"طول ما انت مالكش لازمة، ماحدش هايستغلك"... هذه العبارة اختتم بها بائع الخبز المشهد الأخير من الفيلم القصير "بؤس مصري". يعبر الشاب الصغير بهذه العبارة عن إحباطات الملايين من جيله أو طبقته الفقيرة. بائع الخبز هنا هو شخصية واحدة ضمن ثماني شخصيات تعاني من أزمات يضمها الفيلم الذي لا تزيد مدته عن خمس دقائق، وهو من تأليف وإخراج خالد خلة. يستعرض الفيلم عبر مشاهد سريعة وسرد مُختصر حكايات هؤلاء الشباب، كيف يتعاملون مع إحباطاتهم عبر وسائل وأفكار تبدو عبثية؟ وكيف يمكنهم التعايش مع هذه الإحباطات، أو الرضا والتصالح معها أحياناً؟ يسلط الفيلم الضوء في جانب كبير منه على الحرمان العاطفي والتهميش كدافعين للهروب إلى واقع بديل، واقع يمكن فيه نسج علاقة عاطفية مع دُمية، أو تبادل المشاعر مع شخصية افتراضية على مواقع التواصل.
فيلم "بؤس مصري" تم عرضه أخيراً ضمن مجموعة أفلام أخرى في افتتاح مهرجان القاهرة التاسع للفيديو الذي تستمر فعالياته حتى نهاية هذا الشهر. شملت عروض الافتتاح الذي أقيم في سينما زاوية بوسط القاهرة عرض ثمانية أفلام، تندرج جميعها ضمن المجموعة المختارة "رؤية محيطية" وهي واحدة ضمن تسع مجموعات أخرى تضم أفلاماً ذات رؤية بصرية أو بنائية مشتركة. المجموعات المشاركة الأخرى هي استنبات، وأماكن مسكونة، وعوالم مختارة، والحياة الثانية للصور، ووظيفة السرد، وفراشات لا تجري نحو الضوء، ومطارق ساحقة، ولن تتكلم لغتي. تضم هذه المجموعات التسع أكثر من مئة شريط فيديو قصير، هي جملة الأعمال المشاركة في هذه الدورة، والتي تم اختيارها من بين 783 عملاً مقدماً من كل أنحاء العالم. يسلط مهرجان القاهرة للفيديو الضوء على أحدث فنون الفيديو العالمية وإنتاجات الأفلام التجريبية، كما تحمل الأعمال المشاركة في هذه الدورة تساؤلات عدة حول الصورة المتحركة وعلاقتها بالواقع، وإمكان التعامل معها كأرشيف، أو صوغ بناء بصري من دون نسق محدد، اعتماداً على الصورة المتحركة كعنصر وحيد.
يعد مهرجان القاهرة للفيديو واحداً من بين أهم الفعاليات الفنية التي تقام في القاهرة، وهو الأبرز في مصر بين الأعمال المهتمة بإنتاج الفيديو أو الفيديو التجريبي على نحو عام. تشهد الدورة التاسعة تحولات مهمة في بنية المهرجان وطريقة تنظيمه، إذ يتم هذه المرة توسعة نطاق عرض البرامج المشاركة لتشمل أماكن عدة في أنحاء القاهرة. تتوزع الأعمال بين 19 مساحة للعرض يتاح أغلبها للجمهور من دون مقابل، كفترينات المتاجر والمكتبات العامة والمساحات الفنية وقاعات العرض ودور السينما؛ تغطي هذه المساحات جانباً كبيراً من مدينة القاهرة وضواحيها البعيدة نسبياً، بعدما كانت معظم العروض خلال الدورات السابقة مركزة تقريباً في وسط القاهرة. تستلهم إدارة المهرجان هذا الانتشار والتوسع حول المدينة- بحسب ما جاء في المطبوعة المصاحبة للعروض- من موسم أسراب الجراد، والذي تم اختياره كثيمة بصرية ثابتة لدوراته، وملهماً لهم من أجل الاستمرار والتجريب في هذا المجال.
