Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

معرض سيمون فتّال في اللوفر يحاور آثار الشرق القديم

منحوتاتها في المتحف العريق تكشف أبعاد تجربتها الفنية ومصادرها

الفنانة سيمون فتال أمام منحوتة لها في اللوفر (خدمة المعرض)

ملخص

يقيم متحف اللوفر الفرنسي معرضاً لمنحوتات الفنانة سيمون فتال في قسم الآثار الشرقية القديمة، وتبدو أعمالها المعروضة في حال من الحوار الفني مع القطع الأثرية التي تعود إلى الزمن الممتد من مرحلة  ما قبل التاريخ الى القرن الميلادي الثامن. ولعله حوار يستحضر أبعاد هذا الفن القديم ويعيد إحياءها.   

ينظم متحف اللوفر، قسم الآثار الشرقية القديمة، معرضاً للنحاتة والرسامة اللبنانية سيمون فتّال. ولعل الأعمال التي اختارت الفنانة عرضها فيه لا تستمد قيمتها فقط من تشكيلها خير حصيلة للعمل النحتي الذي تنجزه منذ عام 1988، كما حصل في المعرض الاستعادي الذي نظّمه لها "متحف نيويورك للفن الحديث" عام 2019، وشكّل تكريساً لها؛ بل من الحوار الناتج من مجاورتها اليوم بعض القطع الشرقية القديمة التي يملكها متحف "اللوفر". حوار خصب ومثير يكشف كل الأبعاد التي تتحلى هذه الأعمال بها، ومصادر وحيها، وفي الوقت نفسه، يغيّر النظرة التقليدية التي نلقيها عادةً على القطع الأثرية.

ولإدراك أهمية هذا المعرض، نستحضر بدايةً ما خطّته الشاعرة اليابانية ريوكو سيكيغوشي عام 2011، إثر زيارتها للمتحف المذكور: "لن أنسى أبداً ذلك اليوم الذي ذهبتُ فيه إلى متحف اللوفر لمشاهدة معرض، وكان ذلك بعد فترة قصيرة من اكتشافي عمل سيمون فتّال. ما إن انتهت جولتي، تركتُ خطواتي تتوه بي لبعض الوقت داخل صالاته، إلى أن توقّفتُ مندهشةً، إذ تملّكني الانطباع بأنني أتأمّل في أعمال فتّال. لكن ما كان أمامي هو تماثيل صغيرة وبيوت بأحجام مصغّرة تعود إلى فترة ما قبل حضارة بلاد ما بين النهرين. كان التشابه كبيراً لدرجة أنه بدا لي أنني فقدتُ إحساسي بمفهوم الزمن. خلال برهة خاطفة، خطرت ببالي أفكار مختلفة: لعل فتّال هي التي ابتكرت هذه القطع، لعلها وضعتها سرّاً في صالة العرض هذه، لعلها في الواقع خزّافة خرجت مباشرةً من العصور القديمة وحطّت أمامنا كي تتيح لنا فرصة بلوغ تقنيات عملها القديمة، أم لعلها أمسكت، بقدرة سحرية أجهلها، بشبح خزّاف قديم وجعلته يعمل في السرّ لديها".

علاقة فنية

مًن يزور معرض فتّال الحالي ويرى منحوتاتها تجاور قطعاً أثرية يمتد تاريخ صنعها من عصور ما قبل التاريخ إلى بداية القرن السابع ميلادي، يعي أن سيكيغوشي لم تبالغ في وصف انطباعاتها. فثمة أكثر من مجرّد إصداء صدفوي بين أعمال فنانة معاصرة وأزمنة الفن الأولى، بل ينتظرنا حوار حقيقي ومستمر بين فتّال ومتحف اللوفر. حوار انطلق على مقاعد "مدرسة اللوفر"، حين قررت الطالبة فتّال دراسة علم الآثار، واستمر عن طريق "تواتر الذكريات" الذي أوضحت الفنانة بأنها شعرت به حين بدأت في مزاولة النحت في نهاية الثمانينيات، ثم خلال زياراتها المنتظمة إلى متحف اللوفر، بمفردها، أو برفقة الناقد ومؤرّخ الفن هانز أولريش أوبريست الذي خصّص في كتابه المهم "الحوار اللانهائي" (2014)، الذي يضم 30 حديثاً مع وجوه الفن والشعر المعاصرَين، فصلاً لها حاورها فيه حول علاقتها بقسم الآثار الشرقية القديمة الذي يستضيف منحوتاتها اليوم. حوار تبرهن فتّال فيه عن حدّة نظر نابعة من معرفة وحساسية نادرتين.

وبالعودة إلى معرضها الراهن، نشير إلى أنه يتألف من 18 منحوتة، يخرج بعضها للمرة الأولى من محترفها، بينما أنجزت بعضاً آخر حديثاً لهذه المناسبة. أعمال تتوزع على صالات ثلاث داخل متحف اللوفر: "بلاد ما بين النهرين"، "فينيقيا" و"قبرص"، وتقترح الفنانة من خلالها إعادة قراءتها الخاصة لأساطير هذه الحضارات وأشكال الفنون التي كانت ممارسة في كل منها، داعيةً إيانا إلى استشعار السطوة الحداثية للآثار القديمة التي تجاور منحوتاتها، وسطوة منحوتاتها النابعة من جانبها الأثري.

