بذلتُ مسعى جاداً لرأب الصدع المتزايد بين الرئيس صالح والمعارضة، لكن كان من الواضح أن الطرفين يستعدان لمعركة طويلة وكنتُ مؤمناً بأهمية وجود معارضة قوية لضمان استمرار الالتزام بالدستور، مهما شابت التجربة عيوباً، وكان الدكتور الأرياني يشجعني على استمرار بذل الجهد في هذا الاتجاه، خصوصاً مع الحزب الاشتراكي الذي كان يعتبره شريكاً مهماً لنمو طبيعي، ودعماً للعمل الحزبي المنظم الذي لا يستخدم الدين عنواناً لبرامجه السياسية.
كانت غالبية لقاءاتي خلال زيارتي مع أصدقائي في مقيل الأستاذ محمد سالم باسندوة، التي كان يحضرها كل قادة المعارضة والصحافيين، وتحول إلى ما يشبه المنتدى السياسي الأهم في صنعاء، ولم يكن الوزراء وقيادات المؤتمر الشعبي من الحاضرين، إلاّ قلة ممن كانوا مكلفين بنقل ما يدور لصالح وأجهزة الأمن.
صباح أحد الأيام التي قضيتها في صنعاء، طلبني الرئيس صالح إلى "الدار" وذهبت إليه، وفور دخولي، كان يجلس تحت إحدى الخيام ومعه اللواء علي محسن الأحمر يتبادلان الحديث، وعندما اقتربت بادرني بالقول "روح اتفاهم مع ياسين والأنسي على تأجيل الانتخابات...". كان ردي أمام اللواء محسن "لن أفعل، لأنك تتعمد أن تخذل أي مسعى بعد التحرك فيه"، لكن علي محسن قال بحزم "روح وأنا ضامن".
خرجت من "الدار" واتصلت بالدكتور الأرياني واستأذنته زيارته لأخبره، وأبدى سعادته بكسر الجمود... ومن ثم، اتصلت بالدكتور ياسين والأستاذ عبد الوهاب الأنسي والتقيت بكل منهما لأعرف موقفهما. وكان ردهما إيجابياً مع شك في جدية العرض وإذا كان سيستوفي شروط المعارضة المعلنة.
كانت العقدة الحقيقية في التوصل إلى اتفاق، هي القطيعة التي ازدادت خصوصاً بعد وفاة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر ولم يعد في قيادة حزب الإصلاح من يتمتع بمكانته ونفوذه في دائرة الحكم، كما أن النفور الشخصي بين صالح وعدد من القيادات العليا في الإصلاح زاد صعوبة أي مسعى، كما أنه لم يكن على علاقة ود مع الدكتور ياسين نعمان ولا يحبّذ التعامل معه... كانت كل هذه عوامل غير ميسّرة لأي جهد لتقريب وجهات النظر.
كنت مدعواً للغداء عند صديق في منطقة عصر، الواقعة في مرتفع على الطريق الذي يربط بين صنعاء والحديدة، وتطل على العاصمة، وفي الطريق، اتصل الرئيس وقال إنه يريد أن يستقبل الدكتور ياسين والأستاذ الأنسي في مقيل القات... كان ردي أنني سأحاول. اتصلت بالأستاذ الأنسي الذي قال إنه عليّ الحديث أولاً مع الدكتور ياسين نعمان، فإذا وافق، نمر عليه.
توجهت إلى منزل الدكتور ياسين وتحدثت إليه واقتنع بالأمر وتوجهنا بسيارتي إلى منزل الأستاذ عبد الوهاب الأنسي، ودار حديث قصير حول ما يمكن أن ينتج من اللقاء مع الرئيس، وكان موقفي أن التواصل المباشر أجدى، كما أنه من المهم التخفيف من التوتر في الجو السياسي، فوافقا.
لكن قبل خروجنا، أصرا على ضرورة حضور الأستاذ سلطان العتواني باعتباره الرئيس الدوري للقاء المشترك، والدكتور عبد الوهاب محمود، نائب رئيس مجلس النواب والقيادي الأرفع في حزب البعث باليمن وهو كذلك من أهم الشخصيات الوطنية اليمنية التي تحظى باحترام مجتمعي وسياسي كبيرَيْن.
