ملخص
قرابة نصف قرن ولا يزال سر محاولة اغتيال يوحنا بولس الثاني سراً ملفوفاً في أحجيه ضمن بئر فاتيكانية عميقة، وقد تفك شيفراته أو لا، غير أن ما يقال اليوم همساً في المخادع سينادى به غداً من على السطوح
43 عاماً مضت، منذ أن دوت ست رصاصات في ساحة القديس بطرس بمدينة الفاتيكان، حين كان الحبر الأعظم، البابا يوحنا بولس الثاني يستقل المركبة البابوية "كامبغنولا" بمقعدها الجلدي الأبيض الشهير.
وصل البابا إلى الحشد وحمل طفلة محتضناً إياها ومن ثم أعادها إلى أمها المبتهجة، لم يكن البابا يوافق أبداً على أن يوضع في قفص مضاد للرصاص كلما ظهر علانية، وأنه كان قد رفض نصيحة مدير الاستخبارات المركزية الأميركية وقتها ويليام كيسي بارتداء سترة واقية من الرصاص، كان يرى أن ذلك ضد كل ما تمثله البابوية، لم يكن يخطر ببال أحد أن رصاصات ستنطلق من على مقربة منه لتمزق أحشاءه.
غير أن المثير في الأمر برمته أن أحداً من أجهزة استخبارات أوروبا، إضافة إلى أميركا، لم يكن لديه الجواب القاطع عمن كان وراء محاولة الاغتيال، كان الأمر يزعج البابا ويقلق واشنطن، شخص واحد فقط كان يشغل في ذلك الوقت منصب مدير جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (الموساد)، كان يشغله الأمر كما يشغل البابا، فقد رأى أن الأمر فرصة ذهبية لتحقيق حلم طال انتظاره، هكذا تجلى في سماوات جريمة القرن مثلث يمتد من روما مروراً بتل أبيب وصولاً إلى المفاجأة الكبرى، طهران.
ماذا جرى في ذلك النهار، وما هي أبعاد تلك القصة التي لا يزال الغموض يغلفها، على رغم أربعة عقود ونيف، حيث لا يزال الجواب عن السؤال: "من حاول اغتيال البابا يوحنا بولس الثاني"؟ غائباً، وربما لن يعرف أحد يوماً ما الجواب، وغالب الظن أنه ذهب مع البابا البولندي الأصل إلى غياهب النسيان، ودفت معه في مدافن البابوات تحت هيكل كنيسة القديس بطرس الشهيرة في مدينة الفاتيكان.
في هذه السطور نحاول مشاغبة القصة المثيرة والخطرة، حيث عالم السياسة يتقاطع مع حضور أكبر مؤسسة دينية في التاريخ الإنساني، وبينهما تبدو أجهزة الاستخبارات تنسج خيوطاً دقيقة وسرية، وبين هذه جميعاً ربما تغيب الحقيقة أو يراد لها أن تغيب.
رصاصات في ساحة الفاتيكان
يكتب كارل برنشتاين الصحافي الأميركي الشريك لبوب وود وورد في كشف فضيحة "ووترغيت" في كتابه "صاحب القداسة" الذي يروي قصة حياة يوحنا بولس الثاني يقول "في الـ 13 من مايو (أيار) 1981 كان البابا يمر بسيارته بين الجماهير المهللة له، فجأة دوى صوت الرصاصات التي أصابته في المعدة، وفي الكوع الأيمن، وفي إصبع السبابة ليده اليسرى، استولى الذهول للحظات على الجميع، فلم يكن أحد ممن حوله أو من الإدارة البابوية يتخيل حدوث مثل هذا الشيء، إن شخصاً يحاول اغتيال البابا".
في مستشفى جيمللي بوسط روما أخضع البابا لجراحة فورية استغرقت نحو خمس ساعات ونصف الساعة، أزيل خلالها 22 بوصة من الأمعاء إضافة إلى فقدانه 60 في المئة من دمه نتيجة النزيف الداخلي.
بعد القبض على علي أقجا الشاب التركي الذي وجه رصاصاته إلى صدر البابا الروماني، أقر أنه كان يعمل بمفرده من دون تحريض من أي جهة.
