ملخص
رافق الطفل وولفغانغ أماديوسموزارت والده في جولة أوروبية استغرقت سنوات ثلاث تحول خلالها من عازف استثنائي في ركاب أبيه إلى مؤلف موسيقي كبير يذهل العالم ويصنع تاريخ الموسيقى
هي جولة أوروبية أولى وربما مبكرة جداً قام بها الموسيقي النمسوي ليوبولد موزارت مصطحباً فيها طفليه العازفين اللذين كانا قد نالا بعض الشهرة المحلية في ديارهما وفي بعض أنحاء الجنوب الألماني المجاورة. وكان الطفلان طبعاً في مستهل سنوات عمرهما، الابنة بالكاد بلغت سن المراهقة والابن بالكاد تجاوز التاسعة من عمره. ولم يكن هذا الأخير بالطبع سوى وولفغانغ أماديوس الذي سيتحول خلال السنوات الثلاث التي استغرقتها الجولة من عازف – استثنائي على أية حال – في ركاب أبيه، إلى مؤلف موسيقي كبير يذهل العالم ويصنع تاريخ الموسيقى. وهو ما كان قد تنبأ له به على أية حال أديب كان شاباً في ذلك الحين وكان من بين حضور واحدة من حفلاته، في فرانكفورت، فكتب عنه قائلاً أن "هذا الفتى سيكون من دون أدنى ريب من كبار صانعي تاريخ الموسيقى". كان اسم الأديب غوته. لكن أحداً لم يتوقف حينها عند رأيه فهو لم يكن معروفاً وبالتحديد مقارنة مع الطفل الموهوب الذي يتحدث عنه. فالعرض الذي قدمه أماديوس مع أبيه وأخته وأثار ذلك التعليق من غوته، كان خلال المرحلة الأخيرة من الجولة وكانت 4 أو 5 بلدان أوروبية قد تعرفت إلى الفتى عن كثب وكونت بنفسها رأياً فيه. بل عرفت كذلك كيف تتعايش مع نزواته وتقلبات مزاجه التي ستقلب مذذاك وصاعداً علاقات القوة حتى بينه وبين أبيه، وستسمح له بأن يبدي غضبه وربما اشمئزازه أيضاً من مدام دي بومبادور إحدى كبريات نساء البلاط الفرنسي وسيدات المجتمع لمجرد أنها لم تتنازل بعناقه كما اعتادت أن تفعل سيدات البلاطات الأوروبية في كل مرة التقين به.
فتى أوروبا المدلل
يقيناً أن وولفغانغ أماديوس كان قد بات فتى أوروبا المدلل وسيد الموسيقى الكبير فيها طوال تلك الجولة التي قرر الوالد ليوبولد أن يقوم بها صحبة أسرته الصغيرة ساعياً وراء الرزق في الأنحاء الأوروبية ولكن أيضاً وراء توطيد مكانة لولديه العبقريين ولا سيما لوولفغانغ يعوض لهما من خلالها على شظف العيش الذي كان من نصيبهما خلال السنوات الأولى من حياتهما العائلية. ولكن، أكثر من ذلك أن يعرفهما على كبار مبدعي البلدان التي سيزورونها ولا سيما على موسيقيين كانوا مالئي الدنيا وشاغلي الناس في مناخات كانت تطبعها المنافسة الحادة بين الموسيقى الفرنسية وتلك الإيطالية. ومن المؤكد أن الجولة قد حققت للأب وطفليه كل ما كانوا يتطلعون إليه. لكنها حققت للطفل المعجزة أكثر كثيراً من ذلك كما سنرى. ولكن قبل ذلك لا بد من أن نتوقف بعض الشيء عند جغرافية تلك الجولة التي ربما سيكون من أهم صفاتها كونها رحلة تعليمية من طراز رفيع، عائلياً وموسيقياً، ولا سيما بالنسبة إلى الفتى الذي تحول خلالها تحولاً مذهلاً.
بدأت الجولة أواسط يونيو (حزيران) 1763 وكان وولفغانغ بالكاد قد تجاوز السابعة من عمره فيما كانت أخته ماريا آنا الملقبة نانيرل والتي تكبره بـ 4 أعوام ونصف وهي الوحيدة التي بقيت على قيد الحياة إضافة إلى وولفغانغ بين المواليد السبعة الذين أنجبهما الوالدان وكانت الآن في الحادية عشر. وكانت ماهرة إلى حد مدهش هي الأخرى في العزف على البيانو المعروف بالكلافيسان. ولا شك أن وولفغانغ اعتبرها معلمته الأولى، إذ كان يمضي ساعات مستمعاً إلى عزفها منذ طفولته المبكرة. المهم أنهما كانا على تلك السن حين بدأت الجولة. وكانت فيينا محطتهم الأولى قدموا إليها من مدينتهم سالزبورغ بعد مرور بميونيخ. والحقيقة أن سمعة الطفل كانت قد سبقته إلى عاصمة الإمبراطورية. ومن هنا غمرتهما منذ الوصول دعوات للعزف والإقامة والاحتفال في بيوت الكبار وبخاصة أن الأرشيدوق جوزف الابن الأكبر للإمبراطورة كان قد حكى عن الفتى لأمه بشغف وحماسة، فكانت على أتم الاستعداد لاستقباله والاستماع إلى عزفه في قصر شونبرون حيث بين معزوفة وأخرى راحت تعانقه فيما راح هو يتقافز في أحضانها ويقبلها. ولقد وصل احتفال البلاط الإمبراطوري بتلك العائلة أن تجمع كل أهل البلاط أكثر من مرة واحدة للاستماع إلى العزف المذهل الذي راح يقدم. ومن طرائف تلك الحفلات ما حدث خلال إحداها حين انزلقت قدم العازف الطفل وهو يتراقص فوقع أرضاً لتتلقفه يدا أميرة تفوقه قليلاً في السن ويشكرها قائلاً لها: "أنت لطيفة حقاً. عندما أكبر سأتخذك زوجة لي". وطبعاً لم يفعل ذلك أما هي فتزوجت حين كبرت من ملك فرنسا لتصبح الملكة ماري أنطوانيت وتتندر في أمسياتها بتلك الحكاية التي كانت فخورة بكونها جمعتها يوماً بالموسيقي الكبير.
