"كل مكتبة لبيع الكتب هي نسخة مكثفة من العالم. أنت لا تحتاج إلى جواز سفر لتتجول داخل مكتبة، وتقترب من العوالم التي تقدمها إليك والتي تختصرها في لفظة "العالم"... المكتبة خريطة بداخلها جوٌ متميز من الحرية، يتباطأ فيها الزمن، وتصبح السياحة نوعاً مختلفاً من القراءة". ما سبق هو بعض خلاصات كتاب "زيارة لمكتبات العالم: أشهر مكتبات بيع الكتب"، للروائي الإسباني خورخي كاريون (1976) الذي ترجمته ريم داوود، إلى العربية وصدر عن "دار العربي للنشر والتوزيع في القاهرة". الكتاب تُرجم إلى أكثر من عشر لغات وحصل مؤلفه على جائزة "أناغراما" في العام 2013.
ومن استخلاصات رحلة المؤلف أن "هناك وفرة في كتب إنكار الحقائق في تركيا، والكتب المعادية للسامية في مصر، والإصدارات المعادية للإسلام في إسرائيل".
مكتبة شكسبير
ينطلق المؤلف من إسبانيا إلى باريس حيث مكتبة "شكسبير أند كومبني"، ويحكي عن أشهر المؤلفين الذين احتضنت تلك المكتبة نقاشاتهم، ومنهم جيمس جويس وإرنست هيمنغواي وشعراء "جيل البيت" وغيرهم. هؤلاء المؤلفون الذين تعاونوا مع أصحاب المكتبة الذين قاموا بتوزيع الكتب الممنوعة من النشر وقاوموا الاحتلال النازي والحرب. كما سيعبر المحيط إلى الأميركتين، فيزور أشهر المكتبات في الولايات المتحدة الأميركية مثل "سيتي لايتس" في سان فرانسيسكو. بعدها سينطلق إلى المكسيك ليشتري الكتب من أكشاك "بلازا دي آرماس"، التي تشبه أكشاك سور الأزبكية في القاهرة وأكشاك شارع النبي دانيال في الإسكندرية. وسيحكي عن أصحاب الكتب المستعملة التي يبيعونهاعلى الأرصفة وفي جراجات منازلهم. ثم سينطلق إلى مصر ومنها إلى فلسطين ثم إلى المغرب، وسيتحدث عن أشهر الكتاب العرب مثل نجيب محفوظ ومحمد شكري. وسيزور كذلك أشهر المكتبات في تركيا والصين واليابان، وسينطلق باحثاً عن النسخ النادرة لأمهات الكتب، وسيحكي عن مغامراته مع الباعة الذين أرادوا بيع الكتب بأعلى الأسعار له، لكنه "انتصر" في النهاية ونجح في الحصول عليها "بأسعار مناسبة".
يرى كاريون الحاصل على الدكتوراه في "الإنسانيات" من جامعة بومبيو فابرا في برشلونة ويدرّس فيها حالياً الأدب المعاصر، أن المكتبات "هي الأطر الملموسة التي نقوم نحن القراء بمقارنتها بعضها ببعض، ولكن لكي نتمكن من إجراء تلك المقارنات، علينا أن نفهم أولاً اللغة التي كُتِبَت بها المؤلفات التي ننظر إليها... ولذلك بالنسبة إليّ وإلى غيري من القراء الغربيين فإن النظام البيئي الثقافي الذي نطلق عليه "الاستشراق"، والمكتبات التي تجسّده، تكوِّن عالماً موازياً خلَّاباً، لكنه في الوقت ذاته يثير الحنق، عند محاولة كشفه وفهمه".
وبحسب كاريون الذي يقوم بتدريس مادة الكتابة الإبداعية لبرنامج الماجستير في جامعة بومبيو فابرا، فإن أقدم مكتبة في العالم من حيث الاستمرار في نشاطها منذ افتتاحها وحتى الآن هي مكتبة "برتراند" في لشبونة وقد تأسست في العام 1732، ومن أشهر المكتبات التي سبقتها إلى الوجود مكتبة دار النشر التابعة لجامعة كامبردج (تأسست في 1581). ويبدو أن المكتبات الأولى لبيع الكتب لدى الإغريق والرومان كانت إما أكشاكاً متنقلة، وإما أكواخاً، وفيها يتم بيع الكتب أو تأجيرها. أما مكتبة الإسكندرية القديمة فهي الأولى في التاريخ التي اعتمدت نظام الفهرسة، ويبدو أن فكرتها جاءت من مكتبة أرسطو الخاصة، بحسب المؤلف.
