من المؤكد أنهم لم يكونوا مخطئين كل أولئك المؤرخين والباحثين الذين نظروا إلى رينيه ديكارت باعتباره أكبر الفلاسفة الفرنسيين على مر العصور، وكذلك لم يكونوا مخطئين إذ وصفوه دائماً بأنه واحد من أكبر الفلاسفة العقلانيين في التاريخ. غير أن هذين التأكيدين، على صحتهما المطلقة، يظلان في حاجة إلى إعادة نظر وليس على ضوء كتابات ديكارت الفكرية، بل على ضوء سيرة حياته المليئة، على أية حال، بشتى أنواع التناقضات التي قد يكون علينا للوهلة الأولى أن نتفحصها جيداً وأن نعود إليها دائماً بوصفها لا تستقيم مع البعد العقلاني في ذلك المزيج المدهش الذي يشكله تفحص فكره على ضوء حياته وتفحص حياته على ضوء فكره، إذ نجد الهوة واسعة بين الفكر والحياة، وذلك بدءاً من توقعه بأنه سيعيش بالتأكيد حتى يبلغ الـ100 عام فإذا به يموت وهو بالكاد بلغ الـ50 ونيفاً، وصولاً إلى تلك النظرية التاريخية التي سادت لسنوات مفترضة أنه لم يمت بنزلة البرد التي أصيب بها بعد خمسة أشهر من استضافة كريستينا ملكة السويد له، بل بفعل مؤامرة حيكت ضده في العاصمة السويدية من دون أن يحدد أصحاب نظرية الاغتيال تلك ما إذا كان قاتلوه رجال دين كاثوليك كانوا يخشون أن تقوده الملكة كريستينا إلى اعتناق البروتستانتية صارفة إياه عن إيمانه الكاثوليكي، أو رجال دين بروتستانت خشوا على ملكة السويد تأثرها به واعتناقها الكاثوليكية تحت تأثيره. ونعرف أن كثراً من المؤرخين سيتخلون عن كلتي الفرضيتين، لكن ثمة دائماً من يبقى حائراً بينهما.
ديكارت بعيداً من وطنه
غير أن ذلك يبقى من أضأل الخبايا والتناقضات المحيطة بحياة ديكارت شأناً. الأهم منها يبقى ارتباطه بفرنسا وتراثه الفكري الذي من الغريب أنه لم يبدأ بتحبيره إلا بعد أن تجاوز الـ30 من عمره، وهو الذي أمضى النصف الأول من السنوات التي عاشها غير مبال بالفلسفة التي لن يدن بها إلا في "بريدا" الهولندية التي كان يزورها ذات يوم قادماً من مكان إقامته في البلاد الواطئة التي كانت تسمى "الأقاليم المتحدة" وتناضل ضد الاحتلال الإسباني، وكان ذلك إثر تعرفه في بريدا على الطبيب الهولندي المتنور إسحاق بيكمان في الشارع فباتا صديقين منذ خريف عام 1618. وهكذا تحت تأثير بيكمان وضع ديكارت بلغته الأم، الفرنسية، كتابه الأول والذي سيبقى الأهم بين مؤلفاته "خطاب المنهج" ليتبعه بكتبه الأخرى التي لن يقل معظمها أهمية عن ذلك الكتاب مثل "الهندسة" و"تأملات ميتافيزيقية" في قسميه و"الشك" و"فعل الإيمان" و"مبادئ الفلسفة" و"رسائل إلى إليزابيث" وبالطبع "أهواء الروح".
والحقيقة أن ديكارت قد عبر في كل تلك النصوص عن إيمان كاثوليكي حتى وإن كانت الكنيسة ولا سيما محاكم التفتيش التابعة لها قد اعتبرته مارقاً وحظرت على المؤمنين قراءة كتبه وعلى الناشرين نشرها وربما لمجرد دنو الفيلسوف من معاصريه من أمثال غاليلي... وربما يعود إلى ذلك الموقف تفضيل ديكارت الانتقال للعيش في البلاد الواطئة على رغم بروتستانتيتها وتمسكه هو بالكاثوليكية كفلسفة ولكن أيضاً عن حذره، وهو الذي كان يقول عن نفسه إنه لا يسير قدماً في هذا العالم إلا مقنعاً، أي بحذر شديد!
