ملخص
الرقص الشرقي أصبحت له مدارس متخصصة في تعليمه بالغرب
خسر الرقص الشرقي المكانة التي كان يتمتع فيها بعد رحيل مجموعة من الراقصات الملهمات واعتزال أخريات نتيجة التقدم في السن وأبرزهنَ، نعيمة عاكف وتحية كاريوكا وسامية جمال ونجوى فؤاد وسهير زكي وفيفي عبده وزيزي مصطفى في مصر، وأماني وناريمان عبود وداني بسترس وهويدا الهاشم وسمارة ذات الأصول العراقية في لبنان، ومن بعدهنّ لم تبرز على الساحة الفنية راقصات قدمن هذا الفن بأداء راق له قواعده وأصوله، ولم تنجح أي منهنّ في أن تصنع اسماً وشهرة لها بسبب انحدار المستوى، وفي المقابل، انتشر هذا الرقص عالمياً بفضل المدارس المتخصصة في تعليم أصوله وقواعده، وكان للنجمة العالمية ذات الأصول اللبنانية شاكيرا دور في تعلق الأجانب به والإقبال عليه، خصوصاً أنها حرصت، منذ بداياتها، على تقديمه كعنصر مكمل لغنائها الاستعراضي.
وعرف الرقص الشرقي انتشاراً، من نوع آخر، ولكن على مستوى الرجال، إذ زاوله البعض بشكل احترافي على المسرح، وآخرون كمدربين، وبرع بعض الممثلين في تقديمه في أعمالهم، وأبرزهم محمد سعد وحسن الرداد، ولكن يظل الانتشار الأوسع لرقص الرجال من خلال فيديوهات منتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي والتي تنقسم الآراء حولها بين القليل من الإعجاب وبين الكثير من السخرية.
فكيف يفسر النقاد والراقصات الشرقيات ومدربو الرقص الشرقي الأسباب التي أدت إلى تراجع الرقص الشرقي في الشرق وانتشاره عالمياً؟ وكيف ينظرون إلى ظاهرة الرقص الشرقي عند الرجال؟
جزء من الفلكلور
الراقصة أماني التي قدمت آخر نشاط فني لها في لبنان، عام 2006، قبل أن تغادر مع فرقتها الموسيقية وتجول العالم لإحياء الحفلات وتعليم قواعد الرقص الشرقي للراغبين تقول لـ "اندبندنت عربية" "حالياً، أنا موجودة في لبنان، وأركز نشاطي على التعليم وتلبية الدعوات التي تصلني من الخارج، ولا توجد إمكانية لمزاولتي مهنتي في بلدي بسبب الأوضاع الصعبة وإغلاق المسارح، لكن الظروف في مصر مختلفة، والرقص الشرقي لا يزال منتشراً فيها، ولكن لم تبرز أسماء مهمة في المجال بسبب تراجع المستوى واختلاف المشهدية نتيجة غياب الضوابط وعدم وجود رقابة تقوم بتنظيم المهنة".
الرقص الشرقي الذي يعرف في فرنسا بـ Dance du ventre (رقص البطن) وتستخدم عبارة Oriental dance للتعريف عنه باللغة الإنجليزية للإشارة إلى جذوره الشرق أوسطية، أصبحت له مدارس متخصصة في تعليمه في الغرب تحظى بإقبال الشبان.
وتوضح أماني "الانحدار الفني يشمل كل القطاعات، لكنّ للرقص الشرقي وضعاً خاصاً لأن المشهدية فيه تقوم على المرأة وحركة الجسد. وكان يفترض أن يحظى بالاهتمام لأنه جزء من الفلكلور لكنّ هذا الأمر لم يحصل، بينما في الغرب يتم التعامل معه بجدية، فهم يكرسون له الوقت ويدفعون المال لتعلم قواعده ويشترون البدلات، حتى أن البعض احترف مهنة تعليمه، وهذا الوضع يشمل كل الدول الغربية من دون استثناء".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع انتشار موضة الرقص الشرقي بين الرجال يمكن القول إن هذه الظاهرة ليست جديدة. وفي ظل الإمبراطورية العثمانية كانت النساء تؤديه في قصر السلطان ثم الصِبية في وقت لاحق.
وتفسر أماني إعادة انتشار هذه الظاهرة، في هذا الزمن، إلى طبيعة العصر الذي نعيشه "كل شيء أصبح مباحاً، فالمرأة تمارس رياضة المصارعة، والرجل يمارس الرقص الشرقي، ولكن، تاريخياً، نجد أن الرجال مارسوا الرقص الشرقي لأسباب مادية، ولأن البعض منهم كانوا يرفضون رقص زوجاتهم في أماكن معينة، لذا كانوا يضطرون للرقص بدلاً عنهنّ، أو لأسباب تعليمية كما في تجربة محمود رضا وإبراهيم عاكف، في مصر، اللذين كانا يقومان بتدريب الراقصات في فرق الرقص الفلكلوري الخاصة بهما، وأيضاً فرنسوا رحمة وسامي خوري وعبد الحليم كركلا في لبنان، لأن تعليم التقنيات والرؤية المشهدية ليسا حكراً على النساء، ومع أن البعض يرفضون رقص الرجل على المسرح لأنه ليس مألوفاً في مجتمعاتنا ويعتبرونه حكراً على النساء، لكن بعض الرجال يملكون الجرأة ويرقصون على المسرح وخصوصاً في أوروبا".
وغالباً ما يتعرض الرجل الذي يقدم الرقص الشرقي للانتقادات والاتهامات والتنمّر.
