ملخص
باتت المشاريع الإقليمية تعد وتنفذ في إطار ثنائي أو ثلاثي لا خماسي
ألقت التحركات الدبلوماسية التي جرت أخيراً في منطقة المغرب العربي حجراً ثقيلاً في بركة "العلاقات الراكدة" للدول الخمس المشكلة للفضاء المغاربي، وهي: المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا.
وفتح "التحالف الثلاثي الجديد" الذي جمع بين الجزائر وتونس وليبيا، بمنأى عن المغرب وموريتانيا، وأيضاً إطلاق تونس لخط تجاري بحري مع المغرب وليبيا، مع استبعاد الجزائر، كثيراً من التكهنات والنقاشات حول ما إذا كانت هذه التحركات محاولة لإحياء لـ"اتحاد المغرب العربي" المجمد بسبب الخلافات الثنائية خصوصاً القطيعة بين المغرب والجزائر، أم هي مبادرات تزيد في تشظية الجسم المغاربي.
حماس جزائري
اجتمع منذ أيام مضت كل من الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، والتونسي قيس سعيد، ورئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي، بهدف "توحيد الجهود لمواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية بما يعود على شعوب البلدان الثلاثة بالإيجاب"، وفق بلاغ سابق للرئاسة الجزائرية.
وكان لافتاً غياب المغرب وموريتانيا عن "تحالف الجزائر وتونس وليبيا" الذي خرج باتفاق يقضي بعقد لقاءات ثلاثية كل ثلاثة أشهر، يجري اللقاء الأول في تونس بعد انقضاء شهر رمضان.
وتعتقد الجزائر أن هذا "التحالف الثلاثي" سيسهم في لم شمل دول المغرب العربي تدريجاً، وتوحيد سياساته واقتصاداته، والعمل على حل الأزمة السياسية والأمنية التي تعانيها ليبيا، والأزمة الاقتصادية التي تواجهها تونس، في انتظار التحاق موريتانيا المعنية أيضاً بهذا التحالف، وفق الرؤية الجزائرية.
والملاحظ في هذا "التجمع الثلاثي" الجديد بين البلدان المغاربية الخمسة، أنه يضم طرفين هما الجزائر وتونس اللذان ليسا على وفاق مع المغرب، بينما تبدو علاقاتهما مع موريتانيا طبيعية وتخضع للتقلبات الجيوسياسية، أما ليبيا فتربطها علاقات دبلوماسية إيجابية مع الرباط، لا سيما في ظل احتضان هذه الأخيرة مفاوضات ماراثونية طوال أعوام متعاقبة لحلحلة الأزمة في هذا البلد.
وفي سياق آخر، تقترب تونس من إطلاق خط تجاري بحري يربط ميناء مدينة صفاقس في جنوب البلاد، بموانئ في ليبيا والمغرب وإسبانيا، وذلك بهدف تطوير المبادلات التجارية بين الدول الأربع، وهو الخط البحري الذي "استثنى" الجزائر هذه المرة.
خيار استراتيجي
يقول رئيس منظمة العمل المغاربي إدريس لكريني إن الخيار المغاربي يظل خياراً استراتيجياً يجد مرتكزاته في عدد من العوامل المتصلة بالموقع الاستراتيجي للبلدان المغاربية، ويتصل بالروابط التاريخية والحضارية التي تربط بين الشعوب المغاربية، وأيضاً التوق المجتمعي المغاربي إلى نبذ الخلافات وفتح الحدود وتعزيز العلاقات بين شعوب يربطها مصير واحد.
واستحضر لكريني ما "قام به الأجداد الذين أسهموا في تحرير المنطقة المغاربية من الاحتلال، إذ كانت رؤيتهم استراتيجية وبعيدة المدى عندما اختاروا منذ بداية الخمسينيات في القرن الماضي خيار الوحدة والتنسيق لبناء تكتل إقليمي واعد بالنظر إلى تكامل الثروات والإمكانات التي تزخر بها المنطقة المغاربية"، مورداً أن هذا الخيار سيظل قائماً بالنسبة للأجيال القادمة، أخذاً بعين الاعتبار الأخطار العابرة للحدود التي تواجه المنطقة في أبعادها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
واعتبر المحلل ذاته أن المحاولات الجديدة بإرساء تكتلات بمنطق آني وردود الفعل، لا تأخذ رهانات المستقبل بعين الاعتبار، وستكون محاولات فاشلة، لا سيما بتعمد إقصاء المغرب، ما سيعمق الخلافات ويرهن مستقبل المنطقة وشعوبها في متاهات وصراعات غير نافعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واستطرد المتحدث بأن "صوت المغرب، ومن أعلى مستوى في هرم السلطة بالبلاد، ما فتئ يطلق دعوات نبذ الخلافات وتعزيز التواصل ومد يد الحوار، بعيداً من لغة الصراعات والقطيعة"، مبرزاً أن "المبادرة الأطلسية التي أعلن عنها المغرب بإمكانها أن تفيد الجزائر إذا ما تم تجاوز سياسة القطيعة وإغلاق الحدود".
وخلص لكريني إلى أن التوجهات نحو تكتلات آنية تفتقد للعمق الاستراتيجي لا يمكن إلا أن تكون في غير صالح المنطقة المغاربية برمتها"، مشدداً على أن "تفعيل الاتحاد المغاربي سيسمح بترك الخلافات وتجاوز الملفات العالقة خصوصاً بين المغرب والجزائر".
