ملخص
لكل ذلك أصبحت كتابة أدب الرحلة من أصعب ما يمكنه أن يكتب
لم يعد هناك شيء يكتشف في هذا العالم الذي من حولنا.
قلت هذا وأنا أقرأ كتابين في أدب الرحلة، الأول يسرد فيه صاحبه رحلته من شمال الجزائر، وبالضبط من مدينة مستغانم إلى أقصى الجنوب في الصحراء وبالضبط مدينة أدرار، وفيها يستعرض بعض صعوبات الرحلة في حافلة مهترئة أو تكاد مع توقف في بعض المحطات في مدن على الطريق، وأما الرحلة الثانية فتستعرض رحلة شاب جزائري، هو الكاتب نفسه، إلى المشرق، الأردن والكويت والعراق، وما صادفه في ذلك من متاعب شرطة الحدود إلى العمل في شركة للترجمة.
حين خلصت من قراءة الكتابين، تساءلت ماذا يمكن لتفاصيل رحلة نحو الجنوب أو نحو المشرق أن تضيف من معلومات مقارنة بما يقدمه لنا محرك "غوغل" اليوم، فتقديم صورة عن المدن أو عن بعض المؤسسات يمكننا أن نعثر على معلومات أكثر تدقيقاً وأكثر تفصيلاً عما قدمه هذا الكاتب أو ذاك في نقرة على لوحة الكمبيوتر أو شاشة الهاتف النقال.
هل هي نهاية أدب الرحلة بمفهومه القديم؟ أي كما قدمه لنا هذا الأدب من بداية القرن الثامن وحتى منتصف القرن الـ 20 تقريباً؟
في الربع الأول من القرن 21 أصبح كل شيء مكشوفاً وعارياً ومعروضاً بتفصيل، الإنسان والطبيعة والمؤسسات، ما عاد في الحياة أسرار كثيرة إلا الأسرار العلمية الدقيقة والمؤلمة في الأحيان الكثيرة.
الرحلة الوحيدة التي يمكن أن تحكى وتكتب هي الرحلة إلى الفضاء، الفضاء الذي أبعد من القمر، حتى القمر لم يعُد يثير الفضول لا السياحي ولا العلمي، في مثل هذه الرحلة يمكننا أن نكتشف الجديد واللافت والمدهش، أما على الأرض فيبدو أن باطنها كما سطحها، بحارها كما صحاريها كلها أصبحت لا تثير فضولاً كبيراً.
لقد ماتت الدهشة، دهشة الأمكنة ودهشة ثقافة وفنون من يعمرون هذه الأمكنة، كل شيء تسلّع وأصبح خاضعاً للعبة العرض والطلب.
أصبح العالم ألبوماً مفتوحاً أمام الجميع
حين كتب رفاعة رافع الطهطاوي كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" وهو عبارة عن كتاب رحلة إلى باريس، باريس التي كانت وقتها بعيدة جداً، اليوم هي أقرب من بيت الجار في الحي المقابل، كان القارئ وقتها بكل ما هو عليه من حال من الحصار والعزلة الثقافية والإعلامية يقرأ هذا الكتاب بفضول الباحث عن اكتشاف عالم آخر مليء بالدهشة وبالجديد، عالم مختلف في كل شيء، حضارة وثقافة وسلوكاً ومائدة وتعليماً ونساء ومواصلات وعمارة.
ومثل ذلك كتاب رحلة ابن بطوطة أو رحلة ابن فضلان أو رحلة ابن خلدون أو رحلة جرجي زيدان إلى أوروبا أو رحلة أندريه جيد أو إيزابيل إبرهارد، وهي كتب تقرأ اليوم لا للمعلومات الواردة فيها، بل تقرأ لاكتشاف ما كان يتميز به الإنسان في علاقته آنذاك بالموت والزواج والسلطة والدين والجغرافيا والسحر والنجوم والمرآة والأجنبي والكوارث الطبيعية والجائحات وغيرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في زمننا الراهن هذا، قضت النزعة المعيارية أو النمطية التي تعممت في كل شيء في اللباس والعمارة والسلوك والاستهلاك على كل دهشة، لقد قتلت النمطية كل خصوصية، نسافر جميعنا، أكنا آتين من الجنوب نحو الشمال أو من الشمال نحو الجنوب، من الشرق نحو الغرب أو العكس، نسافر بالطريقة نفسها، في الوسيلة نفسها طائرة كانت أو سيارة أو قطاراً، نجلس على المقاعد ذاتها، تصفعنا أسماء الشركات نفسها.