بانوراما عالمية
الأعمال المشاركة في هذه الدورة تم ترشيحها من قبل فريق المهرجان، وكذلك لجنة الاختيار والبرمجة، وهم أحمد رفعت وعلاء عبد الحميد وإسلام كمال ومي الوكيل ومنى جميل وسارة عبد الرحمن. وينظم المهرجان مؤسسة مدرار للفنون المعاصرة، بدعم من المجلس الثقافي البريطاني والمؤسسة الثقافية السويسرية والمعهد الفرنسي والمعهد الدنماركي المصري للحوار، بالإضافة إلى شركاء محليين. خلافاً للأعمال التي وقع الاختيار عليها من قبل لجنة الاختيار والبرمجة تم دعوة أعمال فيديو إضافية إلى العرض ضمن المهرجان هذا العام، بينها أعمال لمحمد المغربي ومصطفى البارودي وياسمين العياط وخالد نديم وسامح علاء ومحمد الغنيمي ومروان الجمل من مصر، وليا نجار من لبنان، وريكه بينبورج من الدنمارك، وشوتو هاياكاوا من اليابان، وأعمال أخرى من الولايات المتحدة وإيران وألمانيا والنمسا وسويسرا وفرنسا وتايوان، وكلها أعمال أنتجت للعرض خصيصاً في الدورة التاسعة لمهرجان القاهرة للفيديو. كما تتضمن مطبوعة المهرجان نصوصاً من أبحاث أكاديمية لنور الصافوري، ووائل عبد الفتاح، وعلاء عبد الحميد، ولارا الجبالي؛ تتناول النصوص مواضيع عدة مثل طبيعة التعامل مع الصورة المتحركة كأرشيف، والقوة الكامنة في صورة الكاميرا، وصورة الفنان التشكيلي في السينما المصرية.
يجلب لنا مهرجان الفيديو مجموعة متنوعة وثرية من إنتاج الصورة المتحركة حول العالم، وهو وسيط فني يتطور باستمرار وتتشعب مجالاته على نحو متصاعد. هنا أعمال تخلق واقعاً بديلاً، وأعمال تحاول الوصول إلى تلك المساحة بين الخيال والصورة الحقيقية. لا تتبنى مشاهد الفيديو تقنيات متقنة في الخداع البصري، لكنها تضعك على عتبات الشغف. تستحضر لنا أعمال الفيديو الواقع على نحو مغاير لما استقر في أذهاننا من جراء التنميط والاعتياد على الرؤية. مشاهد معتادة، لكنها هنا تبدو مختلفة في تأثيرها، وهو تأثير يراوح بين العصف الذهني والدهشة، لا لشيء إلا لأنها تعرض أمامك على الشاشة. هذا الاقتراب والتأطير والاستعداد للمشاهدة يحدد العلاقة بينك وبين المشهد، بين الصورة أياً كانت، متخيلة، أو مختزلة من الواقع. الدهشة هنا تكمن في تثبيت اللحظة، في الكيفية التي تم بها حياكة الصورة على نحو متقن أو حتى غير متقن، من طريق المونتاج والتدخلات الرقمية والخدع البصرية. بالحذف والإضافة يمكنك أن تخلق واقعاً بديلاً، وتبقى الصورة في النهاية عالقة في الذهن داخل مساحة ضبابية ما بين الوعي واللاوعي. يحمل صناع الفيديو هنا إرثاً طويلاً من التجريب يمتد إلى خمسينيات القرن الماضي وستينياته، كما تعكس أعمالهم سعياً متمرداً إلى الكشف عن جماليات مغايرة من طريق الصورة المتحركة أو الفيديو.
إن مهرجان القاهرة للفيديو يحمل منذ تدشينه تحدياً حقيقياً، فهو يتصدى لتقديم واحد من أهم الفنون البصرية المعاصرة التي غيرت بالفعل نظرتنا للواقع. ومن ناحية أخرى يتجاوز المهرجان على المستوى التنظيمي تحديات التعامل مع المعوقات البيروقراطية باستحداث آليات جديدة وفاعلة وخلقها، من أجل الوصول إلى أكبر قدر من المتابعة الجماهيرية، ليصبح مع الوقت، وبلا مبالغة، أحد أهم الفعاليات الفنية التي تقام في مدينة القاهرة.