لم تصدق أجهزة الأمن الخاصة بحاضرة الفاتيكان، أو الاستخبارات الإيطالية، قصة أقجا، إذ ليس من اليسير أن يرتب ويدبر مثل هذه الفعلة الشنعاء بمفرده، ذلك أن الأمر يحتاج إلى دعم لوجيستي لمؤسسات وأجهزة استخباراتية، وليس شخص بمفرده مهما عظمت مقدراته العقلية وتأصله في علم الجريمة.
في ذلك الوقت أثيرت اتهامات كثيرة، منها أن وراء المحاولة يقف الاتحاد السوفياتي وبلغاريا، وقد تكون تركيا، لكن على رغم التحقيقات المكثفة بمعرفة السلطات الإيطالية والاستخبارات الأميركية، لم يثبت بشكل قاطع صدق أي من هذه الاتهامات، خصوصاً أن كثيراً من الحقائق حول محاولة الاعتداء على حياة البابا كانت متضاربة أو مجالاً للتفسيرات المتعددة.
ولعل فشل وكالات الاستخبارات في العالم في التعاون سوياً، والعمل فوراً وتجميع المعلومات، ساعد على عدم الوصول إلى نتائج محددة حتى وقت معين، فقد كان العالم يعيش في أوج زمن الحرب الباردة، بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، ما فتح مسارب عدة في قضية الاغتيال الغامضة، وأتاح الفرصة لظهور كتابات متباينة، بعضها يقبل التصديق والآخر يظل عرضة للتشكيك، ماذا عن ذلك؟
توماس جوردن و"جواسيس جدعون"
في ذلك اليوم – الـ 13 من مايو – كما يروي المؤلف البريطاني توماس جوردن في كتابه "جواسيس جدعون" الذي يثير عاصفة جديدة حول أسرار محاولة اغتيال يوحنا بولس الثاني، كان مدير عام جهاز "الموساد" إسحاق هوفي جالساً في مكتبه متسائلاً عن السر وراء تلك الحادثة الغريبة، والتي لم تكن ضمن قائمة اهتمامات "الموساد" آنذاك.
يقول جوردن: أثرت حقيقة أن كل جهاز استخبارات غربي كان يحقق في محاولة اغتيال البابا على قرار هوفي، إبقاء الموساد بعيداً، كان لا يزال ينتظر المعلومات عندما تم استبداله بنعوم أدموني في سبتمبر (أيلول) عام 1982.
كان أدموني من خلفية بولندية، بلد البابا، كما كان لديه أكثر من مجرد فضول عابر حول الكنيسة الكاثوليكية، فخلال عمله متخفياً في الخارج في أميركا وفرنسا، شاهد مدى قوة ونفوذ الكنيسة الكاثوليكية، وقد ساعدت روما، بحسب تقديراته، على وصول السيناتور جون ف. كيندي الكاثوليكي إلى البيت الأبيض، وفي فرنسا استمرت الكنيسة في لعب دور مهم في السياسة.
حالما استقر به المقام في منصبه الجديد، طلب أدموني ملف "الموساد" عن محاولة اغتيال البابا، وقد كان فيه مقتطفات من المعلومات، وتقرير من "كاستا" أي عميل ميداني إسرائيلي يعمل في روما حول ملابسات الحادثة.
لم يكن شغل أدموني الشاغل التوصل إلى القاتل الحقيقي لتقديمه للعدالة، بل كان يحدوه الأمل في فتح نافذة من العلاقات على الكرسي الرسولي، وهو ما سيتحقق لاحقاً.
كان ويليام كيسي مدير الاستخبارات الأميركية المركزية، هو من خلص إلى أن اهتمام "الموساد" بملف اغتيال البابا مرجعه "شعور الموساد بأن تلك قد تكون الطريق إلى الفاتيكان"، وربما كان أدموني يفكر بشيء يقايض به الحبر الأعظم.
كان "الموساد" مقتنعاً بأن الاستخبارات الأميركية قد أقنعت البابا الروماني بأن الاستخبارات الروسية KGB كانت وراء محاولة اغتياله، لكن ذلك كان جزءاً من نظرية الاحتمالات عند "الموساد"، والذي طرح احتمالات أخرى في مقدمتها إمكانية وجود أجهزة أخرى خلف الحادثة.
غير أن التساؤل الذي لم يكن أدموني يمتلك له جواباً هو: "هل سيسمح هذا الكشف للموساد إذا تبين وجود يد أخرى خلف محاولة الاغتيال، بإيجاد طريق آخر لتجاوز باب الفاتيكان البرونزي، هذا إذا لم يصبح مستشاراً دنيوياً سرياً للبابوية، أو في الأقل السماح بتبادل المعلومات معه، وفي المقابل أن يكون قادراً على تغيير موقف الحبر الأعظم من إسرائيل؟".
إيران... الخميني والحرب المقدسة
بعد ستة أشهر وبحسب رواية توماس جوردن ظهرت إجابة، غالب الظن كانت شكوكاً من الجانب الإسرائيلي، وربما وجدت نوعاً من الاستحسان من قبل الولايات المتحدة الأميركية.
تقول الرواية، لقد تم وضع خطة اغتيال البابا في طهران مع موافقة كاملة من آية الله الخميني، وكان المقصود من قتل البابا أن يكون الخطوة الافتتاحية في تسميه إيران "الجهاد" أو "الحرب المقدسة" ضد الغرب، والذي كان الخميني يصفه بصاحب القيم المنحطة، التي تدعمها أكبر الكنائس المسيحية، أي الفاتيكان.
خيوط القصة التي تبقى ضمن دائرة الاحتمالات وليس اليقينيات، تقول إنه ومع الأخذ بالحسبان احتمال فشل أقجا، تأكد مشرفوه الإيرانيون، أي القائمين على تشغيله، بأن يبدو رجلاً متعصباً يعمل وحيداً، وسربوا تفاصيل عن خلفيته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولد محمد علي أقجا في قرية "يستلتيب" النائية شرق تركيا، وهناك ترعرع في بيئة أصولية إسلامية، ولدى بلوغه الـ 19 من عمره، انضم إلى الذئاب الرمادية وهي مجموعة إرهابية موالية لإيران، ومسؤولة عن معظم العنف في تركيا.
في فبراير (شباط) من عام 1979 اغتال أقجا رئيس تحرير صحيفة "إسطنبول" المعروفة بدعمها للسياسات الغربية، وبعد اعتقاله تمكن من الفرار من سجنه بمساعدة الذئاب الرمادية.
في اليوم التالي لاغتيال رئيس التحرير، تلقت الصحيفة رسالة مرعبة حول زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى تركيا والتي كانت مقررة بعد ثلاثة أيام جاء فيها "ترسل الإمبريالية الغربية الخائفة من تحول تركيا وشقيقاتها الدول الإسلامية إلى قوة سياسية وعسكرية واقتصادية في الشرق الأوسط إلى تركيا في هذه اللحظة الحساسة، قائد الصليبيين يوحنا بولس الثاني، الذي تقدمه كقائد ديني، وإذا لم يتم إلغاء هذه الزيارة سأقتل عامداً البابا القائد".
عند هذا القدر من المعلومات كان نعوم أدموني مدير "الموساد" مقتنعاً بأن الرسالة كتبت في طهران بأسلوب ومحتوى كانا بالتأكيد فوق مستوى مهارات كتابة أقجا الأمي تقريباً، وقد أظهر البحث الذي قامت به حواسيب "الموساد" في خطب الخميني، أنه أشار إلى قائد الصليبيين والبابا القائد في وصفه ليوحنا بولس أكثر من مرة.
الإعداد لتنفيذ اغتيال البابا
من خلال عملائه السريين في إيران اكتشف "الموساد" أن أقجا بعد هربه من سجنه ذهب إلى إيران، حيث أمضى هناك أشهراً في معسكرات تدريب مختلفة.
عبر مصادر خاصة تم التوصل إلى معلومة قاطعة وهي أن محمد على أقجا تلقى وعداً بأنه عندما يحين الوقت ستتاح له فرصة قتل البابا، وقد غرس المشرفون عليه في ذهنه أن انتخاب البابا في الوقت نفسه تقريباً الذي حرر فيه الخميني المحبوب إيران من نظام الشاه لم يكن مصادفة.
في يناير (كانون الثاني) من عام 1981 وبحسب مصادر أميركية، سافر أقجا إلى ليبيا وكان "الموساد" مندهشاً في البداية من هذا الجزء من رحلته حتى اكتشف مخبر في طرابلس أن أحد ضباط الـ CIA الخائنين ويدعى فرانك تيربل كان موجوداً في البلد في الوقت نفسه.
كان "الموساد" يعلم أن المشرفين على تدريب أقجا في طهران رتبوا له لقاء مع تيربل، كما سربوا تلك المعلومة بعد محاولة اغتيال يوحنا بولس، مما سمح للروس بأن يدعوا بأن CIA نظم المكيدة، ومثل "الموساد" كان للاستخبارات الروسية KGB قسم فعال للحرب النفسية.
ملأت قصة تورط الـ CIAآلاف الأعمدة الصحافية والكثير من ساعات البث التلفزيوني والإذاعي ولزيادة التشويش قام رجال الدين في طهران بوضع خطة لأقجا بعد مغادرته ليبيا في فبراير (شباط) عام 1981 سافر بموجبها إلى صوفيا في بلغاريا والتقى رجالاً أخبروه أنهم أعضاء في جهاز استخبارات البلد السري.
على ضوء ذلك ردت الـ CIA بعد أن أغضبتها محاولات الـ KGB تلطيخ سمعة الوكالة أن البلغار استخدموا أقجا نيابة عن الكرملين.
كان الوضع بالنسبة إلى "الموساد" رائعاً لاستغلال القول المأثور فرق تسد، لن يكون "الموساد" قادراً على إضعاف موقف الـ CIA مع الفاتيكان وحسب، ولكن على المدى الطويل وبتقديم نسختهم عن المكيدة على أنها الصحيحة، سيجد طريقة لجعل البابا يستمع إليه، وستنتج من ذلك أشياء كثيرة قد يستطيع ضباطه الوصول إلى شبكة جمع المعلومات الهائلة الخاصة بوزارة خارجية الفاتيكان، وقد يستطيع العملاء الميدانيون لـ"الموساد" التعامل معها، واستغلال الكهنة والرهبان إذا اقتضت الضرورة، ويمكن زرع أدوات التجسس الإلكترونية عندما تحين الفرصة في كل تلك الأماكن المقدسة التي لاحظها رجل "الموساد" زافي زامر، والذي صاحب رئيس وزراء إسرائيل غولدا مائير في زيارتها للفاتيكان في عهد البابا بولس السادس.
البابا وأقجا وجهاً لوجه في السجن
هنا قد يتساءل القارئ عن مدى صحة رواية جوردن، المأخوذة عن مصادر الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية، لكن يبقى السؤال الأهم: "إلى أي مدى أقتنع البابا وأجهزة أمن الفاتيكان برواية الموساد؟".
الثابت أنه عن طريق رئيس الأساقفة لويجي بوغي رجل المهام السرية في الداخل الفاتيكاني، وغالب الظن أنه كان المسؤول عن أعمال ما يعرف بـ "الحلف المقدس" أو جهاز استخبارات الفاتيكان، والذي يعود إلى القرن الـ 15 الميلادي، في زمن البابا بيوس الخامس، استطاع "الموساد" تزويد البابا يوحنا بولس بالقصة الكاملة لمحاولة اغتياله، وذلك عبر وسيط كاثوليكي نمسوي، أطلع بوغي على الأمر برمته وبتفاصيله الدقيقة، والتي ربما ستبقى في طي ملفات "الموساد" إلى أن تحين الحاجة إلى استخدامها مجدداً.
غير أنه من الواضح جداً، أن البابا البولندي الأصل، والذي اعتبر شوكة في خاصرة وحلق الاتحاد السوفياتي، كانت لديه شكوك بعينها تجاه هذه الرواية، أو في الأقل، كان يسعى بنفسه للتأكد من صدقها أو زيفها.
فجر الـ 23 من ديسمبر (كانون الأول) من عام 1983، أي بعد أكثر من عامين من محاولة الاغتيال، كان البابا يوحنا بولس يتوجه إلى سجن "ريبيبا" في روما حيث يوجد أقجا في حراسة مكثفة، كانت هناك مجموعة صغيرة من الصحافيين ترافق البابا منهم توماس جوردن نفسه.
في أعقاب اللقاء قالت الإذاعات العالمية إن البابا أهدى علي أقجا، شيئين الأول مسبحة مصنوعة من الفضة واللؤلؤ، والأمر الثاني هو غفرانه ومسامحته.
