Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المال بين الحقيقة والوهم قديماً وفي أيامنا

مفهوم بسيط لكنه أخذ خطورته من إصرار الناس على التعامل معه بوصفه حقيقة معقدة لا تقبل الشك أو التشكيك

نجح المال في البقاء ضمن دائرة السلع الأكثر طلباً على رغم تفاوت ملحوظ بين قيمتيه الحقيقية والوهمية (رويترز)

ملخص

جميع الناس مصممون على التعامل مع المال بوصفه الحقيقة الوحيدة التي لا تقبل التشكيك، وسبب ذلك هو تدخل القانون، إذ لا يحق للإنسان المعاصر رفض التعامل بهذه الأوراق التي أخذت طابعاً رسمياً منذ العصور الوسطى.

النقود ما هي إلا ظاهرة اجتماعية بسيطة لكنها تحولت عبر تاريخ طويل إلى مفهوم معقد وغير مفهوم لكثيرين، وذلك لأن المفهوم الموجود لدينا الآن تشكل وفق رغبة جماعات من الناس المتنفذين والتجار في العصور الوسطى تحديداً، بهدف توسيع حدود الملكية الخاصة لبعض الأشخاص من دون غيرهم.

وتزامن ذلك مع تطور النشاط الاقتصادي حول العالم قديماً، إذ ظهرت تسمية "المال الوهمي" حديثاً، وهو اسم حقيقي للمال، و ليس تسمية سينمائية أو أدبية مفبركة، والمقصود بالمال الوهمي الذي نتداوله في وقتنا هذا وخلال عصور زمنية قريبة من وقتنا الراهن، وهو المال المتعارف على تسميته بالأوراق المالية والعملات النقدية المعدنية، وصولاً إلى المال الذي يؤخذ صفة البيانات الإلكترونية والعملات المشفرة.

تسمية قانونية

و"الأموال الوهمية" معترف بها قانونياً مع أنها تؤشر على وجود أموال تقديرية وليس لها "وجود مادي" حقيقي، وقد ظهرت هذه التسمية التاريخية للمال كونه مر بفترات زمنية غابرة عصيبة، ظل فيها عرضة للنهب والسرقة بسهولة ومن دون تعب أو معاناة، مما تطلب إخفاء قيمته الحقيقية أو اللجوء إلى دفن الثروات أحياناً، وظلت التسمية كذلك وصولاً إلى وقتنا الراهن، إذ نحتت تسميات ورموز وتعبيرات مشفرة للمال صاغها فئة من التجار الأذكياء قديماً وحديثاً للحفاظ على تداول تلك الثروة بشكل حصري.

التسمية الشائعة

وعلى رغم وجود تسميتين علميتين متداولتين للمال ومعترف بهما في جميع علوم الاقتصاد حديثاً وقديماً، وهما النقود والأموال الحقيقية من جهة، والنقود التقديرية أو "الوهمية" من جهة أخرى، إلا أن جميع الناس في وقتنا هذا مصممون على التعامل مع المال بوصفه الظاهر، وكونه الحقيقة المطلقة الوحيدة التي لا تقبل الشك أو التشكيك، وسبب ذلك هو تدخل القانون بشكل مباشر في صياغة مفهوم المال حديثاً، فلا يحق للإنسان المعاصر رفض التعامل بهذه الأوراق التي أخذت طابعها الرسمي الشهير من سلطة الدولة في حقبة العصور الوسطى خلال القرن الـ 16.


عصر الثقة بالمال

وبلغت درجة الثقة بهذه الصيغة المالية الحديثة ذروتها في حقبة العصور الوسطى لدرجة أن التجار وقتها أطلقوا على المال لقب "سيد الثروات"، ولا يزال في وقتنا هذا معبّراً عن تلك الفكرة بوصفها حقيقة لا مجال للشك أو التشكيك فيها، على رغم أنه تحول إلى صفة اعتبارية، فالمال حديثاً تحول من كونه مادة ثمينة ملموسة إلى كونه مجرد بيانات إلكترونية تنتقل في العوالم الافتراضية من حساب إلى آخر، ويعود الفضل في ذلك للعلوم المالية المعاصرة التي رسخت هذا المفهوم عن المال بوصفه المفهوم الوحيد المعبر عن إمكان الحصول على كل شيء بسهولة ويسر بالغين.

