ملخص
منذ وفاته، لم يحظ الرسام الفرنسي الكبير جان إيليون (1904 ــ 1987) بمعرض يبيّن قيمة بحثه التشكيلي، على رغم أنه أحد رواد التجريد الهندسي، ومشاركته في تأسيس مجموعة "تجريد ــ إبداع" التي جمعت أفضل ممثلي الفن التجريدي بين الحربين العالميتين، ثم ابتكاره أسلوباً تصويرياً خاصاً حوّله إلى مرجع رئيس لحركتي "التصوير السردي" و"التصوير الحر".
يحتفي "متحف باريس للفن الحديث" بالرسام الكبير جان إيليون أحد رواد التجريد الهندسي، الذي شارك في تأسيس مجموعة "تجريد ــ إبداع" التي جمعت أفضل ممثلي الفن التجريدي بين الحربين العالميتين. وقد ابتكر أسلوباً تصويرياً خاصاً حوّله إلى مرجع رئيس لحركتي التصوير السردي والتصوير الحر.
منذ وفاته، لم يحظ الرسام الفرنسي الكبير جان إيليون (1904 ــ 1987) بمعرض يبيّن قيمة بحثه التشكيلي، على رغم أنه أحد رواد التجريد الهندسي، ومشاركته في تأسيس مجموعة "تجريد ــ إبداع" التي جمعت أفضل ممثلي الفن التجريدي بين الحربين العالميتين، ثم ابتكاره أسلوباً تصويرياً خاصاً حوّله إلى مرجع رئيس لحركتي "التصوير السردي" و"التصوير الحر". وإن أضفنا الاعجاب الذي أبداه كبار شعراء زمنه بعمله، مثل فرنسيس بونج ورينه شار وأندريه دو بوشيه، فلا يسعنا سوى التعجب من الإهمال الذي وقع ضحيته بعد رحيله، والترحيب بمبادرة "متحف باريس للفن الحديث" في تنظيم معرض استعادي له، انطلق حديثاً تحت عنوان "جان إيليون، نثر العالم"، ويهدف إلى منح هذا الفنان كل الاهتمام الذي يستحقه، عبر تتبّع سيرورة تطور فنه بتسليط الضوء على مختلف مراحله.
وتجدر الإشارة بدايةً إلى أن افتقار إيليون إلى الظهور اليوم، يعود إلى توحيد المؤسسات الفنية الكبرى برامجها، مما أدى إلى عدم اقتراحها منذ سنوات، سوى معارض لفنانين مشهورين، وتجاهُلها، بدافع الكسب المادي، أولئك الذين يتمتعون بأهمية كبرى ولكن لا يحظون بالظهور نفسه. هكذا، بدلاً من أن تؤدّي هذه المؤسسات الدور المنتظر منها، أي تثقيف جمهورها وتوسيع أفقه، باتت تلتزم، لا بل تداعب ذوقه، الفقير أصلاً. لكن حتى في ذلك، أثبتت عن قصر نظر بعدم وعيها الفتنة التي يمكن أن تمارسها المرحلة التجريدية من مسيرة إيليون على المتأمل في ثمارها، مهما كان جاهلاً، وأيضاً كل ما رسمه هذا العملاق خلال عودته الطويلة إلى فن التصوير. فتنة تعكس حيوية أعماله التي لم يقو عليها الزمن، بل عزّز الغموض الذي يلفّها، كما لو أن جميع المعارض والكتابات النقدية التي حظيت بها في السابق، لم تتمكن من كشف حقيقتها ومختلف أبعادها.
مرحلة إيليون التجريدية انطلقت في منتصف العشرينيات، في اللحظة التي وضع نفسه فيها تحت تأثير جواكيم توريس غارسيا، ونضجت حين زار محترف موندريان في باريس، عام 1930، وافتُتن بوضوح لوحاته الهندسية وأناقة شخصه وسمو أخلاقه. وآنذاك، كان أحد الفنانين الفرنسيين النادرين الذين نسجوا صداقات خصبة مع الفنانين الأجانب المتواجدين في العاصمة الفرنسية، وتطوّروا في كنفها، كما تشهد على ذلك الحركات والمجلات الطلائعية التي أسّسها، واحدة تلو الأخرى. أما التجريد الذي تبنّاه كأسلوب، وطوّره بسرعة بين عامي 1929 و1939، فكان استجابة لرغبة في يوتوبيا إنسانية، شهدت نكسةً أولى أثناء إقامته في الاتحاد السوفياتي عام 1931، أي قبل عام من "المجاعة الكبرى" في أوكرانيا التي يقف الشيوعيون خلفها. إقامة عاد منها محبطاً لاستنتاجه فشل المشروع الشيوعي في المحافظة على بعده الإنساني، وبالتالي فشل المجتمع المثالي الذي كانت الحركة التجريدية تحمله داخلها.
ومع صعود نجم هتلر ووصوله إلى السلطة، واندلاع الحرب الأهلية في إسبانيا، تحوّل استنتاج إيليون إلى قناعة بأن التجريد ليس لغة المجتمع الجديد الشاملة، لأن هذا الأخير مجرّد يوتوبيا. ومع ذلك، بقي فناناً تجريدياً، حتى لو أن التجريد هو الذي غادره وليس العكس، على حد قوله، لأنه فقد تفاؤله به. هكذا، فقدت لوحاته تدريجاً جانبها الهندسي وظهرت داخلها وجوه وقامات أفضت عام 1939 إلى لوحة "وجه ساقِط" التي تُعتبر واحداً من أجمل إنجازات الفن الحديث، لكنها تشكّل خصوصاً شهادة حاسمة على نهاية وهمٍ. فبعد فشل التجريد في مرافقة انبثاق مجتمع جديد، دخل في شكل من الخضوع، في نظر الفنان، أفقده صلته بما يمنح الفن ضرورته، أي القدرة على التعبير عن الحياة والأشياء. من هنا تخليه عنه كلياُ.
من التجريد إلى التصوير
صديق إيليون، مؤرّخ الفن الكبير ماير شابيرو، بدا آنذاك الوحيد الذي فهم أن عبور الفنان من التجريد إلى التصوير لم يكن عودة إلى الوراء، والقوى التي كانت فاعلة في فنه التجريدي بقيت هي نفسها في فنه الجديد. ومن هذا المنطلق، كتب في مقدمته لكتالوغ أحد معارض صديقه في نيويورك: "تحافظ أشكاله على خصائص الأشياء (صلابة، عمق، وفرة التناقضات، علاقات معقّدة) ضمن كلٍّ مشيّد بإحكام، حيث كل شيء يحظى بانتباه دقيق ومعالجة مدهشة في كمالها". لكن في زمن كان التجريد فيه مرادفاً للحداثة، لم تتمكن مقدمة شابيرو من تبديد سوء فهم النقاد الأميركيين للمنعطف في فن إيليون، ففقد هذا الأخير موقعه في أميركا، على رغم كونه هو الذي أدخل التجريد والفن الطلائعي إليها، مع صديقه مارسيل دوشان، وعلى رغم البحوث الفنية المرجعية العديدة التي نشرها فيها، والنجاح الذي لقيه الكتاب الذي روى فيه هروبه من معسكر اعتقال نازي أثناء الحرب، وزواجه من بيغين فايل، ابنة بيغي غوغنهايم.
هكذا عاد إيليون نهائياً إلى فرنسا عام 1946، آملاً في التمتع بحرّية أكبر في عمله، ومسلّحاً بتجربة الحرب والأسر التي عاشها وعزّزت داخله قناعة رافقته منذ بداياته، أي ضرورة الوقوف إلى جانب الحياة، بقوتها وهشاشتها. قناعة جعلته يعي آنذاك ضرورة رسم شيء آخر، يكون مرتبطاً بالواقع، بالشارع، بالكائنات والأشياء. ولكن حتى في فرنسا، لم تساعده مكانته كأحد رواد الحركة التجريدية في فرض لوحاته التصويرية الجديدة التي اعتُبرت، كما في أميركا، عودة إلى الوراء، سيرٌ بعكس التاريخ، وخصوصاً بعكس توقّعات عالم الفن. وحدهم الشعراء وقفوا إلى جانبه ودافعوا عن فنه وخياراته.
ولتفسير سوء الفهم الذي تعرّض له إيليون وفنه آنذاك، تجدر الإشارة هنا إلى أنّ، لفترة طويلة، كان يُعتقد أن التصوير الجديد في الرسم هو رد فعل سلبي على التجريد، في حين أن كليهما انبثقا من المصدر نفسه: رفض الصورة الفوتوغرافية الصناعية التي راجت منذ مطلع القرن الماضي، لأنها تستبدل رؤية واقع العالم بنظرة سطحية عليه. وإيليون لم يهتم فقط بالواقع، بل أعاد أيضاً بناءه وفقاً لتراتبية الأشياء فيه. فبالنسبة إليه، تعلّق الأمر برؤية هذه الأشياء، انطلاقاً من تلك الأكثر تواضعاً من بينها، مثل مظلّة أو وعاء من الزهور على نافذة، وبإظهارها في كل هيبتها وفتنتها، بعد تحريرها من النظرة المبتذلة عليها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من هنا اعتباره الواقعية الفوتوغرافية عاجزة عن تمثيل الواقع المعش، وتبنّيه واقعية تهجس بما يفلت تحديداً من نظرنا، وممارسته الرسم كوسيلة تجعلنا ندرك أننا عميان، بوضعه تحت أنظارنا، ما لا نراه، أو ما لا نريد رؤيته، مبيّناً لنا مكامن حضور الحياة، بين واقع وذكريات وأحلام يقظة، وشافياً إيانا من العمى. وفي هذا السياق، تحضر في لوحاته التصويرية شبكة كاملة من الموضوعات يتحلّى المخفي فيها بأهمية الظاهر. هكذا تصبح مداخل المترو، في بعضها، أبواباً بين العالم المرئي وعالم سفلي لا تغيب الحياة فيه إلا لتنبثق من جديد. وسواء رسم عشّاقاً يتعانقون في الشارع أو على العشب، أو صحيفة يمسك بها مارّ، أو بركة ماء على حافة رصيف، سعى خلف تلك القدسية الكامنة في كل شيء، وعرف بألمعية نادرة كيف يُظهرها.
بل عرف إيليون أيضاً كيف يعيد ابتكار بنية الفضاء نفسه مع كل ما يحضر فيه، بواقعية تضفي شدّتها عليه، بشكلٍ مفارق، بعداً حلمياً، كما في تحفته الفنية "المحترف" (1953). ولا عجب في ذلك، فالواقع شيءٌ مدهش، هائل، متعدد، تصعب محاصرته، لكنّ الفنان نجح في تجسيده عن طريق إعادة كتابته تشكيلياً، خطاً بعد خط، لمسة تلو لمسة، شاحناً إياه بهالة شعرية شخصية للغاية، تُفسّر لماذا لم تُفهم هذه المرحلة من عمله في حينها. فمن سلسة لوحات إلى أخرى، استهدف، ليس أقل من ذلك الرابط بين واقع ورسم، ومعه تلك الغبطة والكآبة وسائر المشاعر التي لا غنى عنها لتحسّس وجودنا.