في المقدمة يذهب كاريون إلى أن مكتبات بيع الكتب والمكتبات العامة، هما وجها الإله الروماني "يانوس"، أو هما توأم روح. ويشير إلى أنه في هذا العمل مهتمٌ بالكتب كأشياء مجسَّمة، والمكتبات كمواقع للتنقيب عن الآثار، أو كدكاكين للبضائع المستعملة الرخيصة، أو كأرشيف، باعتبار أنها بذلك تقاوم الكشف عن المعارف التي تضمه. ويضيف: "إنها بطبيعتها ترفض احتلال مكانها في تاريخ الثقافة، هي حالة مكانية تقف ضد أي منظمة سياسية تتعلق بالأمم والدول". وبحسب المقدمة أيضاً، فإن كاريون يبحث في هذا الكتاب أهمية التراث، وتآكل الماضي والذاكرة والكتب، والإرث غير المادي واستفحاله في المادية لدرجة التعفن. ويتناول المؤلف كذلك الرقابة من قبل السلطات المختصة، ومواقع مكافحة فيروسات الكومبيوتر، والمكتبات كمقاهٍ وبيوت، وحياة تجار الكتب سواء كانوا مقيمين أو جوَّالة، منعزلين أم يتقاسمون حيواتهم بعاداتها وتقاليدها مع غيرهم، والمنافسة بين النسخ الوحيدة الفريدة والسلاسل الشائعة. كما يتناول الصراع بين الأسلوب الأدبي، والمحتوى الإيروسي والجنسي المستتر، القراءة كهوس وجنون، وكرغبة في اللاوعي، أو في إطار العمل مع ما يصاحبها من مشكلات إدارية. وهو يُبرز كذلك العالم كمكتبة والمكتبة كعالم، والمفارقات الساخرة والجدية في تاريخ الكتب عموماً وتاريخ كتب بعينها.
قدر المكتبات
يُعنون كاريون الفصل الخامس من كتابه على النحو التالي: "قَدَرُ المكتبات أن تكون سياسية"، وفيه يتتبع الأفكار السياسية والدينية والأخلاقية التي تقف وراء مصادرة كتب بعينها والتنكيل بأصحابها قديماً وحديثاً، ويستشهد في هذا السياق بما أورده هنري جنكنز في كتابه "ثقافة التجمع" عن أن أكثر الكتب التي أثارت جدلاً واسعاً في العقد الأول من هذا القرن، هي سلسلة "هاري بوتر"، التي كانت محور أكثر من خمسمئة قضية مختلفة في محاكم ولايات أميركية عدة. ويشير في السياق نفسه إلى أنه في العام 2002 في مدينة آلامغوردو في ولاية نيومكسيكو، قامت كنيسة "كرايست كوميونيتي" بحرق ثلاثين نسخة من سلسلة "هاري بوتر"، باعتبارها "شيطانية الطابع، وتُعلم الناسَ السحرَ الأسود"؛ بحسب راعي الكنيسة نفسها ويدعى جاك بروك. ويلاحظ المؤلف كذلك أن إدانة رواية "آيات شيطانية" لسلمان رشدي، توافقت مع سقوط جدار برلين، والعنف الذي أنهى تظاهرات ساحة "تيان أنمِن" في الصين، والانتشار المذهل لشبكة الإنترنت، ما جعل أصداء أي قمع لحرية التعبير والقراءة، "فورية" و"عالمية".
يحلّق كاريون بمحبي القراءة في عالم المكتبات والكتب ومغامرات المؤلفين مستعيناً بصور للأماكن التي زارها وللأشخاص الذين قابلهم. ويسجل كاريون في هذا الكتاب الذي يتألف من 336 صفحة من القطع الوسط، أنه تمَّ حرق الكتب علناً، في أماكن عامة، في الديكتاتوريات الأخيرة في تشيلي والأرجنتين. ويشير إلى أن مسلحين صِربيين حاولوا تدمير المكتبة الوطنية العامة في سراييفو، وفي شكل دوري يخرج المتزمتون – المسيحيون والمسلمون- للتظاهر وحرق الكتب، كحرقهم للأعلام. ويذكر أن الحكومة النازية أتلفت ملايين المؤلفات لكتاب يهود، في الوقت الذي كانت تقضي على ملايين البشر من اليهود والمثليين والمعتقلين السياسيين والغجر والمرضى، وفق خطة سماها هتلر "الحل الأخير". وكثيراً ما يتردد أن النازيين المسؤولين عن معسكرات الاعتقال والموت، كانوا من محبي الموسيقى الكلاسيكية، ومِن جانب آخر - يقول كاريون- فإننا نادراً ما نفكر في أن القائمين على أنظمة السيطرة والقمع ومناصري الإعدامات والرقابة المشدّدة على الكتب، في عالمنا المعاصر، هم الأشخاص أنفسهم المغرمون بالثقافة، وأنهم يمارسون الكتابة، وأنهم يهوون القراءة... باختصار هم عشاق للمكتبات.