مفهوم خطر

 لكن المال في صورته الحالية في الحقيقة من أخطر مفاهيم الإنسان وأسرعها تطوراً بشكل سلبي، وذلك لكونه حمل دائماً وجهين رئيسين مختلفين، هما الحقيقة والوهم، ولذلك ظل بشكل دائم ضمن دائرة الشك مما أربك عقولنا وحواسنا تجاهه حتى مع دخوله عصور العلم والمعرفة والتقنيات الحديثة، إذ بدأ رحلته ضمن المفاهيم الحقيقية منذ العصور البدائية زمن بلاد الرافدين في بابل وسومر قبل آلاف السنين، ليصل إلينا اليوم ولكن ضمن وجه آخر له، وفي إطار العصر العلمي الذي يوصف بكونه أكثر تعقيداً من الناحيتين المالية والاستهلاكية.

ثقافة مالية

ويمكن اختصار خطورة مفهوم المال حديثاً من خلال رصد ظاهرة تزايد المديونات الشخصية على الأفراد تحديداً، والذي يعبر عن جهلنا بمعنى كثير من التعبيرات الاقتصادية الحديثة التي ظهرت أخيراً مثل مصطلح الثقافة المالية للأفراد، إذ تزيد نسبة ثقافة الأفراد المالية بين أشخاص محددين في المجتمع دوناً عن عامة الناس، ومعظم هؤلاء المثقفين مالياً هم من فئة دارسي التخصصات المالية مثل المحاسبة أو خريجي كليات العلوم المالية والاقتصادية، فيما تعبّر إحصاءات حديثة كثيرة منتشرة على الإنترنت عن تزايد مديونية الأفراد المالية في وقتنا الراهن لتصل إلى حدود قياسية غير مسبوقة، مما يؤكد تفشي ظاهرة الجهل بالثقافة المالية المعاصرة أكثر بكثير من معرفة الإنسان قديماً ببعض أوجه الثقافة المالية والنقدية البسيطة.

المال والعولمة

وعلى رغم التفاوت الكبير المسجل حديثاً بين قيمته الحقيقية المدعومة بالذهب وقيمته الوهمية في الأوراق المالية والبيانات الإلكترونية، نجح المال في البقاء ضمن دائرة السلع الأكثر طلباً في العالم، ومن المؤكد أن نجاح العولمة بوصفها ثورة فكرية تهدف إلى نشر المعلومات والتقنيات وتوسيع النشاط التجاري على نطاق كوني مرتبط بشكل جذري بنجاح مفهوم المال كما نعرفه في وقتنا الراهن.

مفهوم بسيط

 ومفهوم المال في وقتنا ليس معقداً كما يعتقد كثيرون إلا أنه اقترن مطولاً بمفاهيم إنسانيه تعبر عن تعقيدات طبيعة العلاقات الاجتماعية والتعاملات الاقتصادية بين الناس في عصور وأماكن متباينة، فالمال بوصفه البسيط ما هو إلا وسيلة ثقة وهمية بين أناس لا يفترض أن يعرف أحدهم الآخر، إذ لم يكن ممكناً توسيع النشاط التجاري على مستوى الأفراد وتحديداً في العوالم الحديثة، لولا اختراع المال الذي وصفه بعض المفكرين حديثاً بكونه اللغة الأكثر انفتاحاً بين اللغات الإنسانية، وذلك لكونه نجح في سد الفجوة النفسية بين الناس في أي مكان وزمان من دون التمييز بينهم على أساس الجنس أو النوع أو الدين أو الطائفة أو العرق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


شيطنة المال

ومع ذلك بالغ أدباء ومفكرون وشعراء وفلاسفة في وصف المال بأنه جذوة الشر المتوقدة التي تنتقل من مكان إلى آخر ومن زمن إلى زمن باستمرار، وتقول بعض المواقع المتخصصة على الإنترنت "إن المال بصيغته الحالية المشيطنة ظهر على صورة أوراق نقدية وعملات معدنية في الولايات المتحدة، وذلك بعد انتهاء العالم القديم تماماً من فكرتي التبادل بالسلع ومن ثم التعامل بالمعادن الثمينة من ذهب وفضة، فيما أخذ المال طابع الثقة قديماً من خلال التعامل المباشر بالسلع الغذائية والمعادن الثمينة فقط، وبلغت ذروة ذلك التعامل البسيط بالمال الفترة بين عامي 1844 و1917 من خلال النقود الذهبية في الدولة العثمانية ودول وإمبراطوريات أخرى معاصرة لها".