وبحسب الراقصة أماني "الرجل الذي يقدّم هذا النوع من الرقص يبحث عادة عن الأنوثة في داخله. الرجل أقوى جسدياً من المرأة ويساعده تكوينه الجسدي وقوته العضلية في أدائه بشكل أكبر. صحيح أن هذا الفن خلق للمرأة، ولكن بالأسلوب الذي تقدمه بعض الراقصات اليوم، نحن نرى كل شيء إلا الرقص شرقي. في الغرب، هم لا يعرفون أنه فن خاص بالنساء والنظرة إليه تقنية بحتة بصرف النظر عن المؤدي سواء كان رجلاً أو امرأة، لكن في الشرق يفضلون رقص النساء مع أن بعض الرجال ممن يملكون التقنيات والرؤية يقدمونه بطريقة أفضل من بعض الراقصات".
تراجع الفنون التقليدية
مدرب الرقص الشرقي بيار حداد تتلمذ على يد الراقصة ناديا جمال، ويعمل في المجال منذ 37 عاماً، ولقد أتاحت له هذه التجربة مشاركة شغفه مع الآخرين، وتوجيههم في رحلتهم التعليمية والفنية، وتطوير مهاراتهم وفهم الإيقاعات والحركات الأساسية، واكتشاف مواهب جديدة، والمساعدة في تشكيلها، لكنه يقرّ بأن المجال يشهد تراجعاً وغياباً للأسماء اللامعة، موضحاً أن "هناك أسباباً عدة تقف وراء هذا التراجع أبرزها تغيّر اتجاهات الموضة والثقافة، وتفضيل أنواع أخرى من الترفيه، والتطور التكنولوجي، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي والترفيه الرقمي التي تسببت بتراجع الاهتمام بالفنون التقليدية، ومن بينها الرقص الشرقي، وغياب الدعم والتمويل، فضلاً عن القيود الثقافية والاجتماعية التي حدّت من مزاولة هذا الفن أو عرضه".
وانتشار الرقص الشرقي بين الرجال يفسره حداد بأنه تحول في النظرة الثقافية ويقول "اليوم ينظر إليه على أنه فن ووسيلة للتعبير ونشاط مناسب للمرأة والرجل على حدّ سواء، وليس مجرد تقليد للنساء، فضلاً عن رغبة بعض الرجال في التعبير عن أنفسهم فنياً سواء من خلال مشاعرهم، أو لمجرد الاستمتاع بالحركات الجميلة، لكن النظرة إليهم تختلف بين مجتمع وآخر، كل بحسب ثقافته، وقد يحظى البعض بالدعم والتقدير، ويواجه آخرون بالرفض بسبب النظرة التقليدية للرقص الشرقي على أنه نشاط نسائي، وعلى رغم وجود تشابه إلى حدّ ما في الأسلوب، لكن الفرق بين رقص المرأة ورقص الرجل يكمن في التعبير والحركة للمؤدي والتقاليد الثقافية".
الذكاء الاصطناعي
ومع أن الرقص الشرقي نشأ في مصر القديمة ثم ما لبثت أن تطورت طرق تقديمه مع الوقت سواء على مستوى الأزياء أو الأداء، لكن بقيت الأنماط والأزياء المصرية هي الأكثر انتشاراً في العالم بسبب الصورة التي قدمتها السينما المصرية عنه، إلا أن الناقدة خيرية البشلاوي تتوقف عند مسألة تراجع الإحساس بالراقصة حتى في الأفلام، وتقول "كل شيء تغير، ولم تنجب أي من راقصات الزمن الجميل من تورّثها الموهبة، وبعد أن كان الرقص في زمنهنّ لغة جسد وإغراء وإحساس تحول اليوم إلى شيء مبتذل جداً، ولم يعد يتم التعامل معه بإحساس فيه قدر كبير من الجدية، وأصبح مهنة لمن ليس لديه مهنة، وحتى فيفي عبده التي تنتمي إلى الجيل الأخير من الراقصات المعروفات تفكر بالتمثيل ولا تفكر بالرقص أبداً".
وتتابع "كل مرحلة لها مغرياتها وثقافتها ونحن اليوم لسنا في زمن إفراز الثقافة الشرقية الأصيلة، ولم تعد هناك استمرارية لجيل سهير زكي أو نجوى فؤاد أو تحية كاريوكا أو سامية جمال التي كان يتم التعامل معها في أوروبا على أنها فنانة كبيرة ترقص وفق قواعد معينة، وتملك مقومات الراقصة الجذابة جسدياً، وأدائياً، وهذه المقومات ليست متوافرة اليوم لدى أحد".
تضيف البشلاوي "النظرة إلى الرقص الشرقي كمهنة تغيرت، ولم يعد يحظى بالقدر نفسه من الاحترام الذي كان عليه سابقاً، لكنه يبقى جزءاً من ثقافتنا، ومن تكوين المجتمع حيث تشارك فتيات الطبقة المتوسطة، بمن فيهنّ المحجبات، بالرقص في الأفراح، وهذا يعني أنه موجود في لحظات معينة ولكن لم يعد له وجود على مستوى الاحتراف".
ولا تعير البشلاوي أهمية لانتشار موضة الرقص بين الرجال وتتوقع أن تختفي مع الوقت "لن يكون هناك تيار من الرجال يقدمون الرقص الشرقي لأننا في زمن ردّة ولسنا في زمن ليبرالي، وعادة يتم تصنيف هؤلاء في خانة غير لطيفة وينعتونهم بصفات غير جميلة وهم موجودون على نطاق ضيق جداً، وأتوقع دوراً للذكاء الاصطناعي في بعث الراقصات الشرقيات الملهمات بأشكالهنّ نفسها، واستبعد بروز راقصات محترفات في ظل التيار الديني الذي نعيشه اليوم".