ملخص
اسمه كورت فلاش ومهنته أستاذ جامعي يدرس الفلسفة ولا سيما فلسفة العصور الوسطى
اسمه كورت فلاش ومهنته أستاذ جامعي يدرس الفلسفة، ولا سيما فلسفة العصور الوسطى في جامعة "بوخوم" الألمانية التي تعد عادة معقلاً لهذه الفلسفة في العالم الجامعي الأوروبي. ولئن كان فلاش قد تميز بصمته الألماني الذي يجعله يفضل القيام بعمله من دون ضجيج، فإن الذين يعرفونه، وكانوا قلة حتى العقد الأول من القرن الجديد كان يعتبرونه آخر الورثة الكبار لمدرسة "فرانكفورت" التي أحدثت، ولا تزال تحدث، قلبة كبيرة في تدريس الفلسفة، وانطلاقاً منها، علم الاجتماع والتحليل النفسي، طوال القرن الذي انقضى على تأسيسها على يد ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو، وإريك فروم وحتى ويليام رايخ وهربرت ماركوزه، وتالياً ليورغن هابرماس الذي حتى الظهور المدوي لكورت فلاش، كان يعتبر الوريث الأشهر لتلك المدرسة الفكرية الكبرى.
لكن فلاش تمكن، وربما من دون أن يسعى إلى ذلك، من أن يحل في الشهرة بين "الفرانكفورتيين الجدد" في مكانة لا تقل، اليوم، أهمية عن مكانة هابرماس. و"الفضل" في ذلك لكتاب فرنسي صدر في عام 2008، كما لتصريحات أدلى بها قبل ذلك البابا بنديكتوس الذي وصل إلى قمة التراتبية الكاثوليكية في الفاتيكان قادماً من ألمانيا في سابقة يومها، ليصبح، في سابقة أخرى، أول حبر أعظم يزاح عن مركزه السامي منذ عصور طويلة. ولنذكر هنا منذ البداية بأن الكتاب والبابا المذكور كانا وراء الشهرة التي طاولت كورت فلاش بسبب حرصه على توقيع بيانين فلسفيين ضدهما في سابقة أخرى بالنسبة إليه، هو الذي حرص، قبل ذلك دائماً، على العمل بصمت ومن دون عرائض أو بيانات.
كتابان لمعركة واحدة
بل إن فلاش، الذي يشتغل عادة بدأب يكاد يكون بنديكتياً جعل اثنين من كتبه الأخيرة سلاحه في تلك "المعركة" التي خاضها حينها ضد الكتاب الفرنسي المذكور كما ضد البابا. وما يجمع بين الكتابين و"المعركة" يمكن تلخيصه بكلمات قليلة: دور الفلسفة العربية في انتقال الفكر العلمي، بل الفلسفي تحديداً، في العصور الوسطى إلى الفكر الأوروبي الحديث بعدما كان الفكر الإغريقي المؤسس قد بات منسياً. وبالنسبة إلى فلاش، كان ثمة تعمد فرنسي من ناحية، وألماني من ناحية ثانية، لتغييب ذلك الدور. ومن هنا أتى توقيعه العريضتين، جنباً إلى جنب مع عدد من كبار الفلاسفة والباحثين والأساتذة الجامعيين الأوروبيين كنوع من السجال الفكري والفلسفي، لا الأيديولوجي أو حتى السياسي مع منكري ذلك الدور، وفي مقدمهم البابا الذي نعرف أنه أدلى وهو في سدة الفاتيكان بتلك التصريحات التي قد تكون أثارت غيظ كثر من العرب والمسلمين، لكن أولئك المفكرين الأوروبيين تبدوا أكثر فاعلية في التصدي لها، وهنا لا بد من القول إن فلاش، وبعد خوضه المعركة عاد إلى صمته وعمله الدؤوب، مكتفياً بالانتصار الذي حققه، وطبعاً على المستوى الفكري، هو وزملاؤه من المتخصصين في فلسفة العصور الوسطى ليصدر، كنتيجة لذلك، واحداً من آخر الكتب الكبرى التي تناولت تلك المرحلة الانتقالية من مراحل الفكر الإنساني، وهو كتابه "مدخل إلى فلسفة العصر الوسيط" الذي ترجم، من فوره، إلى عدد كبير من اللغات ليصبح، على رغم قلة عدد صفحاته نسبياً (بالكاد أكثر قليلاً من 300 صفحة) نوعاً من الاستكمال والاستطراد لكتاب الفرنسي إتيان غيلسون حول الموضوع ذاته، والذي يفوقه أضعافاً في عدد صفحاته، والذي كان يحتاج في الحقيقة، وبإجماع المؤرخين، إلى تطوير وتجدي، وقد انقضى قرن ونيف على صدوره، وهي طبعاً فترة زمنية كانت كافية لجعل كثير مما في الكتاب يبدو عتيقاً من دون تشكيك في نزاهته الفكرية على أية حال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إنكار مزدوج
ولئن كان كتاب فلاش قد ولد انطلاقاً من السجال الحاد الذي خاضه هذا المؤرخ بصمت لافت، ضد سيد الفاتيكان ليسهم في عزله، كما انطلاقاً من كتاب سيلفان غوغنهايم عن "أرسطو في جبل سان ميشال"، وهو الكتاب الذي يربط مباشرة فكر المعلم إيكهارت بفكر أرسطو، وصولاً إلى فكر القديس أوغسطينوس من دون أن يمر بالأندلسي ابن رشد، كما بالمشرقي ابن سينا، فإنه، أي غوغنهايم، ينضم إلى توما الأكويني وجماعته في إنكار مساهمة الفلسفة العربية، وتحديداً من طريق هذين الفيلسوفين في إيصال فكر أرسطو، بل حتى أفلاطون إلى العصور الحديثة، في تلك النقلة النوعية. وفي هذا الإطار، لم يكن غريباً أن تصبح مساهمات فلاش، ولا سيما في هذا الكتاب الذي نتناوله هنا، كما في كتابه، الذي بات معتمداً بدوره منذ صدوره، حول العلاقة بين "أرسطو والمعلم إيكهارت"، وبصرف النظر عن العريضتين اللتين أسهم في توقيعهما، مساهمات أساسية بالنظر إلى أن فلاش اعتمد، في تحليله العميق، على قرائن علمية وتاريخية لا يمكن لأحد أن يدحضها، بل لم يعد غريباً أن يشتغل فلاش بأكثر، وأدق كثيراً مما فعل إتيان غيلسون قبله بجيلين في الأقل، على إزالة الفوارق بيمن الأفلاطونية ووريثتها النيو - أفلاطونية كما ظهرت بقوة، في مدرسة الإسكندرية من خلال كتابات أفلوطين وسيكاس وفرفوريوس الصوري، أي ما اشتغل عليه نفسه المترجمون والناقلون العرب في المراحل التالية للعصور الوسطى.
تواضع أم تركيز؟
كل هذا لن يفوت الباحث المدقق أن يجده واضحاً، بخاصة في كتاب "مدخل إلى فلسفة العصور الوسطى" الذي، وسط الإجماع الفكري على أية حال، لا السياسي، كان ثمة من أخذ عليه ذلك التواضع الذي يبرز منذ عنوانه. ففي النهاية، لم ينظر إليه على أنه "مجرد مدخل"، ولا على أنه سلاح معركة، بل على أنه تخطيط من شأنه أن يمهد لنوع من إعادة اشتغال على ذلك التاريخ نفسه، إعادة اشتغال تعتبر تلك المرحلة الانتقالية، والتي هيمنت عليها الاشتغالات العربية هيمنة تجعل من الظلم الاكتفاء باعتبار المساهمات العربية في نقل الفكر الأرسطي والأفلاطوني من العصر الإغريقي إلى العصر الحديث، عملاً قائماً بذاته، وذلك بالنظر إلى أن كورت فلاش ينظر هنا إلى الاشتغال الفلسفي العربي من المغرب والأندلس، وصولاً إلى المشرق، وبالطبع مع توقف بالغ الأهمية عند مدرسة الإسكندرية وأفلاطونييها الجدد بوصفهم الممهدين، الذين لم يكن غنى عنهم، لمساهمات مدارس حران ونصيبين وباحثيها ومترجميها الكبار، سواء كانوا من الصابئة أو الكلدانيين المسيحيين، ناهيك بالمفكرين العرب من الذين كان لا بد للخليفة المأمون أن يستعين بهم وبتراثهم اللغوي والفكري حين أسس "دار الحكمة".
ولا بد أن نشير هنا طبعاً إلى أن نظرة فلاش هذه، حتى وإن كانت لا تحمل جديداً على صعيد المعلومات التاريخية اليقينية، ونجد آثارها حتى منذ وقت مبكر لدى ألبرتوس ماغنوس كما لدى رشديي الجامعات الأوروبية في كتاب إرنست رينان "ابن رشد والرشدية"، كما لدى إتيان غيلسون ومتابعيه، فإن التجديد الذي اشتغل عليه فلاش بالتوازي طبعاً مع آلان دي ليبيرا الذي شاركه في التوقيع على العريضتين اللتين افتتحنا هذا الكلام بذكرهما، إنما أتى في مجال التفسير والتحليل، وهو مجال كان هو ما أتاح لفلاش ولو في ذلك الكتاب الذي قد ينظر إليه على أنه بدا أول الأمر كرد فعل، أن يشتغل من جديد على موضوع بات في حاجة إلى دم جديد، كما أنه مجال يدين فيه فلاش إلى تلك المدرسة الفكرية التي لم تصل هي، في حد ذاتها على أية حال، إلى مستوى تؤرخ معه لتلك المساهمة العربية القديمة، الأساسية والتأسيسية في مضمار العودة للدور الذي لعبه الفكر العربي.
ولعل في وسعنا هنا أن نقارن بين هذا الوعي الأوروبي المتجدد، ومن طريق أحد أعمق ورثة مدرسة فرانكفورت التي لم يكن لها، من قبله أدنى اهتمام بأي فكر عربي، سواء كان تاريخياً أو سياسياً، وبين ما حدث بالنسبة إلى المؤرخ العربي ابن خلدون الذي، منذ اكتشفه الفكر الغربي، فترجم مقدمته في الأقل، معتبراً إياها مساهمة أساسية في مجال توسيع دائرة الاهتمام بالتاريخ، بل بالأحرى بما يجب أن يكون علم التاريخ في ارتباطه الجديد لدى ابن خلدون، بالطبع، بعلم العمران، وصولاً إلى المقارنة شديدة الإيجابية بمدرسة "الحوليات" الفرنسية التي أحدثت تجديداً هائلاً في علم التاريخ في القرن الـ20 لم يتوان كثر من الباحثين عن ربطه بالخلدونية وفي الأقل بوصفها إرهاصاً بالجديد الذي أتى به مؤرخو "الحوليات".