ملخص
في الذكرى الخمسين ل"ثورة القرنفل" التي حصلت في البرتغال في 25 ابريل (نيسان) العام 1974، يحتفل البرتغاليون والأوروبيون بهذا الحدث التاريخي الفريد الذي يسمى بالإنقلاب الأبيض الذي أنهى فترة من الحروب الإستعمارية والحكم الديكتاتوري الذي أرساه أنطونيو دي أوليفيرا سلازار طوال 48 عاماً. وفي المناسبة صدرت كتب عدة في البرتغال وأوروبا تستعيد هذه الثورة بأبعادها السياسية والفكرية.
يحتفل البرتغاليون ومعهم أوروبا، بالذكرى الـ50 لثورة القرنفل أو ثورة الـ25 من أبريل (نيسان) 1974 والانقلاب الأبيض الذي قاده ضباط شباب أنهوا حروباً استعمارية وحكماً ديكتاتورياً أرساه أنطونيو دي أوليفيرا سالازار (1889–1970) لفترة دامت 48 عاماً. وبلغت هذه الاحتفالات ذروتها مع انطلاق مسيرات شعبية، وصدرت كذلك مجموعة من الكتب بالبرتغالية والفرنسية الجديدة تستعيد هذه الأحداث متوقفة أمام حياة سالازار الذي أسس وقاد ما عرف بـ"نوفو استادو"، أي "الدولة الجديدة" التي سيطرت على البرتغال من 1932 حتى 1974 تاريخ انطلاق الثورة التي عرفت باسم "ثورة القرنفل"، لأن السكان وزعوا هذه الزهور على الجنود الذين وضعوها في فوهات بنادقهم.
من هذه الإصدارات الجديدة كتاب إيف ليونارد، أستاذ تاريخ البرتغال المعاصر في معهد العلوم السياسية في باريس، وهو بعنوان "سالازار، الديكتاتور الغامض" (بيران، 2024، 528 صفحة). الكتاب عبارة عن سيرة رصينة يمكن اعتبارها كأول مرجع علمي يتناول سيرة هذا الرجل باللغة الفرنسية. فيها يستعيد ليونارد حياة سالازار منذ عمله كأستاذ للاقتصاد في واحدة من أعرق وأقدم جامعة في مجموعة البلدان الناطقة بالبرتغالية، عنيت جامعة كويمبرا، والذي تم تعيينه وزيراً للمالية سنة 1928، ثم رئيساً للوزراء سنة 1932، ولكن من كان ليظن أن هذا الأكاديمي غير المعروف سينشأ سلطة ديكتاتورية أطبقت لعقود على البلاد بدعم من الكنيسة والجيش وكبار رجال الأعمال؟
يقدم إيف ليونارد هذه السيرة السلازارية انطلاقاً من مجموعة من المصادر والوثائق والأسانيد العلمية التي تحكي على حد سواء سيرة وطن وأجيال غيرت التجربة السياسية لهذا الحاكم الغامض والمستبد حياتهم. فيها يتبدى هذا الديكتاتور الذي بدأ حياته العملية أستاذاً جامعياً لا يحب الظهور واللقاءات العامة، سيداً في فن البقاء، سياسياً طموحاً وماكراً، قاسياً وطيعاً في الوقت عينه، لا سيما على الساحة الدولية أيام الحرب العالمية الثانية، ثم الحرب الباردة. وقد سعى ليونارد لرسم صورته أولاً كوزير للمالية، ثم كرئيس لمجلس الوزراء، موضحاً أن ذكر اسم هذا الحاكم الملقب بـ"زوج الأمة" و"الراهب الديكتاتور" الذي لم يرتدِ يوماً الزي العسكري، اندثر من الذاكرة الجماعية البرتغالية.
فمن هو فعلاً أنطونيو دي أوليفيرا سالازار الذي لا نعرف كثيراً عن حياته، والذي مات في سريره، كـ"جاره" فرانكو، بعد أن أشرف على تعذيب وقتل الآلاف من معارضيه، لا سيما الشيوعيين منهم؟
يدرس إيف ليونارد سيرة الرجل من زاوية "الحالة" السياسية التي شكلها. ويلاحظ أنه على عكس فرانكو، ليس لدى سالازار عديد من المؤيدين في بلاده، حتى إن حزب "تشيغا" اليميني المتطرف لا يتبنى أياً من طروحاته السياسية، في إشارة من المؤرخ إلى أن اسم سالازار ما زال يثير الجدل، وأن النظام الاستبدادي الذي أرساه وأسقط سنة 1974 كانت جوانبه السلبية أكثر من جوانبه الإيجابية.
بالنسبة لمعظم البرتغاليين تعد السالازارية مرادفاً لمرحلة من الركود والتأخر الاقتصادي والقمع الفكري الذي لم يتم الانتهاء منه فعلياً إلا بعد انضمام البرتغال إلى المجموعة الأوروبية سنة 1986، بمبادرة من ماريو سواريس، وزير الشؤون الخارجية في أول حكومة دستورية عرفتها البلاد بعد أحداث عام 1974. ويعد هذا التاريخ البداية الفعلية لإعادة البرتغال ابتكار نفسه في علاقاته مع أوروبا والعالم. ويبدو أن بلداً بأكمله عاش منذ سنة 1970، تاريخ وفاة سالازار، وسنة 1974 تاريخ انطلاق "ثورة القرنفل"، صفحة لا يرغب في إعادة فتحها أو التفكر فيها بصورة مسهبة. ففي كبريات مكتبات بورتو ولشبونة، لا نقع على كثير من الكتب المتعلقة بسالازار والسالازارية، مما يسقط أسطورة "العصر الذهبي" التي حاول منذ بضع سنوات الكاتب والأكاديمي البرتغالي خايمي نوغيرا بينتو تلميع صورة قائدها في كتاب أصدره سنة 2007 افتقد الموضوعية العلمية.
ملامح فكرية
سعى نوغيرا بينتو في هذا الكتاب إلى استخراج ملامح "فكر" "الراهب الديكتاتور"، الذي يمكن رده فقط إلى مهاراته وقدراته القيادية الهائلة. غير أنه لم يستطع، على رغم مدحه هذه المهارات، إخفاء أعمال سالازار الإجرامية التي وجدت في كرهه الأعمى للشيوعية، السبب الرئيس الذي دعاه إلى السماح للشرطة السياسية البرتغالية التصرف بحرية مطلقة في الفترة الممتدة من سنة 1950 إلى سنة 1960، لا سيما في قلعة بينيش الأثرية التي شيدت في القرن الـ17، والتي اتخذها نظام سالازار سجناً زج فيه كل معارضيه السياسيين. في هذا السجن تعرض هؤلاء السجناء لشتى أنواع الاضطهاد والتعذيب على أيدي زبانية حكومة سالازار القومية، التي وإن وفرت الاستقرار الأمني وأحكمت قبضتها على الحدود، إلا أنها سحقت المعارضة بعنف ووحشية وفرضت رقابة صارمة على وسائل الإعلام، ضاربة عرض الحائط بمبادئ حقوق الإنسان وركائز الديمقراطية. فقد أقام سالازار دولة عسكرية وضع فيها النقابات تحت إدارة الحكومة، ومنع حرية الصحافة والحريات السياسية، وأقام الاقتصاد على قواعد محكمة كانت على حساب الأجور ورفاهية المواطنين، واحتفظ في خضم الحرب العالمية الثانية بحياد بلاده. فأصبحت لشبونة حلقة الوصل بين الدول الحليفة ودول المحور.
وقد أتى إيف ليونارد في كتابه الجديد على ذكر هذا الخط السياسي وهذا السجن الذي توارت خلف جدرانه عقود من الزمن اختلط فيها الألم بالبكاء والعذاب بالمقاومة.
ولعل التناقض القائم بين مصير سالازار، وهو ابن ناظر لإحدى المزارع، الذي أصبح في وقت من الأوقات سيداً لسادته السابقين، يعود إلى قبوله في مرحلة متأخرة من حياته بالعنف السياسي.
يشرح إيف ليونارد بوضوح أن سالازار في ذروة الفاشية (1922-1945)، كان بمعنى ما معتدلاً في ميله نحو الجريمة السياسية. فليس ثمة شيء عنيف في شخصيته كما في شخصية هتلر أو ستالين. ولعل الأفعال الشريرة التي قام بها يومياً كانت تنفذ بهدوء بعيداً من ضجيج العواطف. فهو لم يكن معادياً للسامية، لكنه كان مرتبطاً بتحالف قديم مع الإنجليز، مما سمح له بتجنب الأسوأ، حتى لو لم يعف عن أريستيديس دي سوزا مينديس، قنصل البرتغال في مدينة بوردو الفرنسية، الذي سعى لإنقاذ اليهود الهاربين من تقدم الجيوش النازية ومعسكرات الموت سنة 1940 أيام حكومة فيشي على رغم أوامر حكومته.
ولئن لم يكن سالازار معادياً لليهود، فإنه كان ذا طبيعة قاسية، لا تتحمل معارضة أحد. وقد دفع الدبلوماسي البرتغالي، الذي خصه الروائي الجزائري سليم باشي برواية مؤثرة حملت عنوان "القنصل" سرد لنا فيها كيف استفاد نحو 50 ألف لاجئ من جميع الجنسيات والأديان بمن فيهم 10 آلاف يهودي من تأشيرة دخول وقعها دي سوزا مينديس سمحت لهم بالفرار من تهديد النازية والمصير المحتوم في معسكرات الاعتقال، لكن هذه الشجاعة دفع القنصل ثمنها باهظاً، إذ أقاله سالازار من منصبه ونفاه إلى أقصى البلاد.
لشبونة المدينة المفتوحة
يشرح لنا كتاب إيف ليونارد كذلك أن البرتغال كان في هذه الفترة من تاريخه قد دخل في حلف استراتيجي حذر مع دول المحور. وكانت لشبونة بالنسبة لآلاف اليهود والمقاومين المطاردين من قبل النازية، المعبر الوحيد نحو إنجلترا والمغرب والبرازيل والولايات المتحدة الأميركية. ويبين لنا أن سالازار لم يكن يحب هتلر، لكن علاقته الأيديولوجية بالفاشية الإيطالية كانت أكثر تعقيداً. وقد سلط أيضاً كتاب صدر حديثاً في مدينة البندقية للباحث ستيفانو سالمي الضوء على هذه العلاقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يتوسع كتاب ليونارد في تحليل شخصية سالازار ويخبرنا أن الشخصية السياسية التي تشبهه في هذه الفترة المضطربة والمشوشة من تاريخ أوروبا هي شخصية الماريشال الفرنسي فيليب بيتان (1856-1951)، وأن الجنرال ديغول سمى سالازار "معبود فيشي"، لكن المساهمة الأبرز التي يقدمه لنا هذا الكتاب الجديد هي في مساعدتنا على فهم ما لا يفهم بداهة. فعلى تتالي صفحاته نفهم كيف أن سالازار لم يكن زعيماً فاشياً فحسب، بل كان ديمقراطياً مسيحياً سلطوياً، وأن مقولة "السياسة أولاً" كانت غير مألوفة عنده، وأنه عامل بقسوة الأحزاب الملكية البرتغالية. وقد شبه ليونارد ديكتاتورية سالازار بديكتاتورية حكومة فيشي، التي كثيراً ما عبر الروائي والكاتب الفرنسي الشهير جورج برنانوس (1888-1948) عن كرهه لها، مقارناً إياها بتحالف بين مجموعة من مفتشي الحسابات ورؤساء الأساقفة الذين يعدون بإصلاح البرتغال بالعظات الأخلاقية الحميدة والحسابات الدفترية المضبوطة، دون أن يقلل من الوحشية التي مارستها هذه الديكتاتورية في حق شعبها. يتوقف الكتاب كذلك أمام الأعداد الهائلة للمهاجرين البرتغاليين الذين دخلوا الأراضي الفرنسية في الفترة الممتدة من عام 1950 إلى عام 1970، أي بعد الحرب العالمية الثانية والذين شهدوا على فظاعة سالازار في ذروة حكمه. فيتحدث عن تجربتي الفقر والمنفى والذل والإهانة، اللتين خصهما جوزيه فييرا بكتاب مؤثر حمل عنوان "ذكريات مستقبل مشرق".
تحت حكم سالازار، تعرض البرتغاليون لشتى أنواع القهر التي تذكرنا بها شهادات النازحين والمنشقين والحروب التي قامت في المستعمرات البرتغالية القديمة (أنغولا والموزانبيق وغينيا بيساو والرأس الأخضر) في أواخر الستينيات من القرن الـ20، والتي عمل سالازار ببشاعة ووحشية على الاحتفاظ بسيطرته عليها على رغم معارضة الأمم المتحدة والأفارقة. ولعل كل أعمال الكاتب والطبيب النفسي أنطونيو لوبو أنتونيس تشهد على ذلك. فهو يذكر مواطنيه بماضي بلادهم الكولونيالي المخزي وبالإرث الذي تركته ديكتاتورية سالازار وفظاعة نظامها، لكن تاريخ البرتغال مليء بالمفاجآت. فقد سقط أنطونيو دي أوليفيرا سالازار عن كرسيه دون إطلاق رصاصة واحدة وتوفي مشلولاً بعد 22 شهراً من سقوطه. وفي غضون أربع سنوات، اندلعت الثورة السلمية التي يروي بشغف إيف ليونارد قصتها في كتابه الجديد هذا، وقد سبق له أن نشر العام الماضي كتاباً تناول فيه أيضاً ثورة القرنفل، التي وصفها أحد الكتاب بـ"الثورة الجميلة وثورة المودة العامة"، التي استقطبت اهتمام مئات النشطاء والمثقفين الأوروبيين، الذين هرعوا إلى لشبونة للتأمل في أسرار الأمم وتقلباتها التاريخية.