وحول الفكرة التي تقف خلف هذا المعرض، وخيار الأعمال الحاضرة فيه، صرّحت مديرة قسم الأثار القديمة في متحف اللوفر، أريان توما، في حديث معها ومع فتّال: "من وجهة نظر تاريخية، يمثّل عدد من الآثار الشرقية شخصيات غير سلمية، مشحونة بعنف كبير. بالتالي، شكّلت رهاناً حقيقياً محاولتي مع سيمون منح هذه القطع صوتاً وإظهار الشغف الذي يقف خلف كل واحدة منها. بعض الاختيارات كانت بديهية جداً، بعضٌ آخر غير متوقّع. على سبيل المثال، منحوتة "خمبابا" فرضت علينا، بمواصفاتها، عرضها بين القطع التي عُثر عليها في لبنان، حيث غابة الأرز التي كان خمبابا حارسها الرهيب، لا مع قطع حضارة بلاد ما بين النهرين. منحوتة تشكّل في نظري إعادة ابتكار لشخصية خمبابا، التي تبدو فيها وكأنها تحيا بارتعاش يعبّر بطريقة مختلفة عن قوتها كما هي موصوفة في ملحمة غلغامش".

وحول سينوغرافيا المعرض، أوضحت توما: "من المسار الخاص ببلاد ما بين النهرين، حيث الصالات الأشورية، إلى المسار المشرقي المرصود تحديداً للبنان وقبرص، تحلّ أعمال سيمون في الأمكنة التي تخلّف فيها أقوى صدى. بالنسبة إلى منحوتاتها ذات الأحجام الصغيرة، اخترنا عرضها مع الآثار التي تركن خلف واجهات زجاجية ثابتة".

من جهتها، أشارت فتّال، في معرض حديثها عن مضمون معرضها: "أنجزتُ منحوتتين ترتبطان مباشرةً بتاريخ قبرص: واحدة، تجريدية، للإلهة هاثور (أو حتحور)، وواحدة لزمّار يقف على سبيكة من نحاس، لأن قبرص كانت تصدّر نحاساً ذات جودة عالية إلى مختلف أنحاء حوض المتوسط. ثمة أيضاً منحوتات كبيرة، مثل "خمبابا" التي ذكرناها، ملاك مجنّح، فيكتوار تحمل عصفوراً، إضافةً إلى مجموعة منازل أو معابد مصغّرة، من تلك التي أواظب على تشكيلها. ومن بين منحوتاتي الصغيرة، ثمة ثلاث صممتها انطلاقاً من قطع أثرية أشورية: حقيبة يد مستوحاة من جدارية ناتئة، حيوان خرافي بقرنين، وهراوة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعن خصوصيات منحوتاتها البشرية، تقول: "قيل إن شخصياتي ذات السيقان الطويلة تشبه أروقة معمَّدة (من عمود)، لكن أثناء تشكيلها، كنت أفكر حقاً بكائنات بشرية. ثمة دائماً عدة طبقات من المعنى". وتضيف: "المنحوتة البشرية الأولى التي أنجزتها هي تمثال نصفي، تبعتها مجموعة منحوتات لآدم وحواء، عام 1989. آنذاك، كنت أقرأ كثيراً عن التصوّف الإسلامي حيث يعتُبر آدم نبياً بقامة كبيرة، ولذلك منحته ساقين طويلتين. كل الرجال الذين شكّلتهم بعد ذلك، ورأى النقّاد فيهم محاربين، يشبهونه بسيقانهم الطويلة، وبتلك السحنة السعيدة والخفيفة، بخلاف حواء التي تحمل كل بؤس العالم على كتفيها، وتشكّل نقيض تمثال بوتيتشيلي "فينوس"، فهي مكسوة بالوحل وتفكّر بذرّيتها التي ستتعذّب كثيراً... حين نقولب المادة، تنزلق أحياناً من بين أصابعنا وتقع بشكلٍ صائب. يجب عدم المساس بها".

أما في ما يتعلق بمعنى عرض أعمالها كفنانة معاصرة في متحف للآثار القديمة، مثل اللوفر، فتقول: "يبدو لي أن هذا بالضبط ما يجب القيام به! أعتبر أنه يجب أن يُنظر إلى الأعمال الأثرية كما ننظر إلى الفن المعاصر، لا كقطع مقدّسة، كما كانت وظيفتها أحياناً. مثل هذا الحوار يغيّر النظرة الملقاة عليها. أودّ أن ينظر الناس إليها بطريقة أفضل، لأنها تروي القصة الكاملة لحقبةٍ ما، والقصة تستمر".

خلال أمسية إطلاق "حوارات اللوفر"، في أكتوبر(تشرين الأول) الماضي، أكّدت فتّال أن "كلما كان العالم مسرحاً للدمار، نحتُّ بيوتي الصغيرة التي تبدو كأطلال، لكني أسمّيها بيوتاً بعناد". عملٌ فني صبور تواجه به عمليات الهدم والتخريب الواسعة النطاق بحركات صغيرة. وفعلاً، تمارس الفنانة النحت كفعلٍ تذكاري، وفي الوقت نفسه، غير تذكاري. فبتجاوزه الحدود التي تصطدم بها الذاكرة، ينشّط تُروسها (rouages): "فعل النحت يشجّع على الاسترجاع. فلنجبل الطين، ونجبله، ونجبله، حتى ينفتح الرأس والقلب على تلك الذكريات".

ومن كلمات فتّال إلى يديها، يسكن هذا الفعل عملها. يغوص بأصابعها في الطين ويترك بصمتها، حيّة، عليه. من هنا قول رفيقة دربها، الفنانة والشاعرة إيتيل عدنان، إن من الممكن الإمساك بمنحوتاتها ومعانقتها. وهي طريقة أخرى لقول دعوة هذه المنحوتات الناظر إليها للاتصال حسّياً بها، وبالتالي إنسانيتها العميقة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة