2018 وفي الهند نفسها، وهي إحدى الدول القليلة التي ما زالت تعتمد على مثل هذه الوسيلة المميتة لاستخراج الفحم، لم يتمكن 15 من عمال أنفاق الجرذان الخروج من أنفاق حفروها بهذه الطريقة على عمق 110 أمتار، وذلك بعد أن حفروا عن طريق الخطأ في منجم مجاور مليء بالماء فغمر الماء أنفاقهم. وبعد جهود عدة تمكن خمسة منهم من الخروج فيما ظل بقية العمال محبوسين، وظلت جهود الإنقاذ تحاول الوصول إليهم حتى مارس (آذار) من العام التالي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2021، مات ستة عمال هنود أيضاً في منجم بعد انهيار أرضي منعهم من الخروج.
خروج عمال حفر النفق في الهند قبل أيام سلط أضواء البطولة والبسالة والروعة على عمال أنفاق الجرذان، ونسي العالم أو تناسى عدم قانونية مثل هذا العمل الذي يعرض العمال والبيئة لمخاطر كبرى. وانشغل الجميع بالتفاصيل الدرامية وعناصر الإثارة ومقومات القصة الجذابة، حيث تم غمر منصات التواصل الاجتماعي بصور وفيديوهات لعمال أنفاق الجرذان وهم يلوحون بعلامات النصر، ووجوه عمال النفق الذين تم إنقاذهم وعائلاتهم والسعادة تغمرها، وتصريحات المسؤولين بهذا الإنجاز العظيم.
هذا ما بعد الإنقاذ
الإنجاز العظيم بدأ يخفت بعد أيام من إتمام عملية الإنقاذ. صحافيون هنود لفتوا الانتباه حينها إلى أن زهو الانتصار وسعادة النجاة ومعهما تسليط الأضواء على بطولة العمال ستخفت بعد أيام لتعود الأوضاع إلى ما كانت عليه. ستستأنف عمليات حفر النفق بآلات أكثر تطوراً، ويعود عمال التنقيب عن الفحم عبر أنفاق الجرذان إلى سابق عملهم إلى أن تحدث مصيبة جديدة. واللافت أن أغلب الحديث كان عن عودة عمال المناجم إلى حياة الفقر والعوز، ولم يشر إلى العمل غير القانوني والأنفاق المحرمة والمخاطر المحدقة.
لكن المخاطر لا تحدق فقط بأنفاق الجرذان. ففي كل عام يفقد نحو 12 ألف شخص في مناجم العالم حياتهم. ويصعب حصر الأعداد، حيث إن نسبة كبيرة من عمال هذه المناجم لا يعملون بطريقة شرعية، وحين يفقدون حياتهم يكتنف الصمت الحوادث والأهل والمنجم. وليست وحدها أعداد القتلى التي يمكن وصفها بغير الدقيقة نظراً إلى عدم التوثيق وكذلك لهالة السرية التي تحيط بمنظومة المناجم وانعدام الاهتمام بها إلا في الحوادث الكبرى، لكن أعداد الإصابات وما ينجم عنها من عجز كلي أو جزئي يكتنفها قدر أكبر من الغموض، وقلما تجد طريقها إلى الوثائق الرسمية في عديد من دول العالم.
وبحسب منظمة العمل الدولية، فإن أعداد العاملين في قطاع التعدين غير الرسمي تفوق أقرانهم العاملين بطريقة رسمية. ويعاني عمال المناجم، لا سيما الذين يعملون بطريق غير شرعية أو قانونية، من عدم استقرار وظائفهم وشبه انعدام لمعايير العمل والسلامة المهنية. إحصاءات المنظمة تشير إلى أن حوادث عمال المناجم غير الشرعيين تفوق حوادث العمالة الشرعية بستة أو سبعة أضعاف، وهذا ما يفسر شح الأرقام.
أكثر حصاداً للأرواح
بلغة الأرقام، فإن قوائم الحوادث الأكثر فداحة وقسوة لعمال المناجم تحفل بكثير. هناك قائمة تحوي أفدح 10 حوادث من حيث عدد القتلى في التاريخ الحديث. وتحتل الصين المرتبة الأولى بحادثة "بنشيهو" الشهيرة التي وقعت في أبريل (نيسان) عام 1942 حين نشب حريق في منجم متخم بالعمال، فما كان من مسؤولي المنجم إلا أن أغلقوا المنجم على من فيه للسيطرة على الحريق. وكانت النتيجة مقتل 1594 عاملاً.
وتأتي فرنسا في المرتبة الثانية بحادثة "كوريرس" عام 1906، التي قتل فيها 1099 عاملاً من دون الإعلان عن السبب، وإن كان شهود العيان ذكروا وقوع انفجار. وفي المرتبة الثالثة، تأتي الصين مجدداً بحادثة انفجار في منجم أدى إلى مقتل 682 عاملاً. وتحتل اليابان المرتبة الرابعة بحادثة انفجار في منجم أدى إلى مقتل 458 عاملاً.