وفي المقابل تحدث إحصاء حديث بعد عام 2020 عن وصول مجموع الأموال الوهمية أو الورقية في العالم خلال وقتنا هذا إلى 60 تريليون دولار، منها أقل من 6 تريليونات دولار من فئة الأموال التي توصف بأنها طبيعية أو حقيقية، وذلك لأنها ذات قيمة واقعية وملموسة.

تحريف

ومن خلال تطبيقات مسيئة للمال مثل "الرشوة" بوصفها طريقة لاستلاب الحقوق، ومن خلال ممارسات حديثة معروفة بأنها تصب في خانة المال القذر، مثل تجارة الممنوعات وغسل الأموال وغيرها، حدث تحريف لمفهوم المال بسرعة كبيرة، فالمال ظاهرياً وشكلياً فكرة لامعة وبراقة ومتلألئة مثل جميع أفكار الإنسان المثالية التي تجسدت فيها كثير من المعاني السامية، ولكنها تحولت بفعل تعقيدات العلاقات البشرية وظروف الحياة الاجتماعية إلى فكرة توصف بأبشع الأوصاف.

نظرة تاريخية

ووفقاً للفترة الزمنية التي ظهر فيها المال، وهي العصر البرونزي، فقد ارتبط وجوده بفكرتين أساسيتين هما معرفة الإنسان العاقل للكتابة واكتشاف معدن الرصاص، ومن خلال معرفة هذين الاختراعين توثقت العلاقة التاريخية بين الكتابة والمال، فمعدن الرصاص شكل بداية معرفة الإنسان بقلم الرصاص، وهو أداة الكتابة الأقدم على مختلف السطوح الصلبة مثل الورق وغيرها، ومن خلال الكتابة عرف الإنسان أول تعامل مالي قديم ظهر تحت مسمى التحويلات الخارجية من بلد إلى آخر، والتي ظهرت خلال الفترة البابلية القديمة في بلاد ما بين النهرين، وتمثلت الحوالة وقتها بوثيقة مكتوبة تخول حاملها الحصول على شحنة من معدن الرصاص بعد مرور 15 يوماً من إرسال الشحنة التي انطلقت من معبد سومري على نهر الفرات لتصل إلى مدينة آشورية تقع على نهر دجلة.


فكرة صينية

ويوصف المال في الموسوعات العلمية ومنها الموسوعة العلمية الأوروبية وفي كثير من المراجع التاريخية بأنه فكرة صينية، وتميز التجار الصينيون في العصر البرونزي بأسلوبهم الرفيع في التجارة الدولية، وكانت الصين مركزاً تاريخياً لأفكار مالية قديمة تحولت إلى نظريات اقتصادية معاصرة ومرموقة، إذ صنع تجار صينيون قدماء وتداولوا مجسمات صغيرة للبضائع، وهو ما يعرف الآن باسم العينات التجارية التي توزع مجاناً لجلب المستهلكين.
ومن وظائف تلك المجسمات الصغيرة قديماً، والتي صنعت من البرونز تحديداً، تجنب نقل الشحنة الحقيقية من البضاعة وتصويرها على صورة مجسم صغير لتسهيل حملها ونقلها، ولمنع استيلاء قطاع الطرق على الشحنة الحقيقية بسهولة. وعلى غرار هذه الفكرة لاحقاً ظهرت فكرة تحويل المبالغ النقدية من العملة الحقيقية، وهي المعادن الثمينة من ذهب وفضة، إلى عملات ورقية أو قطع معدنية رخيصة يُنقش على كل منها قيمة افتراضية محددة كما هو متبع في وقتنا.

ثلث الجبل الظاهر

ويمكن القول إن الأوراق المالية والعملات النقدية المعدنية التي نراها في الواقع الآن ونتعامل بها يومياً ما هي إلا رموز مشفرة تخفي كثيراً من التفاصيل، وتبين لنا أقل من "ثلث الجبل" الظاهر،  فيما هناك كتلة كبيرة من العلوم المالية التي تدعم وجود هذه الأوراق والنقود في الواقع، غير أنها لا تزال غير ملحوظة أو مفهومة من قبل ما يزيد على 90 في المئة من الناس العاديين في وقتنا هذا.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات