3 فواجع تاريخية تمنع قيام الدولة اللبنانية

يُثقل التاريخ مشروع قيام الدولة في لبنان، هو الأشد وطأة عليها لأنه حاضر بكل شاردة وواردة ولم يصل بعد إلى مرحلة أخذ العِبر. التاريخ في لبنان ليس أحداثاً تتتابع وتتحول وتتطور مع الزمن. هو الطبق الساخن ذاته على المائدة. أفكار وروايات وثقافات مهيمنة لا تدع مجالاً لغيرها، وتسد طريق التغيير والمستقبل. هذه الدولة تبدو مستحيلة لأنها محاصرة بثلاث "فواجع تاريخية"، يرفض أصحابها التخلي عنها لأنهم يربطون وجودهم بها.

الفجيعة الأقدم فجيعة اليهود المستمرة منذ ما قبل ميلاد المسيح بنحو 500 سنة، وعندما يعتنق اليهود عقيدة "الشعب المختار" فكل حدث يبعدهم عن هذا الاستعصاء التاريخي ينثر بذور فجيعة أخرى. وآخرة الفواجع "المحرقة" التي مهدت لقيام دولة إسرائيل الحالية.

في الدول العادية، من مراسم استقبال الرؤساء وضع إكليل الزهر على نصب "الجندي المجهول"، أما في إسرائيل فزيارة متحف "ياد فاشيم" تحمل دلالة مبطنة مفادها بأن "الهولوكوست" مستمرة ومعاداة السامية لا تزال تنصب الكمائن لشعب اليهود ودولته. وبينما كانت هذه الفجيعة تبني الوطن القومي لليهود على حدود لبنان الجنوبية في ثلاثينيات القرن الماضي، دقّ مفكرون لبنانيون أجراس الخطر على اعتبار أن الكيان اليهودي يمثل النقيض لما يرجوه اللبنانيون من دولة العيش المشترك التي بدأت مغامرتها عام 1920. وفي أقل من عقدين من الزمن حصل أسوأ ما توقعه هؤلاء المفكرون، وبينهم مسيحيون وقعوا بين نارين، نار إقناع غالبية إسلامية لم تهضم فكرة لبنان المستقل عن سوريا، ونار الكيان اليهودي الذي سيؤجج الصراع الديني ويبعد سراب مفهوم الدولة الحديثة. ولأن الفجيعة تولِّد الأخرى، جاءت فجيعة الشعب الفلسطيني على اسم "النكبة". وبسبب سوء إدارة الصراع، تاه الفلسطينيون على دروب الأنظمة العربية المستبدة والحرب الباردة، وغلّبوا الوجه الديني من الصراع على ما عداه من وجوه قضيتهم المحقة. حتى ياسر عرفات، قبل أن تستأثر "حماس" الإسلامية بالمشهد، كانت فلسطين بالنسبة إليه، وفي أواخر أيامه، "أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين"، وهكذا تحولت "القضية" بما تعنيه من نضال سياسي وحقوق إنسان إلى "فجيعة" دينية.

وكيف يمكن أن يشتد عود "الدولة" في لبنان، بوجود فجيعتين أخذتا من أرضها مسرحاً لصراعهما؟

الفجيعة الثالثة، تزامن اكتمال تفجّرها اللبناني مع الخروج الفلسطيني بثقله العسكري والسياسي بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، إنها فجيعة التراث الكربلائي، حيث الشعور بالظلم التاريخي والاستضعاف يقود حزباً إسلامياً على المذهب الشيعي، وفق عقيدة ولاية الفقيه في طهران التي تُعِدّ ليهود إسرائيل "فجيعة جديدة" وتريد رميهم بالبحر.

و"على طريق القدس" لا يجد "حزب الله" غضاضة بالتهديم الممنهج لفكرة الدولة اللبنانية كما تصورها المؤسسون. لذا أطلال ما تبقى من مؤسسات الدولة اليوم، كأنها تخالف واجباً شرعياً يقتضي بهدمها الكلي. فلبنان وكما يقول الأمين العام للحزب حسن نصرالله "جزء من جمهورية الولي الفقيه الحاكم الفعلي لكل البلاد الإسلامية، لأن ولايته ليست محدودة بحدود جغرافية، فولايته ممتدة بامتداد المسلمين".

لكل ما سبق، مَن يملك إجابة مقنعة تحمل أملاً قريباً بقيام "الدولة" في لبنان، وهذه الفواجع الثلاث في أقصى غليانها؟ قال فولتير "كل شيء على ما يرام اليوم، هذا هو وهمنا".