ملخص
اقتبس المخرج بوسلهام الضعيف نصاً مسرحياً للكاتب المغربي محمد برادة عنوانه "كلام الليل يمحوه النهار" وحوله عرضاً مسرحياً بعنوان "كلام". حافظ المخرج على جو النص الأصلي وطرح درامياً، أسئلة الحياة والموت، لكنه وضع شخصيات المسرحية وسط المقابر.
في مسرحيته الجديدة "كلام" يراهن بوسلهام الضعيف، مع أعضاء فريقه في "مسرح الشامات"، على التقشف في السينوغرافيا والعناصر والألوان والتقنيات المستحدثة، تاركاً للغة والحركة مهمة إيصال الحمولة الدلالية والفنية للعمل المسرحي إلى المتلقي. فالضعيف من المخرجين الذين يؤمنون بأن النص الأدبي هو دعامة كبرى للمسرح، من ثم لا يمكن تشييد أداء مؤثر وقوي من دون الارتكاز على نص مسرحي متماسك وقوي على مستوى اللغة والدلالة والبناء.
لهذا السبب عاد إلى نص الروائي المعروف محمد برادة "كلام الليل يمحوه النهار" من أجل إخراج مسرحيته الجديدة التي اختصر عنوانها في مفردة واحدة "كلام" في سياق سياسته التقشفية.
وإذا كان نص محمد برادة يحقق الشرط اللغوي، باعتبار صاحبه خبيراً في الكتابة الأدبية، فإن الشرط الحركي بدا واضحاً في الأداء المتميز للممثلين الذين اختارهم بوسلهام الضعيف بعناية كبيرة. فتقديم نص مسرحي بالعربية الفصحى داخل المغرب يعد تحدياً، لا بسبب صعوبات لغوية معينة، بل بسبب اعتقاد مسبق لدى المتفرج بأن العرض الذي يعتمد الفصحى سيكون في الغالب مناسبة للاستعراضات اللغوية والتصنع في الأداء، والجنوح إلى خطابات قديمة والعودة بالمتلقي إلى عصر لا يشبهه. وكل هذه التمثلات المترسخة لدى كثير من المتفرجين قطع معها العمل المسرحي "كلام"، إذ قدم مسرح الشامات نصاً عربياً بلغة حديثة وقريبة من المتلقي وآهلة بالجماليات، مع أداء فني يتماشى والقيمة الأدبية للنص، من دون ادعاء ومن دون مبالغات. فتفاعلات الممثلين وحركاتهم على الخشبة تبدو متناغمة وأقرب إلى الهدوء، بعيداً من أي انفعال مجاني أو مغالاة في التعبير المشهدي عما يعتمل في الذات.
وليست هذه هي المرة الأولى التي يشتغل فيها المخرج بوسلهام الضعيف على نصوص محمد برادة، فقد سبق له عام 2016 أن فتح رواية برادة "بعيداً من الضوضاء قريباً من السكات" وأخرج منها عمله المسرحي "كل شيء عن أبي" الذي حصل حينها على الجائزة الكبرى للمسرح الوطني بتطوان، وخلف صدى طيباً بين الجمهور والنقاد، وقال برادة عن تلك التجربة: "لقد استطاعت المسرحية أن تقتنص جوهر الرواية". ربما هذا ما جعل الروائي المغربي يعود هذه المرة ليكتب نصاً موجهاً للمسرح، يتقاطع مع الأسئلة التي تشغل مجتمع اليوم، وهو مجتمع جزء منه يبذل كل جهد للبقاء حبيس الماضي، وجزء آخر يبذل الجهد ذاته للانعتاق نحو المستقبل. داخل هذا التجاذب الفكري والاجتماعي يتحرك الخطاب الأدبي والمسرحي على السواء لدى الكاتب محمد برادة ولدى المخرج بوسلهام الضعيف.
صراع التراث والحياة
أشرف على السينوغرافيا في مسرحية "كلام" رشيد الخطابي والملابس أسامة بوفارنو والموسيقى أنور الدقاقي. وبدا التناغم واضحاً بين متن النص المسرحي وأشكال تشخيصه على الخشبة على مستوى الصوت والصورة.
في الجزء الأول من المسرحية يدور الحوار في مقبرة "باب الفتوح" بفاس، باعتبارها ملاذاً روحياً لأحد شخوص المسرحية ومهرباً من واقع الأحياء. يصير الفضاء الجنائزي مبعثاً أيضاً لاستعادة بهجة قديمة، إذ يعرض الممثل ذكريات الطفولة، حين كانت طقوس نقل الجثة ودفنها مناسبة للتسلي والحصول على حصة من التمر والتين. لكنه اختار في مرحلة الكهولة الإقامة في المقبرة، حارساً لها، بدل التردد عليها من حين لآخر، مبرراً ذلك برغبته في مراقبة عالم الأحياء من مناطق الموتى، والوقوف على حقيقة الكائن وهشاشته التي تغطيها غطرسة عابرة وأقنعة مادية مزيفة.
