شكلت القمة الرئاسية الثلاثية، بين كل من روسيا وإيران وتركيا، والتي عقدت أمس (16 سبتمبر) في أنقرة، منصة لتراجع الدول الثلاث التغيرات التي جرت في الساحة السورية طوال الشهور الثمانية الماضية، منذ أن عقدت هذه الدول ذاتها آخر قمة مماثلة في مدينة سوتشي الروسية، في الرابع عشر من فبراير (شباط) من العام الحالي.
وتعتبر قمة الأمس، الخامسة بين الدول الثلاث حول المسألة السورية منذ سنوات، تحرص عادة للبحث عن المصالح والاستراتيجية المشتركة في ما بينها في الساحة السورية، وتذهب للتكاتف المتبادل لمواجهة القوى الإقليمية والدولية التي تراها هذه الدول خصماً مشتركاً في المسألة السورية.
إدلب وترويض الرفض التركي
وكانت الأحوال الميدانية في محافظة إدلب، وبقية المناطق السورية الخاضعة لسلطة القوى السورية المسلحة المرتبطة بتركيا، جوهر النقاشات التي تداولتها القمة الثلاثية، فقد كانت حاضرة بشكل مكثف في خطابات المجتمعين، واستحوذت على قرابة نصف البيان الختامي للقمة.
وتوافقت هذه الدول، في السابع عشر من سبتمبر (أيلول) 2018، على مذكرة تفاهم مشتركة بشأن هذه المنطقة، سميت وقتها بـ"اتفاق سوتشي لخفض التصعيد"، والذي خلص إلى أن الحل في تلك المنطقة يقوم على مستويين أساسيين: الأول على التزام النظام السوري وحلفائه بعدم التصعيد العسكري في تلك المنطقة، والثاني يتعلق بتعهد تركيا بمواجهة وتفكيك القوى العسكرية المتطرفة في تلك المنطقة، بالذات تنظيما داعش وجبهة النصرة الإرهابيين.
عملياً، وطوال عام كامل من تاريخ ذلك الاتفاق، لم يتم تنفيذ أي شيء من ذلك. إذ لم تتمكن تركيا، وغالباً لم ترغب، في ضبط وكبح أي من القوى المسلحة الرديفة لها، بما في ذلك التنظيمات الأكثر تطرفاً.
كما أن النظام السوري وحلفاءه الميدانيين لم يتوقفوا عن قصف مختلف تلك المناطق، التي وصلت حد الهجوم الشامل على مناطق شمال محافظة حماة وجنوب محافظة إدلب، والتي أدت إلى إعادة النظام السوري لسيطرته على مدينة خان شيخون ومحيطها الجغرافي، على الرغم من كل التحذيرات والاعتراضات التركية، التي هددت بالانسحاب من كافة التوافقات التي نسجتها مع كل من روسيا وإيران، حليفي النظام السوري.
سعت قمة أنقرة لأن تعيد ضبط العلاقة بين هذه القوى بشأن منطقة إدلب، وإن بتوازنات أكثر اختلالاً، وعلى حساب تركيا. فالمجتمعون تجاوزوا النقاش بشأن المناطق التي أعاد النظام السوري الهيمنة عليها في المرحلة السابقة، والتي كانت بالتعارض مع مضامين اتفاقية سوتشي.
على العكس تماماً، فإن القمة شددت على توافق الأطراف الثلاثة على مواجهة المنظمات الإرهابية في تلك المنطقة، وتحديداً هيئة تحرير الشام وجبهة النصرة، القوتان المتداخلتان، والأكثر شكيمة وقرباً من تركيا في تلك المنطقة. وهو أمر يعني أن المجتمعين أضافوا المزيد من الالتزامات على كاهل تركياً.
صحيح أن المجتمعين أشاروا إلى قلقهم بشأن الأوضاع الإنسانية في تلك المناطق، لكنها كانت بمثابة "ذر الرماد في العيون"، إذ لم يشر المجتمعون إلى أية تدابير سياسية أو بيروقراطية حامية للسكان في تلك المنطقة.
شرق الفرات الخصم المشترك
أما مسألة شرق الفرات، التي تخضع لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (الكردية)، وتتمتع بغطاء سياسي أميركي استراتيجي شكلت نقطة الالتقاء المركزية بين المجتمعين في هذه القمة.