من النمسا إلى ألمانيا
كانت الأيام التي قضوها في فيينا ممتعة حقاً كما سيكتب ليوبولد لاحقاً لكنها كانت مرحلة لا بد لها أن تنتهي فأمام الأسرة الموسيقية جولات جديدة سيعودون عند بداياتها إلى ميونيخ حيث لم تقل حفاوة الإمبراطور ماكسيميليان الثالث بهم عن حفاوة العائلة المالكة في فيينا. بل فاقتها ليس فقط من حيث كرم الضيافة بل من حيث كثرة الهدايا والمكافآت التي راحت تنهال عليهم ناهيك بكتب التوصية التي منحت لهم وستكون ذات فائدة جمة لاحقاً. ولكن في أوغسبورغ التي كانت محطتهم التالية، كان على الطفلين وأبيهما الاكتفاء من المجد بالظهور للمرة الأولى أمام جمهور عادي تدافع للتفرج على الطفل المعجزة وأخته، ولكن أكثر مما للاستمتاع بالعزف... وستكون الحال كذلك على أية حال في المحطات التالية من فرانكفورت حيث كان اللقاء مع غوته ثم كوبلانس وبون فكولونيا وإيكس لا شابيل. ففي تلك المناطق كان الإقبال الجماهيري أهم من الاستضافات الملكية الراقية. ولئن كان ذلك لم يحدث أي تأثير سلبي لدى الصغير وولفغانغ فإنه أثار استياء الأب الذي لن يتوانى عن إبداء غضبه وبخاصة من شقيق الإمبراطور فرانسوا الأول الذي كشف عن أنياب بخله إلى درجة أن ليوبولد علق على ذلك ساخرا بقوله: "يا للمسكين! من الواضح أنه خالي الوفاض!" والمهم في الأمر هنا أن ذلك تواصل عبر بروكسل التي كانت حينها عاصمة الإمبراطورية الهولندية النمسوية والتي كان يحكمها "البخيل" شارل دي لورين شقيق فرانسوا الأول الذي لم يكن أقل بخلاً من أخيه بحسب رأي ليبولد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مرور حتمي بلندن
مهما يكن من أمر كانت تلك هي المرحلة الأخيرة قبل الوصول إلى لندن في زيارة حتمية لا بد من القيام بها قبل أن تحط العائلة عصا ذلك التجول في مرحلته الأخيرة، باريس؛ ولسوف تكون إقامتهم العابرة في لندن، تحت رعاية الملك جورج الثالث والملكة شارلوت – علماً بأنه يبدو أن تلك الانخطافة اللندنية كانت ضئيلة الأهمية بالنسبة إلى العائلة مقارنة بتوق الوصول إلى باريس - والمهم هنا أنهم وصلوا أخيراً إلى باريس المحطة التي لا شك أنها تستحق عدداً كبيراً من الصفحات لتفصيلها. ولقد وصلها المتجولون يوم 18 نوفمبر (تشرين الثاني) 1763 وكان في انتظارهم هناك الشخص الذي سيبدي تجاههم أكبر قدر من الأريحية والود إلى درجة أن العائلة ستبقى محتفظة له بأفضاله ما عاشت. وهذا الشخص لم يكن سوى البارون كريستيان فون غريم. المعروف في فرنسا بتنويريته وصداقته مع الموسوعيين ومناصرته الشرسة للموسيقى الإيطالية التي كان ليوبولد وولداه من دعاتها. وكان البارون يقيم في فرنسا منذ 15 عاماً حيث أصدر كتاباً كان فائق الشهرة حينها، "مراسلات أدبية فلسفية ونقدية" كان عبارة عن صورة بانورامية للحياة الفكرية والفنية في البلد المضيف. ولقد سارع البارون إلى استقبال العائلة منظماً لها برامج حفلاتها ولقاءاتها وعرفها بعدد كبير من كبار القوم في شتى المجالات ولا سيما مجال التجديد الموسيقي، بما في ذلك بأصغر أبناء الموسيقي الألماني الكبير جان سيباستيان باخ. ولسوف يقول موزارت لاحقاً أن تلك اللقاءات كانت هي ما صنعه كمؤلف موسيقي فأنتج عدداً من مقطوعات بداياته وحفزه ذلك، كما سيقول، على التفكير بأولى أوبراته هو الذي كان يحلم بكتابة الأوبرا، وعلى النمط الإيطالي منذ سن التاسعة. لقد كانت باريس بالتالي أهم مرحلة في حياة موزارت... وهو موضوع سنعود إليه بمفرده بالتأكيد.