خلال "مهرجان البندقية السينمائي" الأسبوع الماضي وأثناء العرض الأول أمام الصحافة للنسخة الجديدة من فيلم المخرج غاسبار نوي "لا رجعة فيه" الذي أطلقه للمرّة الأولى في 2002، مرّت لحظة من وجوم مرتبك. وفي حمأة المشهد الأشهر في الفيلم، حين تتعرض الشخصية التي تؤديها الممثلة مونيكا بيللوتشي لعملية اغتصاب وحشية ويعتدي عليها قواد سادي مهاجماً إياها بسكين في نفق للعبور، أنيرت أضواء صالة العرض فجأة! وعندما تجول بنظرك في القاعة، ترى أن المتفرجين الآخرين يحدقون في أقدامهم، محاولين إشاحة أنظارهم عن الشاشة الضخمة. يبدو أنهم يشعرون بقليل من الخزي بسبب وجودهم في ذلك المكان.
بعد مرور سبعة عشر عاماً، لا يزال المشهد يتمتع بنفس القوة البشعة التي أزعجت الجماهير والنقاد، وأثارت عملية انسحاب جماعية عندما عُرض الفيلم للمرة الأولى في "مهرجان كان السينمائي". لا يمكنكم إلا أن تتساءلوا عن دافع بيللوتشي والمخرج غاسبار نوي العودة إلى ذلك العمل الآن. ألم يحرّكا فينا ما يكفي من الشعور بالضيق؟ وبالتأكيد، أليس عرض فيلم كهذا مرّة أخرى في ظل حركة #مي تو" (#MeToo)، أمراً غير منطقي بالمطلق؟
في الواقع، بحسب صُنّاع الفيلم، العكس هو الصحيح. إذ يُقدَّم فيلم "لا رجعة فيه" إلى الجماهير حاضراً باعتباره فيلماً "نسويّاً"، وفق تسمية نجمته مونيكا بيللوتشي. وتملك شيئاً من الصواب في ذلك. وفي الآونة الأخيرة، تعاملت قلّة من الأفلام بشكل صريح جداً مع العنف الذكوري تجاه النساء والرغبة الذهانية في إيذائهن وإذلالهن. على كل حال، ثمة ما يقوض نظرية بيللوتشي القائلة إنّ "لا رجعة فيه" فيلم نسوي في جوهره، بالنظر إلى الطبيعة الشهوانية المحضة للعنف في ذلك العمل، والطريقة التي يركز بها المخرج نوي على معاناة الضحايا.
للتذكير، يستمر مشهد الاغتصاب تسع دقائق تُصَوّر كلقطة واحدة. يشكّل ذلك حالة جريئة في صناعة الأفلام لكن هذا لا يجعله أقل إزعاجاً. إذ لا يمكن المقارنة بين مشاهد الاغتصاب في أفلام اخرى مثيرة للجدل مثل "البرتقالة الآليّة" لستانلي كوبريك (1971)، و"كلاب من قش" لسام باكنباه (1971)، و"هي" لبول فيرهويفن (2016)، وبين هذا التصوير المطوّل والمؤلم للمشهد الذي يعرضه نوي باستفاضة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استطراداً، يرجع السبب في إدراج عرض "لا رجعة فيه" ضمن "مهرجان فينيسيا السينمائي" الأسبوع الفائت، إلى إعادة صياغته على يد نوي. وفي الشريط الأصلي، عرضت حوادث القصة بترتيب عكسي. فبعد وقت قصير من بداية الفيلم تقع عملية الاغتصاب الذي حدث بعد حفل تجادلت خلاله أليكس (بيللوتشي) مع حبيبها ماركوس (الذي لعب دوره زوجها آنذاك فينسنت كاسيل). بعدها، يجري إرجاعنا إلى الوراء في الزمن. وفي الشريط المعاد صياغته، تعرض الحوادث في "تسلسل مستقيم للصور"، بمعنى أن الحوادث رُتّبَت وفقاً لزمن وقوعها.