إذ كانت عبارات البيان الختامي ذات دلالة على مدى التوافق بين المجتمعين "لا يمكن تحقيق الأمن والاستقرار شمال شرقي سوريا إلا على أساس احترام السيادة والسلامة الإقليمية للبلد". وأورد البيان أن المجتمعين في القمة أكدوا تنسيق الجهود في ما بينهم في هذا الصدد. لكنهم كانوا أكثر وضوحاً في التعبير عن تكاتفهم السياسي المشترك في مواجهة "التحالف" الأميركي الكردي في تلك المنطقة، إذ شددوا في بيانهم على "رفض أي مبادرة لخلق حقائق جديدة في الميدان تحت ستار مكافحة الإرهاب، بما في ذلك مبادرات الحكم الذاتي غير المشروعة في سوريا... ولقد تم تأكيد ضرورة التصدي للأجندات الانفصالية التي تهدف لإضعاف سيادة سوريا وسلامة أراضيها، وتهدد الأمن القومي لدول الجوار".
أتت قمة أنقرة بعد ثلاثة تفاصيل استراتيجية متعلقة بشرق الفرات. فقد تجاوزت تلك المنطقة مرحلة الضغوط التركية المطلقة، التي تم استيعابها عبر الاتفاق الأميركي- التركي الذي عقد في الثامن من يوليو (تموز) الفائت، الخاص بخلق غرفة عمليات مشتركة بين الطرفين، ومراقبة الأحوال العسكرية في شمال تلك المنطقة. بذا صارت تلك المنطقة حقيقة سياسية كردية في وجه تركيا.
وفي سياق متصل، فإن الولايات المتحدة رسمت خطوط استراتيجيتها العريضة في تلك المنطقة، المتمثل في الوجود الدائم في مواجهة النفوذ الروسي الكلي في سوريا، ومنع إيران وميليشياتها من الهيمنة على سوريا.
شدت تلك التفاصيل من أواصر العلاقة والمصلحة المشتركة بين تلك الدول الثلاث لمواجهة النفوذ التركي في شمال شرقي سوريا. إذ تسعى تركيا للاستنجاد بالنفوذين الروسي والإيراني لمواجهة المشروع الأميركي من داخل سوريا نفسها، كما سعت روسيا لأن تزيد من الضغوط والتناقضات الأميركية- التركية، كي تشكل ضغطاً إقليمياً على المشروع الكردي- الأميركي.
لا حلول سياسية
أعاد المجتمعون ترديد الخطاب الرسمي نفسه الذي اعتادت على أن تأطر به غض نظرها عن الحل السياسي للمسألة السورية، إذ ورد في البيان الختامي "لن يكون هناك حل عسكري للنزاع السوري، وأن هذا الأمر لن يحل إلا بقيادة السوريين أنفسهم... ثمة اعتقاد بين قادة القمة بأن هذا النزاع من الممكن أن ينتهي من خلال عملية سياسية تتماشى مع قرار مجلس الأمن رقم 2254، وتحت رعاية الأمم المتحدة".
وأشاد المجتمعون بتوافق مختلف القوى السورية وجهاتها الراغبة في تشكيل اللجنة الدستورية السورية، والتي طالت عملية تشكيلها لسنوات، لكنهم مع ذلك أظهروا ملامح تعقيد جديد قد يظهر أمام التنفيذ العملي لعمل هذه اللجنة، والمتعلق بالنظام الداخلي لها، كما أشار المجتمعون. وهو توافق قد تضع هذه الدول صعوبات في سبيل إنجازه، قد يطول لسنوات أخرى تالية.
لكن الأخطر على العملية السياسية السورية، والذي ظهرت ملامح التوافق بين الأطراف الثلاثة بشأنها في القمة الأخيرة، قبول الدول الثلاث بأن تغدو توافقات آستانة وسوتشي والقمم الثلاثية المشتركة بين الدول الثلاث هذه، بمثابة البديل والمنصة السياسية التي ستحل عليها المسألة السورية، وتهميش مباحثات جنيف والقرارات والوساطة الأممية في المسألة السورية، والتي كانت قد قامت على أسس رئيسية عدة طوال السنوات السابقة.
الغريب أن الرئيس التركي كان الأكثر حماسة لخلق هذه الديناميكية البديلة، وقال رجب طيب أردوغان في خطابه الرسمي عقب انتهاء المباحثات الرسمية بين المجتمعين "تطوّر صيغة آستانة لحل الصراع السوري أساليب فعالة للغاية، نحن المنبر الوحيد لأداء هذه المهام"، مضيفاً أن حل المسائل السورية يعتمد على الجهود المشتركة بين الدول الثلاث.