Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما فاجأت صحافة العالم قراءها بخبر لا يصدق: "أخيرا ابتسمت غريتا غاربو!"

الرقابة السوفياتية تكافئ الروس بالسماح بعرض "نينوتشكا" بفضل حواراته الماكرة

مشهد من فيلم "نينوتشكا" للوبيتش ووايلدر (الفيلم)

ملخص

نينوتشكا التي وصلت إلى باريس لتناضل ضد افتتان الرفاق بعاصمة النور ستقع فريسة لفتنة من نوع آخر

حدث ذلك في عام 1939، العام نفسه الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الثانية التي ستكون طوال ست سنوات في خلفية واحدة من أكثر المجازر دموية وتدميراً في العالم، بل ربما أيضاً في تاريخ البشرية، لكن اندلاعها لم يفاجئ أحداً يومها. فحتمية وقوع تلك الحرب كانت بادية لكل ذي عينين يمكنه بهما أن يرى ما حوله. ومع ذلك، لئن كان إرنست لوبيتش، المخرج الألماني المناوئ للنازية تماماً، قد اختار ذلك العام لينجز فيه فيلماً سياسياً هوليوودياً جديداً مبتعداً فيه عن التعبير عن كراهيته لأدولف هتلر، فإنه لم يبتعد عن السياسة في ذلك الفيلم كثيراً مكتفياً بالحديث عن السياسة كما يتصورها في العلاقات بين "العالم الحر"، أي الغرب، والمنظومة الاشتراكية، أي الاتحاد السوفياتي وملحقاته في أوروبا الشرقية، فما ذلك إلا لأن الاستديوهات الهوليوودية التي أنتجت الفيلم، كانت تملك عقداً مع نجمة النجوم في ذلك الحين: غريتا غاربو، ولا بد من تنفيذ العقد. ومن هنا، حتى إذا كان قد تقرر أن يكون الفيلم كوميدياً، فإن مفاجآته الكبرى سيختصرها العنوان المشترك الذي حملته الصفحات الرئيسة في الصحف العالمية على أثر عرض الفيلم، ويقول بالتحديد"، "ها هي غاربو تبتسم أخيراً!".

 

وكما يمكننا أن ندرك، فإن غاربو المعنية كانت غريتا غاربو. أما المفاجأة في الخبر، والتي استدعت تلك العناوين، ولا سيما علامة التعجب التي تبعتها، فيكمن في أن من المعروف حينها أن الابتسامة لا تعرف طريقها إلى محيا تلك النجمة السويدية الكبيرة التي تمكنت ما إن انتقلت إلى هوليوود من أن تصبح سيدتها من دون منازع. ومن هنا، تدافع ملايين المتفرجين حول العالم ليشاهدوا نجمتهم المفضلة تبتسم... للمرة الأولى.

وكان الخبر صحيحاً

والحقيقة أن أمل أولئك المتفرجين لم يخب، إذ إن الخبر كان صحيحاً، حتى وإن كان يبدو أن غاربو لم تكن في نهاية الأمر راضية عما فعلت، فإذا بها تسرع إلى اعتزال التمثيل لتتحول من نجمة إلى أسطورة، لكن هذه حكاية أخرى. أما حكايتنا هنا فتتعلق بالفيلم نفسه والذي لعبت فيه تلك الفنانة دور عميلة سوفياتية تدعى "نينوتشكا" أرسلها رؤساؤها في الـ"كي جي بي" إلى الغرب في مهمة بدأت فائقة الجدية لتصل إلى الابتسامة التي أضحت خبر الموسم على رغم نذر الحرب وتهديدات هتلر التي سينفذها مغرقاً العالم في الدمار. من هنا كانت المفاجأة التي "صعقت" الجمهور حتى وإن كان لم يطرح على نفسه منذ البداية ذلك السؤال الذي كان يتعين عليه طرحه: ترى هل كان يمكن حقاً لفيلم، يخرجه لوبيتش عن سيناريو وحوار لبيلي وايلدر، وكاتبه الأثير، في ذلك الحين، تشارلز براكيت، أن يتوقع له ألا يكون فيلماً كوميدياً؟ أبداً، ولكن، في المقابل، كان يمكن أن يظل الفيلم علامة في السينما الكوميدية في العالم، من دون أن يشاهد ابتسامة بطلته، لكنه شاهدها، ومن هنا أتت المفاجأة الضخمة التي استدعت نسيان الصحافة كل ما يحدث في العالم أمام ابتسامة غاربو.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على طريقة وايلدر