عندما رويت القصة بطريقة معكوسة في المرة الأولى، كان نوي يستعير التسلسل الزمني العكسي المستخدم في مسرحية "غدر" التي أخرجها هارولد بينتر (1978) عن الخيانة، وفي رواية "سهم الزمن" لمارتن أميس (1991). كان الأسلوب عبقرياً لكنْ غريباً في الوقت نفسه. جعل الفيلم يبدو بارداً وتجريبياً. وكان العنف المقدم في العمل مروعاً لكنه يتمتع بطبيعة تجريدية غريبة. وإذ عززت حقيقة أن ألوان جدران نفق العبور الذي هاجم فيه القواد بيللوتشي كانت أرجوانية داكنة، حقيقة أن هذا العمل لم يكن من أعمال الواقعية الاجتماعية التقليدية. كان نوي يصوغ باريس الحديثة وفق تصوّره الخاص للجحيم. صوت قرع الطبول العسكرية في الموسيقى المرافقة لاستعراض الأسماء في شارة النهاية (التي بقيت على حالها في الإصدار الجديد) يضيف إلى الأسلوب المزعج لسرد القصة.
أما الآن، وقد عُرِضت حوادث الفيلم في تسلسل زمني صحيح وصار أقصر بست دقائق عن نسخة الـ2002، بات ذلك الشريط تجربة غنية وعاطفية أكثر من إصداره الأصلي، في الأقل خلال مشاهده الأولى. ما زال فيلم "لا رجعة فيه" الجديد يحتوى على أعمال العنف الرهيبة نفسها. إذ لا يقتصر الأمر على الاغتصاب وحده، لكن هناك مشهد يحدث بعد بضع دقائق، داخل ملهى ليلي لمثليي الجنس يحمل اسم "ريكتم" (ترجمته حرفياً "الشرج")، يحاول فيه ماركوس وصديقه المتزمت بيير (الممثل ألبرت دوبونتيل) تعقب الشخص الذي هاجم أليكس. ويهشم بيير، ذلك الرجل الهادئ، وجه الرجل الذي يعتقد أنه المسؤول (عن الاغتصاب) بعنف شديد إلى حد أننا نتمكن من رؤية جمجمة الرجل تنهار كأنها مصنوعة من الورق المقوى.
واستطراداً، مع وقوع هذين الحادثين قرب بداية العمل في نسخة 2002 ، شعر الجمهور بصدمة عارمة إلى درجة أنهم لم يدركوا مقدار الدقة والشاعرية التي يحملها العمل في نهايته. في المقابل، نعرف مبكراً في النسخة المنقّحة أن أليكس حبلى. ونتمكن من التركيز أكثر على المشاهد الحميمية المُصوّرة بأسلوب جميل بين كاسيل وبيللوتشي العاريين، فيما يدخنان السجائر ويمارسان الحب ويستمعان إلى الموسيقى في شقتهما.
في سياق متصل، ثمة تأثيرات من فيلم "جول وجيم" الذي أخرجه فرانسوا تروفو (1962) في المشاهد المرحة التي يتوجه فيها الثلاثي أليكس وماركوس وبيير (عشيق أليكس السابق) إلى ذلك الحفل المشؤوم. لكن أليكس تظهر كشخصية أقوى وأكثر تعقيداً. نحن لا نراها ضحية فحسب، لكننا نقترب منها بشدة ونتعاطف معها لأننا نتعرف على الكثير من التفاصيل الإضافية عنها.
كذلك يحاول نوي استكشاف مدى سرعة تحوّل البشر من السلوك المتحضر إلى الهمجية، على غرار ما فعل تماماً في فيلم "كلايماكس" (= الذروة) الذي أخرجه العام الفائت. وتدور حوداثه أيضاً في ليلة واحدة نتابع فيها مجموعة من الراقصين الذين يتصرفون بطريقة مهووسة ومدمرة إلى أبعد الحدود، إثر إضافة أحدهم مادة مهلوسة قوية التأثير إلى المشروبات الكحولية التي تناولوها.
