ملخص
في كثير من البلدان يعامل الموظف الذي لا يأخذ إجازات على أنه مثالي لكن كيف ينعكس ذلك على الفرد والمؤسسة على المدى الطويل؟
بحسب صحيفة "نيويورك بوست" أمضى الرئيس الأميركي جو بايدن 37 في المئة من عام 2023 أي نحو 138 يوماً في إجازات في منتجعات راقية بكامب ديفيد وجزيرة سانت كروا في البحر الكاريبي وعلى بحيرة تاهو، إضافة إلى مقر إقامته في ولاية ديلاوير. وفي الوقت نفسه أشارت الصحيفة إلى أن الرئيس السابق دونالد ترمب كان يقضي في المتوسط 26 في المئة من وقته في إجازات خارج البيت الأبيض.
تبدو الأرقام السابقة كبيرة ومبالغ فيها بالنسبة لقطاع عريض من الناس إذ إنها تخص رؤساء دول من المفترض أن لديهم مسؤوليات لا تنتهي لا تسمح لهم بأخذ يوم واحد كعطلة وليس ما يزيد على ربع العام.
كثيراً ما كان هناك اعتقاد شائع بأن الموظف المثالي هو من يأخذ إجازات في أضيق الحدود وربما يعمل ساعات إضافية فوق أوقات دوامه المعتاد، وأحياناً يتم تقديره ومكافأته باعتباره نموذجاً مثالياً يحتذى به على رغم من أن العمل من دون انقطاع على المدى الطويل سيؤدي إلى أضرار نفسية وجسدية ستنعكس بشكل مباشر على إنتاجيته وكفاءة العمل الذي يقدمه للشركة أو المؤسسة.
موظفون كثر يترددون في طلب الإجازة رغم أنها حق يكفله لهم القانون وقد يشعرون باستياء من جانب رؤساء العمل الذين يوافقون عليها من دون حماسة، وفي بعض الأحيان يعود الموظف من إجازته ليجد كميات إضافية من الأعمال التي عليه إنجازها، باعتباره قادماً من عطلة وعليه تعويض ما فات، ويختلف الأمر بحسب نوع المؤسسة وطبيعتها وطبيعة العمل ذاته.
التجارب عديدة ومتنوعة في هذا الشأن وتختلف باختلاف طبيعة المؤسسات، فالحكومية منها غير الخاصة، والكبيرة غير الصغيرة، ولكن العامل المشترك هو أن الموظف في أي مكان بالعالم يحتاج لفترة للراحة والهرب من ضغوط العمل ليعود بذهن صاف لأداء مهامه المعتادة بكفاءة أكبر.
وتحكي نهى سمير (إدارية بإحدى الشركات الخاصة) "أحاول تقسيم إجازتي السنوية إلى قسمين بحيث أستطيع أن آخذ فاصلاً من العمل لأيام كل أشهر عدة، الإجازة تساعد على أن أجدد نشاطي وأعود إلى العمل بحماسة أكبر وهذا أمر مطلوب بالفعل. عملت مع أكثر من مدير بعضهم كان يتفهم الأمر، والبعض كان يوافق على مضض حتى لو لم يعبر عن ذلك بشكل صريح، ففي النهاية الإجازة حق قانوني في المؤسسات".
أما أحمد السيد (مهندس) فيقول إن "استمرار العمل تحت ضغط، وهذا أصبح واقعاً لا مفر منه، يؤدي إلى أضرار جسيمة على الصحة، وعلى التركيز وعلى القدرة على الابتكار، والإجازة تساعد على زيادة الإنتاجية، ولكن بالفعل في مجتمعاتنا العربية ينظر إلى من لا يأخذ إجازات إلا في أضيق الحدود، على أنه نموذج ومثال يحتذى. يختلف الأمر أيضاً بحسب نوع المؤسسة، ففي الجهات الحكومية سيأخذ الموظف إجازته من دون مشكلات غالباً، أما في القطاع الخاص فالوضع يختلف، فالإجازة حتى وإن كانت حقاً فإن المدير أو صاحب العمل إن كان غير داعم ومتفهم، يمكنه أن يقلل من تقدير الموظف في التقييم أو يقلل من أي مبالغ إضافية يحصل عليها مما يجعله دائماً تحت الضغط".