مكتبة شرقية
زار كاريون ساحة جامع الفنا في مراكش، ورأى أنها مكتبة في حد ذاتها، "لكنها حِكرٌ على مَن يعرفون لغتَها ومفرداتها الشعبية. أعني بذلك مروّضي الأفاعي، وباعة المراهم ورواة الحكايات". ورأى المؤلف كذلك أن طنجة بما أنها النقطة الأقرب في المغرب إلى الجزء الجنوبي من أوروبا، سرعان ما اجتذبت أدباء ورسامين أوروبيين، أضفوا "الطابع الاستشراقي" عليها. وكان ديلاكروا، هو الرائد في هذا المجال. وهناك ماتيس وماريانو فورتوني وأنتونيو فيونتس وخوسيه هيرنانديز. والأخير أقام معارض في مكتبة "كولون" التي تعد أهم مركز ثقافي في طنجة في الستين عاماً الأخيرة. في هذه المكتبة عمل الروائي أنخيل فازكيز قبل أن يصدر روايته عن طنجة "الحياة الرائعة لخوانا ناربوني". الفنان التشيلي كلوديو برافو عاش في طنجة من 1972 وحتى وفاته في 2011. وإليها ينتمي فنانون وكتاب مغاربة أسهموا في خلق الوهج الثقافي المميز لهذه المدينة: الرسام محمد الحمري، والكتّاب محمد شكري وعبدالسلام بولعيش والعربي العياشي ومحمد المرابط وأحمد اليعقوبي. وبحسب كاريون تعود الظاهرة التي يمكن تسميتها أسطورة طنجة إلى العام 1947 حين وصل إليها بول بولز. في العام التالي انضمت إليه زوجته جين. أصبح بول بولز مصدر جذب سياحي ثم أسهمت مكتبة "كولون" في الجذب نفسه. في 1949 قام زوجان بلجيكيان بإدارة "كولون" بتكليف من صاحبها غيلمارد. الزوج مهندس يدعى روبرت جيروفي. الزوجة إيفون جيروفي هي أصلاً أمينة مكتبة، تفرَّغت مع شقيقتها إيزابيل لإدارة مكتبة "كولون". كانت تلك المكتبة معقل المقاومين لحكم فرانكو وكانت تدعم حركة النشر مِن طريق عقد اجتماعات منظمة للمثقفين المنفيين.
في العام 1997 أطلق المخرج والكاتب إدغاردو كوزاينسكي فيلمه الوثائقي- الدرامي "أشباح من طنجة"، بحوارٍ يجمع بين الفرنسية والعربية. البطل كاتبٌ يعاني من بعض المشكلات فيقرّر السفر إلى شواطئ أفريقيا، لتعقّب ذكرى الشخصيات الأميركية التي ظهرت في هذا الكتاب والأسماء الفرنسية التي صنعت أسطورة طنجة وحوَّلتها إلى مدينة عالمية تلائم نظرة الرجل الأبيض ومتطلباته.
وأخيراً، يؤكد كاريون أن مكتبة بيع الكتب مشروع يعتمد على مستويين متزامنين ومتلازمين: الاقتصادي والرمزيّ، كما يقوم على صناعة الاسم والسمعة أو تدميرهما، وتأكيد الذوق السائد، أو ابتكار آخر جديد. ويرى كذلك أن المكتبات "أماكن تتحكم في الجغرافيا السياسية الثقافية... إنها أماكن تصبح فيها الثقافة ملموسة أكثر، وبالتالي أكثر عرضة للتلاعب. إنها أماكن تختلف باختلاف المناطق والبلدات والمدن، هي مَن تقرر ما الذي ستوفره للناس، وما الذي ستقوم بتوزيعه. هي مَن تتحكم في استهلاك العناوين أو التخلص منها أو إعادة طبعها أو نسخها أو تزويرها أو كتابة نسخ ساخرة منها. هي مَن تجذب المعجبين إلى تلك العناوين، أو تجعلها أكثر ملاءمة، أو تتولى ترجمتها".
ويرى كاريون أيضاً أن أسلوبنا في القراءة، يرتبط بطريقة وثيقة ومعقدة، بالشاشات ولوحات المفاتيح، والكتب التي صارت تنتج بأعداد متزايدة، والمعلومات السمعية والبصرية ومنصات المعرفة. يرتبط ذلك الأسلوب أيضاً بالتوسع والانتشار، مع ما لهما من أبعاد سياسية. أما انعدام القدرة على التركيز في قراءة نص واحد، فيتم تعويضه مِن طريق ضوء الشاشة الساطع، لكنه يجلب بالتبعية تحرّراً من السلطات المسيطرة على نطاق القراءة ويزيل هالة القدسية عن نشاط مرَّ بمراحل متعددة من التطور، ما يؤهله الآن ليصبح أمراً طبيعياً، "فالقراءة لا تختلف في شيء عن المشي وعن التنفس، ونحن نقوم بها من