ومع ذلك، كما قلنا، كان الفيلم سياسياً إلى حد كبير، ولكن على طريقة لوبيتش ووايلدر بالتأكيد. ولعل تلك الشراكة بين مخرج الأفلام الكوميدية المدهشة (لوبيتش)، وبين ذاك الذي سيتابع الطريق من بعده خلال المراحل التالية (وايلدر)، كانت هي ما داعب خيال غريتا غاربو لترضى بأن تبتسم أخيراً. فهي كانت قد لعبت على الشاشة الهوليوودية أدواراً لافتة لشخصيات تاريخية أو متخيلة ولشخصيات مضطهدة، لكنها لم تكن قد لعبت دور عميلة سرية آتية من وراء ما سيسميه تشرشل (ونستون) بعد سنوات "الستار الحديدي"، وفي مهمة لا تقل سرية لا تضعها في مجابهة مع الغرب، بل مع زملاء لها، وانطلاقاً من مواقف هزلية بديعة للنظر بشيء من الطرافة إلى تلك التي تعتبر ثاني أقدم مهنة في التاريخ: الاستخبارات. وأولئك الزملاء هم ثلاثة من رجال الـ"كي جي بي"، كانت أجهزتهم في موسكو قد بعثت بهم إلى باريس، حيث سرعان ما افتتنوا بالعاصمة الفرنسية وملذاتها إلى حد أن موسكو سرعان ما لاحظت تقاعسهم عن القيام بما يكفي من السرعة بالمهمة التي كانت قد أماطتها بهم. ولم تكن مهمة سياسية على أية حال، بل تقوم في تسويق مجموعة من مجوهرات كانت السلطات السوفياتية قد صادرتها من بين ممتلكات دوقة كبيرة اعتقلتها لكونها تنتمي إلى الطبقة العليا في المجتمع "الطبقة التي كانت تمتص دم الشعب"، بحسب ما ستؤكد العميلة "الرفيقة نينوتشكا" بكل جدية وصرامة، إذ تكشف، في باريس، عن حقيقة عملها الاستخباراتي معبرة عن إيمانها بما تفعل عبر رغبتها في إنجاز ذلك بسرعة لتعود مظفرة إلى "الوطن الاشتراكي العظيم" بحسب تعبيرها.

يا عشاق العالم!

لكن نينوتشكا التي وصلت باريس لتناضل ضد افتتان الرفاق بعاصمة النور، ستقع، بدورها، فريسة لفتنة من نوع آخر، وإن كانت تمت بصلات عديدة لانبهارها بالمكان. في باريس، وبفضل وقوعها في الغرام، وتحديداً في غرام الشخصية التي يلعبها ملفين دوغلاس في الفيلم (دور الكونت الرأسمالي دولغا)، ومن هنا سنراها تدريجاً تحول الشعار الشيوعي الصارم "يا عمال العالم اتحدوا!"، إلى شعار جديد يكاد يناقضه تماماً: "يا عشاق العالم اتحدوا!"، مكتشفة، من ناحيتها، كل السعادة التي تكمن في تبديل حرفين فقط في العبارة "البروليتارية" الشهيرة، تبديلاً حول العمال إلى عشاق وقلب في طريقه هيكلية الأيديولوجية التي انبنت عليها فكرانية بطولها وعرضها. ويقيناً أن ذلك الانقلاب إنما تمثل في تلك الابتسامة الشهيرة التي ترتسم على محيا النجمة الكبيرة، ما إن تتحول إلى عاشقة وتكف عن الحديث عن شرعية مصادرة حكومتها تلك المجوهرات التي "سرقتها الدوقة من مال الشعب"، وها هو الكونت يود أن يقتنيها، بدوره، وبأموال رأسمالية "سرقها هو الآخر من مال الشعب". وما ابتسامة غاربو هنا سوى علامة على التغيير الذي طرأ عليها، وما التغيير سوى كلام في السياسة والأيديولوجيا لا يحمل أي خبث على أية حال، بل لا يعدو كونه دعوة إلى المصالحة بين الشعب والعمال والـ"كي جي بي"، من جهة، وبين أصحاب المال الذين يصبحون مقبولين وتصبح أموالهم من حقهم حلالاً زلالاً حين يصبحون في صفوف العشاق! تماماً كما حدث لنينوتشكا.

الرقابة سمحت بعرضه في موسكو

وطبعاً لأن الفيلم من كتابة بيلي وايلدر (الذي سيشتهر بحسه الكوميدي المباشر ولا سيما حين يدنو بسيناريواته، ثم لاحقاً بأفلامه من حافة الأيديولوجيا)، إلى جانب المخرج الذي اشتهر بأفلامه الكوميدية (التي اعتادت أن تكون شديدة القرب من السياسة الآنية بخاصة). والاثنان كانا مبدعين كبيرين يتطلع كبار نجوم هوليوود للعمل عبر نصوص الأول وإدارة الثاني، كان من الطبيعي للافتتان بهما وبأسلوبهما الناعم و"الواقعي" في تعبيره عن خطابه، أن يغري غريتا غاربو بأن تبتسم أخيراً في لقطة معبرة من دون أن تتخلى ملامحها عن تجهمها المتواصل، مما جعل الابتسامة تستحق إعجاباً عاماً وعناوين لافتة حتى في الصحافة الأكثر جدية وليس في هوليوود وحدها بالطبع. ففي نهاية الأمر، لا شك أن العالم كله يهتز حين تبتسم كبيرة نجماته، والابتسامة على وجه هذه الأخيرة تصنع العجائب حين تعشق ولو أن عاشقها كونت. أما رؤساؤها في أروقة الكرملين فإن ذلك كله لا يبدو أنه يثير غيظهم، والحقيقة أن الذين افترضوا ذلك معتبرين الفيلم "دعاية مناهضة للشيوعية" سيتراجعون عن ذلك الموقف بسرعة، بخاصة بعد أن تسمح موسكو نفسها، وإن بعد شيء من التردد بالنظر إلى البطء الذي كان معتاداً لدى أجهزة الرقابة. ويبدو أن ثمة عبارات كثيرة راقت للرقباء ومنها مثلاً الجزء الأول من حوار يدور أول الفيلم حين يسأل الرفاق الثلاثة زميلتهم الواصلة من موسكو عن "كيف الحال في روسيا؟"، فتجيبهم بكل هدوء وجدية "عال العال، بخاصة أن المحاكمات الأخيرة كانت ناجحة. من ثم سيكون هناك روس أقل لكنهم سيكونون أفضل حالاً، بالتأكيد!"

المزيد من ثقافة