الإجازة والإنتاجية
كيف تؤثر الإجازة على الإنتاجية وهل تزيدها بالفعل، وهل يخطئ صاحب العمل الذي لا يشجع موظفيه على أخذ إجازاتهم؟
تجيب خبيرة التنمية البشرية واستشاري إدارة الأعمال منى القصاص لـ"اندبندنت عربية"، بأن "جزءاً من الثقافة السائدة في العالم العربي هو أن الموظف الأفضل هو الذي يعمل ساعات أطول ويأخذ إجازات أقل، وهذا بالطبع مفهوم خطأ تماماً لأن القياس لا بد أن يعتمد على الإنتاجية. والتقييم لا بد أن يكون بناء على أهداف محددة يتم إنجازها. في الوقت ذاته لا بد أن تكون ترقية الموظف طبقاً لمعايير ومهارات معينة يمتلكها من بينها الإبداع، والتعامل ضمن فريق عمل، ومواجهة الضغوط، وكل هذا لا يمكن حدوثه مع كم التوتر والضغط الذي يكون فيه الموظف الذي لا يأخذ فاصلاً من العمل، فالاستنزاف في العمل يجعل الطاقة تنضب، والأداء يقل مهما كان الموظف متميزاً". وتضيف "بعد العودة من الإجازة يكون الموظف في أفضل أحواله، إذ شحن طاقته، مما يترتب عليه أداء أفضل وإنتاجية أكبر وجودة في الناتج. ويكون هناك توازن ينعكس لصالح العمل، وفي الوقت ذاته يحتاج الموظف إلى تخصيص بعض الوقت لتطوير نفسه في مجال عمله، سواء بالقراءة أو حضور دورات تدريبية. وهذا أيضاً يكون له انعكاس على جودة العمل".
وتستكمل القصاص، "من جانب الموظف فالأمر نفسي بحت، فهو يعتقد أن تنازله عن حقه في الإجازات قد يرسخ صورة عنه بأنه موظف مثالي ويكون حافزاً لتمسك المؤسسة أو صاحب العمل به باعتباره أفضل من غيره. ومن جانب آخر فإن المدير الذي يتعسف في منح إجازات للموظفين تكون رؤيته محدودة ولا يفكر على المدى الطويل، فهناك ضرورة لمراعاة الجوانب النفسية للموظفين وعدم معاملتهم كآلات، لأن بيئة العمل لها دور أساس في كفاءة الموظف وزيادة الإنتاجية".
ظاهرة عالمية
طبقاً لدراسة أميركية أجراها مركز "بيو" للأبحاث في عام 2023 فإن أربعة من كل 10 عمال في الولايات المتحدة لا يأخذون كامل إجازاتهم مدفوعة الأجر، فنحو 46 في المئة من العاملين في الولايات المتحدة الذين يحصلون على إجازة مدفوعة الأجر من أصحاب العمل، يأخذون وقتاً أقل مما هو متاح لهم، والأسباب التي ذكروها لعدم أخذ الإجازة كانت متنوعة، فبعضهم يشعر بالقلق من فقدان وظيفته، والبعض الآخر لا يشعر بالحاجة إلى ذلك، وهناك من لا يرغب في أن يتحمل زملاؤه أعباء غيابه.
وطبقاً للدراسة، يميل المديرون أكثر من الموظفين العاديين إلى القول إنهم يأخذون إجازات أقل من المتاح. وهناك أيضاً اختلافات بحسب مستوى التعليم، فقرابة نصف العاملين الحاصلين على درجة البكالوريوس أو أعلى يأخذون إجازات أقل من الحاصلين على درجة تعليم أقل.
دراسة أخرى صدرت عن جمعية السفر الأميركية عن تأثير العمل الزائد على معدلات النجاح والرفاهية تفيد بأنه منذ عام 1980 كان متوسط أيام الإجازة السنوية لدى الأميركيين 20.9 يوم إجازة في العام ليتقلص الرقم منذ عام 2015 الذي شهد أحد أدنى متوسطات الإجازات التي تم أخذها خلال الـ30 عاماً الماضية إلى 16.2 يوماً.