"المؤامرات" الخارجية
من جهته أفاد رشيد خشانة، كاتب وإعلامي تونسي، بأن الآباء المؤسسين لاتحاد المغرب العربي في الـ17 من فبراير (شباط) 1989، تركوا خلفهم اتحاداً مسجى في غرفة الإنعاش"، مورداً أن تجربة الاتحاد المغاربي أظهرت أن أعضاء الاتحاد الخمسة هم المسؤولون عن تأخير البناء المغاربي المشترك، وليست "المؤامرات" الخارجية.
ولفت خشانة إلى أنه "مع كل الأهداف الكبيرة التي حملها الاتحاد المغاربي، والرامية إلى إزالة الحدود الداخلية بين الدول الأعضاء، وإحداث اتحاد جمركي وسوق مشتركة وبطاقة هوية موحدة، انهار ذلك البناء مع غلق الحدود بين المغرب والجزائر عام 1994. وتابع "30 عاماً أخفقت فيها جميع محاولات الإنعاش، وباتت المشاريع الإقليمية تعد وتنفذ في إطار ثنائي أو ثلاثي، من قبيل تحويل الجزائر لمسار الأنبوب الناقل للغاز الطبيعي إلى إسبانيا، والذي كان يعبر المغرب إلى مسار جديد عابر للمتوسط، وأيضاً إطلاق تونس خطاً تجارياً بحرياً يربط ميناء مدينة صفاقس (جنوب) بموانئ في ليبيا والمغرب، مع استبعاد الجزائر من هذا المسار، علاوة على إعلان رؤساء ليبيا والجزائر وتونس، على هامش القمة السابعة لرؤساء الدول المصدرة للغاز، عن لقاءات دورية كل ثلاثة أشهر".
هذه المبادرات والمخططات، وفق المحلل التونسي، تعني تفتيت المغرب العربي وإقحامه في لعبة المحاور، حيث لم يتم تقديم أي تفسير لاستبعاد دولتين من مؤسسي الاتحاد المغاربي، وهما المغرب وموريتانيا، وبذلك هذا التحالف الثلاثي، الذي لم تتوضح معالمه إلى اليوم، قضى على الاتحاد المغاربي الذي لم يبق منه سوى أمانته العامة، مقرها الرباط".
ورجح خشانة أن تشهد العلاقات بين بعض بلدان الاتحاد المغاربي مزيداً من التوتر في الفترة المقبلة، مع تنافس الجزائر والمغرب على مد أنبوبين ناقلين للغاز الطبيعي، الأول من أبوجا إلى ميناء بني صاف على الساحل الجزائري، متجهاً إلى إسبانيا بحراً، والثاني من أبوجا أيضاً إلى ميناء طنجة، بعد عبور مالي وموريتانيا والصحراء.
سياسة المحاور
وإذا كانت الجزائر وتونس وليبيا أيضاً تنظر بحماسة إلى "التحالف الثلاثي" الجديد، بخلاف المغرب، فإن موريتانيا وجدت نفسها بين مطرقة الانضمام إلى هذا "التكتل" وإرضاء الجزائر، وبين سندان إغضاب جارها الجنوبي الذي تربطه به علاقات دبلوماسية طيبة.
يقول في هذا الصدد الباحث الموريتاني في العلاقات الدولية أحمد إنداري إن معضلة المعضلات بالنسبة لصانع السياسة الخارجية الموريتانية ظلت منذ زمن بعيد، وما زالت، خلق نوع من التوازن في السياسة الخارجية الموريتانية تجاه الدائرة المغاربية، وبوجه خاص تجاه قطبي هذه الدائرة، أي المغرب والجزائر".
ويشرح الأستاذ الجامعي نفسه "موريتانيا بخلاف المغرب والجزائر اللتين تعدان من بين البلدان المغاربية الأكثر أهمية، تعد بلداً محدود الإمكانات، ولا تمتلك القدرات التي تؤهلها للمنافسة على زعامة تلك المنطقة، بالتالي فإن هدفها الأساس في هذه الدائرة هو أن تنأى بنفسها عن ذلك الصراع، وتبني سياسة خارجية مستقلة عن هذين القطبين قدر الإمكان".
واستطرد إنداري قائلاً "على رغم أن هذا الأمر يبدو قابلاً للتحقيق من الناحية النظرية، فإنه من الناحية العملية يطرح صعوبات عدة، من بينها أن حدة الاستقطاب الجزائري - المغربي القائم منذ عقود تجعل من كل خطوة تقوم بها موريتانيا تجاه أي من البلدين، تفسر من قبل البلد الآخر على أنها موجهة ضده".
وأكمل المحلل عينه "باستحضار هذه المعطيات يمكن فهم تحفظ موريتانيا تجاه كل تلك المبادرات وعدم قبولها الانخراط في أي منها، خصوصاً أن كل تلك المبادرات إما أنها تقصي المغرب أو تقصي الجزائر، في حين أن الموقف الموريتاني المبدئي والذي يعد من بين ثوابت سياستها الخارجية، يقوم على التمسك والتشبث بوحدة المغرب العربي بكل بلدانه، مع الإيمان بوحدة مصيره وبكونه سيشكل مفتاح المستقبل".
ووفق إنداري، نواكشوط تعد "تلك المبادرات لا تعدو أن تكون عودة إلى سياسة المحاور التي أسهمت في توتير الأجواء في المنطقة المغاربية خلال بداية ثمانينيات القرن الماضي، ولن تفيد البلدان المغاربية في شيء".