في المركز الخامس تأتي الولايات المتحدة الأميركية بمقتل 476 عاملاً في منجم في "ويست فرجينيا" كانوا يعلمون بطريقة غير قانونية، وأدى امتلاء النفق بالجزيئات إلى عدم قدرتهم على التنفس ووفاتهم جميعاً، ثم تجيء اليابان مجدداً في المرتبة السادسة بمقتل 512 عاملاً في منجم للبرونز عام 1899 بسبب حدوث انهيار أرضي، ثم بريطانيا، وتحديداً ويلز، في المرتبة السابعة بحادثة انفجار أدت إلى نشوب حريق في منجم مما أسفر عن مقتل 440 عاملاً.
في المرتبة الثامنة انهار سقف منجم في جنوب أفريقيا مما أدى إلى مقتل 435 عاملاً. وفي 1972 نجم انفجار يعتقد أنه بسبب استخدام الديناميت إلى مقتل 426 عاملاً في زيمبابوي ما يضعها في المرتبة التاسعة. وفي المرتبة العاشرة وقعت حادثة متعددة الأوجه في الهند، حيث أدى انفجار في داخل منجم إلى حدوث فيضان قتل من كانوا في المنجم وعددهم 372 عاملاً ومات آخرون غرقاً.
والقوائم كثيرة، منها الحديث، ومنها القديم الذي يكتشف حديثاً. ففي يونيو (حزيران) الماضي، أعلنت جنوب أفريقيا العثور على 30 عامل منجم (غير شرعيين) موتى في منجم مهجور بعد شهر من أنباء عن وقوع حادثة في منجم يستخرج منه الذهب.
وقبل أيام قليلة، سقط مصعد في منجم للبلاتين في جنوب أفريقيا أيضاً، مما أدى إلى مقتل 11 عاملاً ونجاة باقي الـ86 شخصاً الذين كانوا على متنه.
وضمن أغرب حوادث المناجم ما جرى في جنوب أفريقيا قبل أيام حين أجبر عدد من العمال 400 من زملائهم على البقاء في المنجم تحت الأرض لبضعة أيام. وترددت أنباء عن أن السبب هو وقوع جريمة قتل، لكن المسؤول القانوني عن المنجم قال، إن السبب هو خلافات ومنافسات بين اتحادات عمال المناجم.
تشيلي والـ"33"
الصورة الذهنية لعمال المناجم لا تخلو عادة من حادثة تشيلي الأشهر عام 2010. 33 عاملاً أمضوا 69 يوماً عالقين على مسافة 688 متراً تحت الأرض. حدث انهيار في المنجم في أغسطس (آب) من ذلك العام، وعلى الفور هرع مهندسون وعمال إنقاذ وخبراء بمعداتهم في محاولة لإنقاذ العالقين. رئيس تشيلي آنذاك سيباستيان بينير أطلق نداء هز قلوب الملايين حول العالم. قال، "هؤلاء الرجال محتجزون على عمق 700 متر. ماذا لديكم من وسائل تكنولوجية من شأنها أن تساعد؟".
وتواترت المساعدات بالأفكار والمعدات والخبراء على مدار أكثر من شهرين، إلى أن تم إنزال كبسولة أطلق عليها اسم "العنقاء" في حضور أعداد غفيرة من التشيليين من أسر وأصدقاء العمال وكذلك المسؤولون وعلى رأسهم الرئيس وزوجته. وكان المشهد مهيباً حيث تم إنزال أحد أعضاء فريق الإنقاذ بالكبسولة وودعه الحاضرون بترديد النشيد الوطني التشيلي. واستغرقت العملية الناجحة 22 ساعة متواصلة، تم خلالها إخراج كل العمال وآخرهم كان رئيسهم.
أسئلة أكثر من الإجابات
هذه الحادثة طرحت أسئلة أكثر من الإجابات: كيف تمكن العمال من البقاء على قيد الحياة لمدة 33 يوماً على عمق نحو 700 متراً؟ كيف احتفظوا برباطة جأشهم؟ كيف تمسكوا بالأمل في أن يتم إنقاذهم؟ وأسئلة أخرى كثيرة لم ينجم عنها إلا معلومات عن تشاركهم في الصلاة يومياً، وتقسيم ما لديهم من غذاء، والاكتفاء بوجبة واحدة يومياً تتكون من قطعتي بسكويت وملعقة تونة، وشرب الماء الذي يتم تصريفه من النفايات الصناعية.
وحين تمكن خبراء الإنقاذ على سطح الأرض من تحديد موقعهم، كان يتم إمدادهم بالشوربة والدواء و"جيل" خاص للترطيب عبر أنابيب. وبعد بضعة أيام كان يتم إمدادهم بوجبات من اللحم والأرز بسعرات حرارية يومية لا تتعدى 2200 سعر لإبقائهم نحيلين من أجل سهولة نقل الواحد تلو الآخر في الكبسولة الضيقة. وتطور الأمر إلى توصيل أجهزة لهم أتاحت الاتصال بذويهم، وكذلك قياس أداء وظائفهم الحيوية، وتم توصيل إضاءة تحاكي نور النهار وأخرى خافتة تحاكي الليل.
وسمح لهم المعالجون النفسيون بعد فترة بالحصول على صحف للاطلاع على الأخبار، ثم مشاهدة مباريات كرة القدم التي يعشقها أغلبهم على شاشة تم إنزالها. وحتى المدخنون منهم تم تزويدهم بعلكة ولصقات نيكوتين.
وعلى رغم كل تلك المعلومات، فإن أسئلة ما زالت تطرح نفسها حول التركيبة النفسية التي تسمح لشخص بالبقاء على عمق نحو 700 متر لأكثر من شهرين، مع علمه أن احتمالات نجاته تتساوى أو تقل عن احتمالات موته. حتى أنطونيو بانديراس ورودوريغو سانتورو وجيمس برولين لم يشفوا غليل السائلين بفيلمهم "33" الذي يجسد قصة هي الأكثر إثارة في عالم حوادث المناجم.
عرضة لتوليفة أمراض
عمال المناجم –سواء تعرضوا لحوادث أودت بحياتهم أو نجوا- يظلون عرضة للإصابة بتوليفة من الأمراض. خبراء الصحة العامة والضالعون في مجال العمل في المناجم من منظور صحي يشيرون إلى أن نسبة كبيرة من الحوادث الناجمة عن تسرب الغازات السامة أو انفجار الغاز الطبيعي مثل الميثان أو انفجارات غاز الفخم أو أنشطة زلزالية أو فيضانات تؤدي إلى إصابة العمال بأمراض حال بقوا على قيد الحياة، لكن حتى العمال الذين لا يتعرضون لحوادث يكونون عرضة للإصابة بعديد من الأمراض المرتبطة بالجهاز التنفسي، لا سيما عمال مناجم الفحم، وعلى رأسها ما يعرف بـ"سحار عمال الفحم" أو تغبر الرئة أو الرئة السوداء. والسبب هو استنشاق غبار الفحم أو الغرافيت أو الكربون الصناعي لفترات طويلة.
ويكون عمال المناجم أيضاً عرضة للإصابة بأمراض ناجمة عن التسمم بالمعادن مثل المنجنيز والكروم والكبريت والزرنيخ والزئبق والفسفور وغيرها، وجميعها يؤثر سلباً على الجلد وكذلك على القلب والكلى والكبد، كما يؤدي التعرض المستمر لدرجات حرارة ورطوبة مرتفعة إلى الإصابة المتكررة بالنزلات الشعبية وكذلك أمراض الروماتيزم.
ضوء خافت وصخب
من جهة أخرى، فإن بيئة العمل في المناجم حيث الإضاءة الخافتة واختلاف الضغط الجوي سطح الأرض والضوضاء والذبذبات الناجمة عن الآلات والماكينات وغيرها تؤثر سلباً على عمال المناجم، ولكن بدرجات متفاوتة بحسب عوامل الأمان والسلامة المتبعة، وكذلك الفروق بين العمال وبعضهم في تحمل العوامل الصعبة أو التأثر بها.
أمراض عمال المناجم ليست جسدية فقط ولكنها نفسية وعصبية أيضاً، وهي كالعادة تمر مرور الكرام، لا سيما بين عمال المناجم الذين لا يعلمون بطرق قانونية وتحت ضغط فقر مدقع وفي بيئة عمل أبعد ما تكون عن الرقابة أو السلامة الجسدية، فما بالك بالنفسية.
والخلطة النفسية المعروفة وشبه المؤكدة هي القلق والاكتئاب واضطرابات النوم والإنهاك النفسي. وإذا كانت كل أنواع العمل تعرض العاملين لأنواع ودرجات مختلفة من المرض أو العلل النفسية، فإن علل عمال المناجم النفسية والعقلية لها طبيعة خاصة بسبب طبيعة العمل.
خلصت دراسة عنوانها "الصحة العقلية لعمال المناجم" (2020) للباحثين في كلية علم النفس في الجامعة البابوية الكاثوليكية في تشيلي، خلصت إلى أن العمل في التعدين يعرض العاملين لمشكلات خطرة تتعلق بالصحة العقلية. والغالبية تعاني مشكلات نفسية واجتماعية وصحية وجسدية تتعلق بطبيعة العمل. وتشير الأدلة –بحسب الدراسة- إلى أن ظروف العمل المحفوفة بالمخاطر وتنظيم العمل المتخم بنوبات ليلية ووجود صراعات في المكان وأخرى في الأسرة بسبب طبيعة العمل، وصعوبة الوصول لحال من الرضا الوظيفي وانعدام الترفيه أو قلته ونوعية الحياة القاسية وغيرها تضع هذه الفئة من العمال تحت ضغوط نفسية وعصبية مستمرة.
أطفال المناجم
وجه آخر قلما يظهر على سطح العمل في المناجم وهو الأطفال العمال. فبحسب منظمة العمل الدولية يوجد نحو مليون طفل يعملون في المناجم بالأساليب الحرفية في شتى أنحاء العالم. والأساليب الحرفية في المناجم تعني العمل اليدوي الشاق قليل الاعتماد على التكنولوجيا، وهو غير تابع للاقتصاد الرسمي. ويعتقد أن 12 في المئة تقريباً من إنتاج الذهب العالمي يأتي من المناجم المعتمدة على الأساليب الحرفية.
وبحسب مذكرة لـ"هيومان رايتس ووتش" عنوانها "حماية عمال المناجم من الأطفال والبالغين من الزئبق: قضية من قضايا الحق في الصحة"، يعتمد أغلب عمال مناجم الذهب الذين يستخدمون الأساليب الحرفية –بالغين وأطفال– على الزئبق في استخراج الذهب من الأحجار الخام، إذ إن هذه الوسيلة هي الأرخص والأيسر في الاستخراج. ويتم خلط الذهب بالزئبق، ثم حرق الخليط فينفصل الذهب خالصاً. وتتعرض صحة العمال بسبب هذه الطريقة للخطر، إذ إن العمل بالزئبق من الأعمال المصنفة كأعمال خطرة بموجب القانون الدولي، ويجب ألا يقوم عليه شخص تحت 18 عاماً.
حوادث وأحداث عمل الأطفال في المناجم كثيرة ولا تستوقف كثيرين. فهناك 150 مليون طفل عامل في العالم، بينهم عدد غير قليل يعلمون في التعدين في ظروف أقل ما توصف به هو أنها بالغة الخطورة.
في فنزويلا أطفال يعملون في التنقيب عن الذهب ولا يذهبون إلى المدارس، وكذلك الحال في غانا والكاميرون ونيجيريا وغيرها. وفي البرازيل آلاف الأطفال فقدوا حياتهم بسبب العمل غير القانوني في التعدين. وفي مصر فُقد ثلاثة أطفال في صحراء قنا (صعيد البلاد) حياتهم بعد أن ماتوا جوعاً وعطشاً في طريق عودتهم من منجم ذهب. وكشفت الحادثة عن مقاول يورد العمالة الرخيصة، لا سيما الأطفال، للبحث عن الذهب في مناجم مهجورة.
المناجم مستمرة
هجر العمل في المناجم ليس وارداً لكن اتباع معايير ومقاييس السلامة والأمان يجب أن يكون مفعلاً. ويشير عديد من التقارير الحقوقية إلى وجود هوة كبيرة بين ما يفترض من أصحاب المناجم والشركات الكبرى المنتفعة بها اتباعه من قواعد وما يتم تطبيقه فعلياً لصالح عمال المناجم.
يشير التقرير السنوي الصادر عن "مبادرة المعادن المسؤولة" الحقوقية المعنية بحقوق عمال المناجم والعمل الأخلاقي في مجال التعدين (2020) إلى عدم التزام أغلب الشركات ورجال الأعمال الضالعين في المنجم بحقوق العمال. وتم تقدير نسبة الالتزام بحقوق الإنسان في هذا القطاع بـ19 في المئة فقط.
عدد مذهل من الدراسات والتقارير والأوراق تم إعدادها عن المسؤولية الأخلاقية لأصحاب الشركات المالكة والمنتفعة من المناجم تجاه العمال، لكن هذا العدد المذهل لم يترجم فعلياً، لا على سطح الأرض أو تحتها.
البحث عن المواصفات الوظيفية لعمال المناجم من البالغين عادة تبدأ باللياقة البدينة وقوة العضلات والمهارات الجسدية وتنتهي عندها أيضاً. بعض الشركات تدرج متطلبات مثل الإلمام بالقراءة والكتابة، أو القدرة على العمل ضمن فريق، أو اتباع الأوامر وطاعة القرارات، لكن تظل القدرات الجسدية سائدة. وهذا ربما يفسر اللجوء إليها من الفئات الأكثر احتياجاً والأقل مطالبة بالحقوق والأعلى سكوتاً على ضياعها.