العالم اكتسحه الذوق الواحد الموحد
حين بدأت الشركات الكبرى متعددة الجنسيات تعبر الحدود من خلال رأسمال كاسح لا يرحم ولا يعترف بالقيم ولا بالخصوصيات، كل همه هو الربح وتعميم فلسفة الاستهلاك بالوتيرة نفسها والهاجس نفسه على الجميع، بدأت ثقافة الاختلاف تختفي وأصبح الإنسان قطعة في ماكينة هذا الرأسمال الهمجي، وشيئاً فشيئاً بدأ العالم يتشابه وجراء ذلك غابت حاسة الدهشة.
لم تعُد الرحلة قطعة من جهنم، باستثناء رحلات المهاجرين غير الشرعيين الذين يغامرون في البحر أو في الصحراء من أجل الوصول إلى أوروبا هروباً من الجوع أو الحروب أو القمع السياسي، وتلك حالة أخرى، باستثناء ذلك كل شيء في الرحلة أصبح مرتباً مركباً ومدققاً مسبقاً، فالمسافر يعرف تفاصيل التفاصيل قبل أن يصل إلى المكان المقصود، بل حتى قبل أن يغادر نقطة الانطلاق، يعرف الطريق الذي سيسلكه براً أو بحراً أو جواً، بالدقيقة والثانية، يعرف تفاصيل المناخ وأحوال الجو من مطر أو ثلج أو ريح أو حرارة أو برودة مسبقاً، يعرف وبالصورة الحية الفندق الذي سيقيم فيه، يعرف مطرح السرير والغطاء والمسبح وأنواع الأكل والمشروبات وأسعارها، ويعرف حتى اسم صاحب الفندق وحجم موقف السيارات وموظفي التدليك وقاعة الرياضة، يعرف كل شيء، لذا ما عادت هناك رغبة لكتابة ما يراه حين يصل إلى المكان المقصود لأنه يعرفه ويعرفه غيرك في كل مكان، غيرك يعرف ما طبيعة أكلك ومرقدك والحي والعمارة والمصعد والحفلة التي ستحضرها أو لا تحضرها.
اليوم قبل أن تجمع أغراضك في حقيبة سفرك، حقيبة هي الأخرى تشبه عشرات الحقائب التي سيسافر أصحابها معك وفي الاتجاه نفسه أو المعاكس له، الشركة نفسها والنوع نفسه والحجم نفسه واللون نفسه، قبل أن ترتب أغراضك تفتح على محرك "غوغل" لتعرف التفاصيل عن طريقك وطيارتك والمدينة التي ستطير إليها والعادات واللغات المستعملة هناك ونشرة الأحوال الجوية.
اليوم حتى العملة المحلية ما عاد لها وجود، بطاقة بنكية تكفي وأكثر، والجميع يحاسب الجميع بعملة واحدة هي الدولار، وغير ذلك تفاصيل صغيرة لا تؤثر ولا تشكل فارقاً.
اليوم تأكل طعام الهند في باريس، وتشرب النبيذ الفرنسي في بكين، وتسمع أغاني الراي في اليابان وأم كلثوم في النرويج، كل شيء رحل وغيّر مكانه.
أمام هذا الواقع الموحد المنمط البارد العاري ماذا يمكن أن يكتب قلم اليوم في باب أدب الرحلة؟ لا الأمكنة عادت غريبة ولا الأزمنة ولا الطبيعة، كل شيء مكشوف مسبقاً، سطحت النمطية الأحاسيس، وأصبح كل شيء يشبه كل شيء ولا يشبه شيئاً.
ما يمكن أن تكتبه الرحلة اليوم هو تلك العلاقات الإنسانية التي قد تحدث في ثنايا الرحلة، وهذه الأمور لا يمكن أن يكتشفها إلا الأديب الذي يقارب يوميات الرحلة لا في ظاهرها الصوري ولكن في أعماقها التي يكون فيها الإنسان هو الرأسمال الأكبر، لكل ذلك أصبحت كتابة أدب الرحلة من أصعب ما يمكنه أن يكتب.