وتشير الدراسة إلى أنه كان من المرجح أن الكم الكبير من التكنولوجيا التي ظهرت في العقود الأخيرة كان الأولى به أن يزيد من فترات الإجازة باعتبار التكنولوجيا يمكنها أن تسهل وتسرع القيام بكثير من الأعمال، إلا أن ما حدث هو العكس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الإجازات والعالم العربي
لا تنتشر ثقافة الاهتمام بالصحة النفسية وتأثيراتها على العمل بين قطاع كبير من العرب ومن بينها أهمية الإجازات وتأثيرها في معدل الإنتاجية، ويتفاوت معدل الإجازات من دولة إلى أخرى، وطبقاً لبعض الإحصاءات فإن بعض دول الخليج مثل السعودية والإمارات تسجل أعلى معدل للإجازات، إضافة إلى مصر التي شهدت العام الماضي واقعة تقديم نائبة في البرلمان طلب إحاطة لرئيس مجلس الشعب تطالب فيها بتقليص عدد أيام الإجازات الرسمية، لأنها تعطل مصالح المواطنين، قائلة إن "الموظف يحصل على 104 أيام إجازة أسبوعية وقرابة 15 يوم إجازة مرتبطة بالأعياد سواء الدينية أو الرسمية، مما يعد من وجهة نظرها "فترة كبيرة تؤثر في الإنتاج وعلى مصالح الناس".
المسؤولية المجتمعية للشركات
ومن المفترض أن يكون توفير بيئة صحية للعمل ضمن أولويات المؤسسات لأنه سيعود عليها في النهاية بالجودة وزيادة الإنتاج، لا سيما توفير كل الوسائل التي تساعد الموظف على الإبداع والابتكار عبر الاهتمام بصحته النفسية وإعطائها ذات الأولوية التي يوليها بصحته البدنية.
ويقول محمد عادل الحديدي، استشاري العلاج والتأهيل النفسي، عضو الجمعية الأميركية لعلم النفس، إن "الشركات والمؤسسات تحتاج لأن تفعل فكرة المسؤولية المجتمعية، لا سيما الحفاظ على الصحة النفسية للعاملين. فكما توفر بعض الشركات نظاماً علاجياً للعاملين، فمن المفترض أن توفر متخصصاً نفسياً، وأن يمنح ذلك أولوية لأنه سينعكس على صالح العمل، ولكن في الواقع لا يوجد أي اهتمام بهذا الأمر، بيئة العمل السيئة تنعكس مباشرة على الموظف وتؤدي إلى ما يطلق عليه الاحتراق الوظيفي، ويؤثر في صحته الجسدية والنفسية مباشرة فيعاني من العصبية، وسرعة الغضب والإرهاق النفسي، والأرق إلى جانب أعراض جسدية مثل الصداع، وعلى المدى الطويل يؤثر ذلك على صحته مما سينعكس على العمل". ويضيف الحديدي "لدينا في العالم العربي تشريعات مرتبطة بتنظيم العمل ولكن كثيراً منها غير مفعل، ولا يحفظ حقوق الموظف وهذا يجعله دائماً تحت ضغط. وهناك أهمية كبيرة لمراجعة نظم وأساليب التقييم وأن تكون الجودة والكفاءة هي الأساس وليس عدد ساعات العمل الإضافية أو العطلات التي لم يأخذها الموظف، فكم من موظف بهذا الشكل ولكنه في النهاية غير منتج بالصورة الكافية التي تحسن من جودة العمل". ويتابع "الموظف في أي مكان في العالم يحتاج إلى الشعور بالأمان الوظيفي الذي يفتقده كثير من الناس ويدفعهم إلى العمل دائماً تحت ضغط وقلق من فقدان الوظيفة في ظل الظروف الصعبة، مما يشكل سبباً رئيساً يجعله يتخلى عن كثير من الأشياء التي تدعم صحته النفسية ومن بينها الإجازات ولكن على المدى الطويل فإن هذا سينعكس سلباً على الفرد والمؤسسة".