نهاية سويدية
لقد عاش رينيه ديكارت (1596 – 1650) النصف الأول من حياته، كما أشرنا في فرنسا ليعيش النصف الأخير في هولندا إذ أتيح له من الحرية ما مكنه من وضع مؤلفاته الكبرى، ولكن ذات يوم ها هو ذا ينتقل إلى السويد آملاً في أن يعيش زمناً طويلاً في حمى ملكتها كريستينا التي كانت معروفة بتنورها وحبها للثقافة، فأدرك المفكر أن في إمكانه هناك أن يحوز على قدر كبير من الحرية في وقت كان يأمل في أن تغدق عليه الملكة كرمها الأسطوري، فتعوض عليه شظف العيش الذي كان من نصيبه طوال نحو ربع قرن في روتردام حيث كان يكتفي بمردودات كتبه وبعض الموارد المالية التي كان يؤمنها له تدريسه الفكر والعلوم لأبناء العائلات الموسرة المنفتحة على حياة بورجوازية مستجدة، وسط مناخ من التسامح الديني الذي كان فريد نوعه في أوروبا التي كانت قد بدأت تشهد اندلاع الحروب الدينية بين أتباع البابا واللوثريين البروتستانت بخاصة. وكان ديكارت على أية حال يأمل في أن يستفيد من نفس التسامح بعيداً من تلك الحروب لدى الملكة المتنورة التي كان يقال إن بلاطها كان مركز الفكر في الجزء الشمالي من أوروبا كما كانت هي تهوى المناقشات الفكرية و"تخوضها بعمق" كما أكد له مثقفون كبار عرفوها عن قرب. غير أن ديكارت وبعد أن بات جزءاً من بلاطها وواحداً من محاوريها سرعان ما اكتشف أنها أقرب إلى أن تكون امرأة غريبة الأطوار بالكاد تفقه شيئاً من شؤون الفكر الحقيقية. وجدها مدعية أكثر منها حقيقية، بل وجد تصرفاتها في منتهى الغرابة ولا سيما حين كانت تستدعيه عند الساعة الخامسة صباحاً، على سبيل المثال، حيث تكون قد طرأت لها فكرة فلسفية تتعجل مناقشتها، ثم حين يسرع إليها وسط برد ستوكهولم القاسي تترك له رسالة تفيد أنها غير قادرة على استقباله.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
5 أشهر من العذاب
لقد أمضى ديكارت الأشهر الخمسة التي تلت وصوله إلى حمى الملكة كريستينا في مثل تلك الحال، ليقر قراره في نهاية الأمر على العودة إما إلى فرنسا وإما إلى روتردام، لكنه أصيب هنا بذات الرئة من جراء رحلاته الصباحية إلى قصر الملكة متلازماً مع إحباط مزدوج، من ناحية لأن الملكة كانت نادراً ما تستقبله - وربما لأنها نمى إليها أنه بات يتحدث علناً عن "ضحالتها الفكرية" - وهو الذي كان يبني آمالاً كباراً على ذلك الاستقبال، ومن ناحية ثانية لأنه سرعان ما اكتشف أنها حتى حين تستقبله، بالكاد كانت أحاديثهما تدنو من قضايا فكرية حقيقية. والحقيقة أن ذات الرئة سيؤدي وفي كلام رسمي إلى وفاته فيما كان يفكر بالرحيل، لكن كثراً تحدثوا حينها عن تلك المؤامرة الافتراضية التي زعموا أنها تمثلت في مزج سم الآرسنيك في طعامه وشرابه على يد أولئك الذين رغبوا بالتخلص منه سواء كانوا من "أهله" الكاثوليك أو من "خصومه" البروتستانت. أو حتى من رجال البلاط الذين لم يفرحهم ولم يفرح ملكتهم كونه قد بدأ يعاملها بشيء من الاستخفاف، وهي التي كانت تعد نفسها نداً له في شؤون الفكر. ومهما يكن حتى وإن كانت نظرية المؤامرة، وبصرف النظر عن محط الاتهامات فيها، قد بقيت مخيمة كسؤال كبير في تاريخ صاحب المقولة الشهيرة "أنا أفكر، إذاً فأنا موجود"، فإن مؤكديها قد تلاشوا مع مرور الوقت لتبرز نظرية الموت بفعل برد ستوكهولم أكثر صدقية. ومع ذلك حتى ولو كان ثمة إجماع دائم من حول أهمية رينيه ديكارت في تاريخ الفلسفة الإنسانية والعقلية، ثمة أيضاً إجماع، سلبي هذه المرة، من حول ضعف شخصيته وميتافيزيقية فكره الذي جعله يركن في بعض الأحيان إلى أحلامه كما إلى مخاوفه متعاملاً معها كمصدر لأفكاره يستمد منها مواقفه وتأكيداته الأكثر علمية، جاعلاً إياها جزءاً من فلسفته مهما كان مستوى العقلانية في تلك الفلسفة.
ومن المؤكد أن هذا البعد الذي يكاد يكون غيبياً خالصاً في مسار ديكارت الفكري، هناك دائماً في بلده الأصلي فرنسا، من يعزوه إلى التأثيرات التي مارستها عليه سنوات الغربة الطويلة التي شهدت ولادة كل تلك التناقضات التي وسمت فكره وحياته، وجعلت عدداً من مواطنيه الأكثر تعصباً وشوفينية يرون دائماً أنه لو اختار البقاء في فرنسا لما طغت الغيبية على حياته وفكره، ولكان عاش الـ100 عام التي كان وعد نفسه ومحبيه بعيشها وهو في شرخ شبابه. ويقيناً أن هذا لم يكن مؤكداً وكذلك لم يكن من الأكيد أنه لو لم يغترب لكان نتاجه الفكري الحقيقي أكثر نقاءً مما هو. فالواقع، بعد كل شيء، هو أن الاغتراب كان العامل المؤسس لمكانة ديكارت كواحد من ألمع فلاسفة تاريخ الفكر.