هل ذهب البابا للقاء أقجا للتأكد من رواية "الموساد"؟
ما رشح عن الإعلاميين الذين تابعوا اللقاء، هو أن البابا بادر علي أقجا بسؤال: كيف حالك؟
كان سؤال البابا عن شعور أقجا أبوياً تقريباً، أجاب أقجا بإيطالية تعلمها في السجن "جيد، جيد" وفجأة كان أقجا يتكلم بسرعة وطلاقة، وكانت الكلمات تأتي بصوت خافت لا يستطيع سوى البابا سماعه.
أصبحت تعابير البابا يوحنا بولس أكثر تأملاً، وكان وجهه قريباً من وجه أقجا، ويحجبه جزئياً عن الحراس والصحافيين.
همس أقجا في أذن البابا اليسرى، وهز البابا رأسه بشكل لاإرادي تقريباً. توقف أقجا وظهرت على وجهه علامات الشك. أشار يوحنا بولس بحركة سريعة من يده اليمنى لعلي أقجا ليستمر في ما يقوله.
كان الرجلان قريبين جداً من بعضهما بحيث تلامس رأسيهما تقريباً وبالكاد تحركت شفتا أقجا، كانت هناك نظرة ألم على وجه يوحنا بولس، وأغلق عينيه كما لو أن ذلك سيساعده على التركيز بشكل أفضل.
توقف أقجا فجأة في منتصف الجملة ولم يفتح يوحنا بولس عينيه، وتحركت شفتاه فقط لم يكن بمقدور أحد سوى أقجا أن يسمع كلماته.
تابع أقجا الحديث مرة أخرى، وبعد دقائق قليلة قام البابا بتحريك يده قليلاً. توقف أقجا عن الكلام ووضع يوحنا بولس يده اليسرى على جبينه، كما لو أنه يريد حجب عينيه عن أقجا.
ضغط يوحنا بولس على ذراع الشاب، كما لو أنه يشكره على ما قاله، استمر تبادل الحديث 21 دقيقة، ثم وقف البابا ببطء على قدميه ومد يده مشجعاً أقجا على القيام بالمثل، حدق الرجلان في أعين بعضهما البعض، وبعد تقديم البابا لهديته التي استلمها أقجا في ذهول، أنحنى البابا للأمام وهمس مجدداً بكلمات سمعها أقجا فقط.
ما الذي دار في الحوار بين البابا وأقجا؟ وهل يدري الفاتيكان حقيقة السر؟
الإجابة الرسمية التي صدرت عن حاضرة الفاتيكان في أعقاب اللقاء المثير هي أن علي أقجا لا يعرف سوى إلى مستوى معين، وهو لا يعرف شيئاً على المستوى الأعلى، وإذا كانت هناك مؤامرة، فقد خطط لها محترفون والمحترفون لا يتركون آثاراً ولن يجد أحد شيئاً.
غير أن بعض التساؤلات تثار في هذا الإطار حول إمكانية تسجيل ما دار في حوار البابا وأقجا على وجه السرية، إذ إنه من المؤكد أن موعد اللقاء كان معداً مسبقاً، مما يعطي فرصة لأجهزة الاستخبارات الإيطالية أو الأميركية لرصد وتسجيل هذا اللقاء السري للغاية، لا سيما وأنه في عام 1983 كانت الحرب الباردة على أشدها، وكان الغرب في حاجة لدليل قاطع لإدانة المعسكر الشيوعي.
تمضي التساؤلات الغامضة ومنها: "هل منع البابا يوحنا بولس الثاني بأوامر رسمية منه تسجيل ما دار في اللقاء، وهل التزمت أجهزة الاستخبارات بأوامره إذا كان قد أعطاها بالفعل، أم قامت في خلسة من البابا وعلى غير إرادته بتصوير اللقاء، وبقي الأمر سراً حتى الساعة؟ هل ضرب البابا صفحاً عن ذكر تفاصيل اللقاء في أوراقه الخاصة، أو في أي وثائق سرية فاتيكانية؟
تساؤلات كثيرة ربما سيعلن عنها يوماً ما وربما تكون قد مضت إلى غياهب النسيان مع البابا الراحل الذي قصد عدم إذكاء حروب دينية، إذا كشف عما جرى حال ثبوت رواية" الموساد" وتورط إيران بالفعل في محاولة الاغتيال.