في مسرحية "كلام" يحضر المتن الديني أحياناً، في تناغم مع الحياة الروحية للفضاء، لترسيخ القناعة بزوال الدنيا وخفة المادة وضرورة الانتباه إلى الجانب الإيماني للإنسان. يشكل القرآن والابتهالات و"التقصاد/ الحكي الزجلي" والاقتباسات الأدبية فواصل موجزة بين المشاهد. يحض حارس المقبرة مخاطبته على الآخرة، وحين تنتفض وتذكره بأنها هربت من خطاب الوعظ والإرشاد، يرد عليها: "إن مجاورتي للموتى هي لاكتشاف أسرار الحياة"، طالباً منها أن تمكث الليل في المقبرة لمسامرة الموتى، إذ يغادرون قبورهم بعد منتصف الليل ويتحلقون في دائرة تتوسطها نساء جميلات. في تلك الدائرة يتحدث الموتى عن الحياة بفهم آخر مختلف وعميق.
تبدو بعض الجمل مفاتيح لمسرحية "كلام"، تتوجه الممثلة الرئيسة إلى مخاطبها بهذه العبارة: "أبحث عما أكسر به هذه الوحدة الخانقة"، ثم تردف: "قد لا تتصور مدى وحدة امرأة في مجتمع يراد أن تعيش فيه النساء كالدمى الملونة داخل ديكور متنافر الألوان". تعيش البطلة حالة من التوتر بسبب رغبتها في التحرر والانعتاق والخروج من سيطرة سلطة اجتماعية تعمل باستمرار على تحجيم حضورها. أحياناً يصير الخطاب مباشراً، إذ تقول مثلاً: "هل تحس بالشقاء الذي تعانيه البنات والنساء اليوم وهن يؤدين أدوارهن في تمثيلية تمجد الرجل الوصي، وتقدس ذكورته التي لا تقهر؟".
يطرح العمل المسرحي أيضاً إشكالية الهوية، ويناقش المفهوم من زوايا غير ضيقة، باعتبار الهوية عنصراً متحركاً ومتنامياً لا ثابتاً وجامداً. كما يطرح مسألة الصراع بين التراث والحداثة. فحارس المقبرة هو رمز لكل الأجهزة المادية والمعنوية التي حملت على عاتقها مهمة حماية الإرث الديني والثقافي، بينما تصير الفتاة التي تنشد التحرر رمزاً للأشكال الرافضة للبقاء في جبة الماضي، باعتباره الحقيقة الوحيدة، أو السبيل الوحيد المفضي إلى الحقيقة.
في جزء لاحق من المسرحية ينطلق الحوار من مقبرة بوعراقية بمدينة طنجة. فحارس مقبرة باب الفتوح بفاس في آخر حواره مع البطلة استحسن فكرتها ورغبتها في التوجه إلى الشمال، استمراراً في رحلتها نحو الانعتاق. يدور الحوار حول تجربة الحب، والقبلة الأولى، ومحمد شكري دفين المقبرة الذي بدأ يدخل دائرة النسيان بعد عقدين على رحيله. تقول البطلة للحارس الجديد بعد أن عبر عن امتعاضه بتنكر الناس لصاحب "الخبز الحافي": "ليس مهماً أن ينسوه، لأن النسيان يجدد الذاكرة. لكن الأهم أن يقرأوا ما كتب"، ثم تسأله إن كان شكري ينهض من قبره مرة في السنة ليتحدث مع جيرانه الموتى عن الآلام الدفينة. فيخبرها أن ذلك يقع مرة واحدة في مطلع الربيع، إذ يجتمع الموتى تحت شجرة سرو ويصدرون تأوهاتهم لأن آلاماً قديمة توقظهم من مراقدهم. يحضر طيف شكري بمعطفه وقبعته الشهيرة، وتحضر كلماته في بناء النص كاشفة أبعاداً نفسية، ومفضية إلى الوقوف عند مفارقات الحياة والموت، مثلما يحضر ياسوناري كاوباتا الذي كان مشغولاً بالحالات النفسية القصوى للكائن، وحين عجز عن تفسير جدار الصمت المعبر آل به الأمر إلى الانتحار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في مشهد من المسرحية بمقبرة يابانية يقف العرض عند عيد الموتى "الأوبون" في الثقافة اليابانية، إذ يصير منتصف غشت عيداً يحتفي فيه الأحياء بالموتى، إذ يحملون إليهم، وفق وصية بوذا، الزهور والأطعمة. في نهاية المسرحية تظهر صور من "شعب الموتى اللايحصى" في إشارة إلى أن الذين أعطوا لحياتنا معنى قد غادروها باتجاه الموت. وهكذا تظهر صور لمفكرين وكتاب وفنانين من تواريخ وجغرافيات متنوعة: محمد عابد الجابري ومحمد أركون وكارل ماركس وفريدا كاهلو ونوال السعداوي وشكسبير ومحمد شكري ومحمود درويش وجان جينيه وسلفادور دالي وفاطمة المرنيسي والطيب الصديقي وشارلي شابلن وثريا جبران وبدر شاكر السياب ومحمد زفزاف، وغيرهم ممن حملوا على عاتقهم مهمة تنوير المجتمع والدفاع عن القيم الجميلة.
لم يتوقف طواف البطلة عند المقابر المغربية، بل امتد إلى أخرى في فرنسا وإسبانيا واليابان، بغية فهم أسرار الحياة من موتى مجتمعات مختلفة. ولم تتوقف تيمات المسرحية عند الحياة والموت والحرية، بل امتدت هي الأخرى إلى تشعبات متشابكة، كالاستعمار والسلطة والصراع الأيديولوجي والزواج والرغبة والضغوط الاجتماعية، واستطاعت المسرحية أن تطرح كثيراً من الأسئلة في فترة زمنية مكثفة، وهي أسئلة تدفع بالمتفرج إلى مناطق التوتر والشك والخلخلة.