كان تولستوي يقول: "تصوروا جنكيزخان مع هاتف"، لكن غزة في مواجهة مع "جنكيزخان إسرائيلي" لديه أحدث تكنولوجيا الاتصال وأكثر آلات القتل تطوراً وفتكاً، لا هو يستطيع التوقف عن التدمير المنهجي للعمران والقتل الهمجي للمدنيين الأبرياء خوفاً من النهاية الحتمية لحياته السياسية، ولا ما يراهن عليه، وسط الدعوات الأميركية المعلنة إلى حكومة أخرى، سوى التحول إلى المزيد من التطرف في المجتمع الإسرائيلي الذي صدمه "طوفان الأقصى" وعجز الجدران والتكنولوجيا والجيش عن حماية الإسرائيليين في العمق لا فقط في غلاف غزة. وكلما تمادى نتنياهو في حرب الإبادة وجد نفسه يغرق أكثر في مستنقع لا مخرج منه.
ذلك أن زلزال "طوفان الأقصى" زادت مفاعيله بعجز العملية البرية في غزة عن "القضاء على حماس" كما عن "كي الوعي" الفلسطيني واستعادة الرهائن وتقليل خسائر الضباط والجنود، وحتى عن وقف الرشقات الصاروخية على تل أبيب نفسها.
وتقول "النيويورك تايمز" إن 7 أكتوبر "أحدثت خلافاً داخل اليمين وصدمة لليسار وتساؤلات عن التعايش مع الفلسطينيين"، مع أنها أعادت توحيد الصفوف بعد الانقسام العمودي حول مشروع نتنياهو للقضاء على استقلالية القضاء، والاقتراب من حرب أهلية ورفض أعداد كبيرة من الضباط والعسكر الاحتياطيين في سلاح الطيران وسواه تلبية الدعوة إلى الخدمة.
أبسط ما قالته الروائية دوريت رابينيان هو "شعرت بأن هويتنا قد سحقت، اعتدنا أن نكون إسرائيليين، نحن الآن يهود"، أما يوسي كلاين هاليفي من معهد "شالوم هارتمان" ومؤلف كتاب "رسائل إلى جاري الفلسطيني" حول ضرورة التعايش، فإنه اختصر الموقف بالقول: "هذه هي الفرصة الأخيرة أمام هذا البلد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا بل إن "الحريديم" المتشددين دينياً المعفيين من الخدمة في الجيش بحجة الانكباب على الدراسات الدينية بدأ 30 في المئة منهم يؤيدون فكرة الانضمام إلى الجيش، لكن هذا كله يقود إلى العكس من رهانات نتنياهو، فاليمين المتشدد يرى فرصة لتحقيق الحد الأقصى من "الحلم الصهيوني"، ويعتبر أن نتنياهو صار حصاناً خاسراً، ولا بد من حصان آخر أكثر يمينية مكانه.
أما رهان الرئيس الأميركي جو بايدن على تسوية سياسية ضمن "حل الدولتين"، فإنه سيصطدم بمزيد من قوة اليمين، وليس مجرد شطحة قول شيرام فرينكل في "نيويورك تايمز" إن عملية "طوفان الأقصى" أسهمت في "قتل حل الدولتين داخل المجتمع الإسرائيلي".
وليس لدى "حماس" سوى خيار وحيد هو المواجهة حتى من قبل أن يضعهم نتنياهو وجنرالاته أمام معادلة صغيرة: "الاستسلام أو الموت"، وهي تبدو قادرة على المواجهة في حرب طويلة ما دامت تصنع أسلحتها في الداخل، وفي يدها ورقة قوية إضافية هي حساسية مسألة الرهائن بالنسبة إلى المجتمع الإسرائيلي، حيث التظاهرات اليومية المطالبة بوقف النار للتفاوض على عودة الرهائن، لكن المشكلة أن كل الكلام على أن "طوفان الأقصى" عملية فلسطينية مئة في المئة ونفي قائد الحرس الثوري الجنرال حسين سلامي قول أحد مساعديه إن العملية كانت جزءاً من "الانتقام لقاسم سليماني"، لا يلغي انطباعاً يراد له أن يسود.
خلاصة الانطباع أن أي نصر لـ"حماس" وهو حق لها وللشعب الفلسطيني، سيترجم على أساس أنه "انتصار للمشروع الإيراني ومحور المقاومة" و"وحدة الساحات"، وهذا يعني حاجزاً آخر بعد حاجز اليمين الإسرائيلي على الطريق إلى "حل الدولتين".
خلال حرب السنوات الثماني بين العراق وإيران كان الدكتور هنري كيسنجر ينظر لأمر مستحيل: "أن تنتهي الحرب بطرفين خاسرين"، والظاهر أن في أميركا وأوروبا والمنطقة من يتمنى أن تنتهي حرب غزة بخسارة طرفيها الفلسطيني والإسرائيلي، وهذا ضد طبيعة الحروب والصراعات، فضلاً عن أنه ليس الطريق المضمون والآمن إلى "حل الدولتين".
لكن أميركا ليست جاهزة دائماً لحماية إسرائيل التي انكشف عجزها عن حماية شعبها، ودروس التاريخ حاضرة، شبينغلر في كتابه الشهير "أفول الغرب" يقول: "نهاية قرطاجة أعلنت عملياً نهاية روما" ولو بعد حين. ونهاية "حل الدولتين" تعلن عملياً، لا فقط عدم قيام دولة فلسطينية بل أيضاً نهاية إسرائيل كدولة ولو بعد حين. ألم يدرك الجنرال موشي ديان الخطر مبكراً حين أصدر كتاباً عنوانه: "هل نحمل السيف إلى الأبد؟".