هل نجح تقارب إسرائيل والفاتيكان؟
غير أنه في الأفق يمكن إلى حد بعيد ربط الأحداث التي جرت لاحقاً بعضها ببعض والخروج منها باستنتاجات مثيرة يرى البعض أنها عززت من حضور "الموساد" وإسرائيل بالشكل الأوسع وتؤكد فاعلية الدور الذي قام به نعوم أدموني في كشف سر محاولة اغتيال البابا والذي تقف وراءه طهران.
ففي 13 أبريل (نيسان) من عام 1986 وصل البابا يوحنا بولس الثاني إلى الحي اليهودي القديم في روما للتخفيف من الذكريات المؤلمة، كان أول حبر أعظم يدخل إلى معبد يهودي كما سيصبح لاحقاً أول بابا روماني كاثوليكي يدلف إلى مسجد إسلامي.
تبادل قبلة مع الحاخام الأكبر وسارا معاً حتى أخذا مكانهما على المنصة حيث يقف المرتل لقراءة التوراة، استمع البابا إلى كلمة رئيس الطائفة اليهودية في روما، الذي وجه فيها اللوم إلى البابا بيوس الثاني عشر لصمته على الفظائع التي ارتكبها النازي ضد اليهود، على حد قوله.
ومع اتهامات الحاخام كان البابا في كلمته يعترف بالآلام التي عاناها اليهود على مر السنين في البلاد المسيحية قائلاً إن الكنيسة تأسف للكراهية وكافة المظاهر الموجهة ضد السامية وضد اليهود في أي وقت من أي شخص، غير أنه حرص على التذكير بأن أبواب الأديرة والكنائس كانت تفتح خلال الحرب العالمية الثانية لإيواء ضحايا الإعدام من اليهود.
في ذلك اليوم رأى العالم عامة وإسرائيل خاصة، بابا مختلفاً ليس كمعلم للجماهير، لكنه كرجل حمل وزراً وتاريخاً مفجعاً آل على نفسه أن يغيره.
كان واضحاً أن خطة نعوم أدموني قد نجحت لذا فقد انتهز الحاخام الأكبر الفرصة، وطلب من البابا إقامة علاقات دبلوماسية بين الفاتيكان ودولة إسرائيل.
في تلك الزيارة الفريدة من نوعها كان يجلس في مؤخرة الكنيس الوسيط الكاثوليكي النمسوي الذي لعب دور الجسر بين البابوية وبين إسرائيل، والذي قام بإيصال الرسالة التي تحوي أبعاد وتفاصيل وأسرار ما جرى في ساحة "سان بيترو" في ذلك النهار الحار من مايو عام 1983.
كانت إسرائيل قد حققت جزءاً من خطتها على حساب إيران لكن ما تريده لم يكن قد اكتمل، أي الاعتراف الدبلوماسي البابوي بإسرائيل والذي سينتظر حتى ديسمبر من عام 1993 عندما أقيمت علاقات دبلوماسية على رغم معارضة متشددي وزارة الخارجية البابوية الذين كانوا يفضلون الانتظار لحين قيام الدولة الفلسطينية لكن اتفاقيات أوسلو بين إسرائيل والفلسطينيين وربما خدمات نعوم أدموني، كانت قد عززت من فكرة سرعة عودة تلك العلاقات، وكان من الواضح كذلك أن مناورات أدموني وما استجد على العلاقات بين الطرفين في عهد خلفه شابتي شافيت قد أثمر ونجحت المناورات الإسرائيلية في إقناع حاضرة الفاتيكان بأن إسرائيل كما منظمة التحرير الفلسطينية تسعى إلى تسوية النزاع ومواجهة التهديد المشترك المتمثل في ما يطلق عليه الأصولية الإسلامية.
غير أنه وعلى رغم انقضاء نحو 14 عاماً على الاعتراف الرسمي وإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، إلا أن الراصد للأحداث يرى أنها ليست بالمطلق على ما يرام والدليل على ذلك عدد المرات التي حدثت فيها خلافات علنية واعتراضات إسرائيلية على مواقف الفاتيكان من القضية الفلسطينية.
قرابة نصف قرن ولا يزال سر محاولة اغتيال يوحنا بولس الثاني سراً ملفوفاً في أحجيه ضمن بئر فاتيكانية عميقة، وقد تفك شيفراته أو لا، غير أن ما يقال اليوم همساً في المخادع سينادى به غداً من على السطوح.