تجدر الإشارة إلى أن عامل الصدمة ما زال موجوداً في النسخة الجديدة من فيلم "لا رجعة فيه". وفي حقيقة الأمر، هناك جرعة إضافية من التوتر والتشويق لأننا نعيش ذلك الهاجس (مثل أليكس تماماً) بأن أمراً سيئاً ما سيحدث. ولدينا كذلك قدرة أفضل على فهم الدافع الذي يجعل ماركوس مستميتاً في انتقامه. وعلى الرغم من ذلك، بدا الخطاب الذي استخدمه نوي وبيللوتشي في "مهرجان البندقية" للدفاع عن فيلم "لا رجعة فيه" والاحتفاء به، بليغاً في بعض جزئياته. ومثلاً، وصف المخرج الفيلم بأنه "رُهاب ذكوري" في إشارة إلى تصويره القاتم الذي لا يرحم للدوافع الذكورية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي ذلك الصدد، ذكّرتنا بيللوتشي بأنها عندما سألت نوي عن سبب اختيارها للفيلم في بداية الأمر، قال إنه يريد أن يوضح كيف "يحاول الرجال في بعض الأحيان تدمير الجمال". كانت الممثلة الإيطالية وعارضة الأزياء في أوج شهرتها عندما أدّتْ بطولة "لا رجعة فيه". وآنذاك، كانت للتو قد أدّت دور البطولة في فيلم الدراما الكوميدية "مالينا" للمخرج جوزيبي تورناتوريه 2000 الذي حقّق نجاحاً عالمياً. وكانت المجلات ودور الأزياء تتهافت عليها. وبدلاً من الاحتفاء بسحرها وشهرتها، انطلق نوي (على الأقل بأسلوب رمزي) في تحطيمها وتدميرها. إنّ اللقطة المروعة التي تُظهر جسدها ملطخاً بالدماء بينما يجري سحبها إلى سيارة الإسعاف، بعيدة كل البعد عن بيلوتشي الحسناء التي كانت تطل بأبهى حلّة يمكن تخليها في صور الموضة.
وفي سياق متصل، لم يكن من السهل على نوي أن ينوّه بأن الفيلم جاء محمّلاً بوعي ذاتي إلى حد الإرباك والخجل، إضافة إلى تبنيّه نسقاً قيمياً محدداً. وفق كلماته، "إن تقديم القسوة هو تجسيدها على الشاشة. الفيلم ليس عملاً وثائقياً. وذلك ما يجعل الناس يرغبون في الذهاب لمشاهدة أفلام عن كارثة "تايتانك" أو معسكرات الاعتقال النازية. تستطيع الأفلام أن تثقفك وتَحوْل دون وقوعك في بعض المآزق".
واستطراداً، بدت الطريقة التي وصف بها نوي فيلم "لا رجعة فيه" كأنه تريدنا أن نتعامل مع العمل كفيلم تثقيفي عام. إذ تتلخص رسالته بأنه يتوجب عليكم مشاهدة العمل لفهم الأفعال الوحشية القصوى في السلوك الذكوري (ووقاية أنفسكم منها) وطبيعة الانهزام الذاتي للانتقام.
وتذكيراً، تذكر الكلمات السابقة بالجدليات المألوفة التي جرى طرحها على مر السنين حول أفعال مشابهة اخرى. ويمتد ذلك من المشهد المذهل في مسرحية "الملك لير" إلى الفظائع الدموية في مسرحيات التراجيديا الانتقامية التي كانت سائدة في نهايات القرن السادس عشر وبدايات القرن السابع عشر، وانتهاء باللحظات التي تجاوزت كل الحدود في تطرفها في فيلم "كلاب من قش" للمخرج سام بيكنباه (1971).
وأخبرني مخرج فيلم "لا رجعة فيه" عندما أجريت معه لقاء الأسبوع الفائت، أنّ "هنالك ثلاثة أدمغة داخل دماغك: دماغ الزواحف، ودماغ الثدييات، وقشرة المخ الحديثة. وتعطيك الأخيرة القدرة على لعبَ الشطرنج والتنبؤ بالمستقبل ورسم الخطط... إنها الدماغ العاقل. ولكن، في بعض الأحيان، أثناء وضعية الدراما أو الإجهاد، فإن عقل الزواحف يهيمن على الدماغ العاقل".
سنرى تأثير الدماغ العاقل جلياً في النسخة الجديدة من الفيلم بالمقارنة مع سابقتها. وتجعلكم رواية أحداث القصة بالترتيب الزمني الصحيح تتعاطفون مع الشخصيات. وسيكون لديكم متسع من الوقت للاستمتاع بانسيابية التصوير وروعة أداء الممثلين. ومع ذلك، ما زال فيلم "لا رجعة فيه" عملاً يصيبكم في الصميم، لكنه مزعج إلى أقصى الحدود بسبب موضوعاته "الزواحفية" الكريهة.
وشهد مهرجان البندقية السينمائية العرض الأول لفيلم "لا رجعة فيه- التسلسل المستقيم"، وسيصدر في المملكة المتحدة العام المقبل.
© The Independent