استأذنت الخروج للاتصال بالرئيس، وأبلغته بضرورة دعوة الأستاذ العتواني، فطلب مني أن أبلغه، لكنني قلت إنه من الأفضل أن يتصل به أحد معاونيه، ولم أطلعه على إصرار الأنسي وياسين حضور الدكتور عبد الوهاب محمود لأنني كنتُ غير متأكد أنه سيوافق على حضوره، كما كنتُ غير واثق بأن يقبل الدكتور الذهاب معنا... وذلك لسابق خلاف شديد مع صالح الذي اعترض على توليه رئاسة مجلس النواب، بعد وفاة الشيخ عبدالله الأحمر في ديسمبر (كانون الأول) 2007، مفضّلاً اللواء يحي الراعي، على الرغم من فارق التجربة السياسية والقدرات الشخصية والكفاءة، وهو أمر أثار استياء كثيرين، من ضمنهم الدكتور الأرياني والأستاذ عبد العزيز عبد الغني وعدد من قيادات المؤتمر الشعبي.
بعد خروجنا من منزل الأستاذ الأنسي، توجهنا إلى منزل الدكتور عبد الوهاب القريب من "الدار". استقبلنا ببشاشته وظرفه ودخلنا غرفة بعيدة من المكان الذي كان يجلس فيه مع عدد من أصدقائه، ومن ثم شرحنا له هدف وصولنا وتمنّينا عليه أن يـأتي معنا، لكنه رفض الفكرة مع تمنياته بنجاح المسعى، فألححتُ عليه أن الكل يعرف ما قدمه في شبابه للوطن وتضحياته الكثيرة وترفّعه عن الدسائس السياسية، وقلتُ إن حضوره سيكون أكثر تأثيراً في مجريات اللقاء وربما التوصل إلى اتفاق يُبعد شبح أزمة، لم أكن أُدرك أنها تقترب بالمشهد إلى دمار ودماء.
ذهبنا جميعاً بسيارتي إلى "الدار" وتوجهنا على الفور إلى غرفة "المقيل"، حيث كان الأستاذ العتواني قد سبقنا، وكان حاضراً الدكتور الأرياني والأستاذ عبد العزيز عبد الغني والشيخين محمد بن ناجي الشايف وياسر العواضي، ولاحظتُ على الفور أن الرئيس فوجئ بحضور الدكتور عبد الوهاب... وبعد وقت قصير، شعرتُ أن الحديث لن يبدأ بحضور الشيخين الشايف والعواضي، فكتبت للرئيس ورقة رجوته أن يطلب مني ومنهما مغادرة "المقيل"، وكنتُ حريصاً على إنجاح هذا اللقاء الأول بعد قطيعة استمرت طويلاً وجمّدت النشاط السياسي.
أشار إليّ الرئيس للحديث معه في الصالة الملحقة بـ"المقيل"، وقال إنه لا يستطيع إخراج الشايف والعواضي، فقلتُ له لماذا دعيتهما؟ فردّ أنه لم يكن واثقاً أنني سـأتمكن من إقناع قيادة المعارضة بالحضور، وعرض التأجيل إلى اليوم التالي، وعُدنا إلى "المقيل"... لكن فجأة، خرج الشايف والعواضي وبعدها بدأ النقاش، واستمر حتى الساعة ٨ والنصف وكانت نتيجته الأهم، كسر حاجز القطيعة بين الرئيس والمعارضة وتخفيف التوتر السياسي.
قبل المغادرة، استأذنتُ الرئيس لحديث جانبي وطلبتُ منه أن يدعو الدكتور عبد الوهاب محمود للقاء خاص ليزيل الجفاء الذي شاب علاقتهما بعد موقف صالح تجاهه في انتخابات رئاسة مجلس النواب، فوافق وقال لي أن أخبره بالحضور صباح اليوم التالي، لكنني قلت له إنه من الأفضل أن يبادر هو شخصياً بذلك، وقد فعل وحصل اللقاء وصفت الأجواء الشخصية بينهما.
بدأت اللجنة الرباعية أعمالها وجرى التفاهم على تركيبة اللجنة العليا للانتخابات وتعديل قانون الانتخابات وضمانات إجرائها بصورة تبعد تدخلات مؤسسات الدولة واستخدام المال العام، ومن ثم توصلت إلى اتفاق ينص على تأجيل الانتخابات التشريعية التي كانت مقررة في 27 أبريل (نيسان) 2007 لسنتين وإجراء تعديلات دستورية تعزز اللامركزية وتمنح البرلمان صلاحيات أوسع، ما كان سيضمن مشاركة المعارضة في الانتخابات بعدما لوّحت بالمقاطعة ونظمت تظاهرات خلال الأشهر الماضية للدعوة إلى عدم المشاركة في الانتخابات ورفضاً "للتزوير" في اللوائح الانتخابية.
وغادرتُ عائداً الى الهند بعد أيام قليلة.
(للحديث بقية)