ملخص
في مسرحية "سقيفة" السورية تؤدي 3 ممثلات ادوار دمى تحركها يد خفية لرجل يضع على وجهه قناعاً. وعبر هذا العرض تستعيد "فرقة المسرح الحر" نشاطها بعد سنوات طويلة من التوقف.
لعلها من المرات النادرة التي تسترد فيها "فرقة المسرح الحر" نشاطها بعد غياب طويل، فالتجمع الفني الذي أسس عام 1956 على أيدي جيل من رواد المسرح السوري، كان قد انطلق فعلياً عام 1967 بعرض "صابر أفندي" على مسرح سينما فريال في دمشق، وكان من تأليف القصاص الشعبي حكمت محسن وإخراج عبداللطيف فتحي، ولعب بطولته وقتذاك كل من نزار شرابي وميليا شمعون ومحمد العقاد ورفيق السبيعي وياسين بقوش وخالد تاجا، وغيرهم.
اليوم تعود فرقة المسرح الحر إلى مزاولة نشاطها بعرض حمل عنوان "سقيفة" لمؤلفه ومخرجه سليمان قطان. في هذه التجربة نتعرف إلى خمس شخصيات لا يربط بينها رابط إلا من حيث أداؤها أدواراً تأخذ شكل السكيتش. فهي تجد في صورة اليد الخفية التي تحرك هذه الشخصيات كدمى استعارة لجمع خيوط اللعبة المسرحية.
يبدأ "سقيفة" بتلقي إحدى هذه الشخصيات (فادي الحموي) هاتفاً من رب العمل بأن ينقل المانيكانت القديمة من الواجهة الزجاجية لمتجر الألبسة إلى سقيفة المحل، ريثما يتم استبدالها بأخرى جديدة من الصين تعمل بتقنيات الذكاء الاصطناعي. وبالفعل ينفذ الشاب تعاليم مديره، لننتقل بعدها إلى لوحات عديدة تروي حكاية كل دمية من هذه الدمى النسائية في حيز افتراضي متخيل.
مساحة فارغة على مسرح القباني إلا من حبال أخذت شكل خيوط موثوقة إليها شخصيات العرض، لكنها سرعان ما تفلت كل واحدة منها لتروي قصتها، وذلك عبر تجاور لتلك القصص وتداخل فبدت فيها الممثلات الثلاث (لميس عباس، ورولا طهماز، ونغم إدريس) نسخة من دمى الماريونيت التي يتلاعب بهن رجل يرتدي قناعاً (ياسر البردان) في مقاربة للتسلط الذكوري في مجتمعات العالم الثالث، وما يكتنف ذلك من محاولات إخضاع النساء لسطوة العرف والتقاليد والخوف.
الهجرة وجواز السفر
من هنا تتداعى قصص أكثر تشابكاً، فنتعرف إلى تلك السيدة التي تحلم بالهجرة إلى أوروبا بعد أن فقدت بيت العائلة بسبب عدم تأدية والدها المتقاعد القروض المترتبة عليه للبنك، فلا تحصل على تأشيرة على جواز سفرها، وتضيع أحلامها بإيجاد بيت تأوي إليه ولو في بلاد الغربة. كما نتابع قصة الفتاة التي فقدت حبيبها وتعيش على ذكراه منذ 10 سنوات، فلا ترضخ لرغبات والدتها بالزواج من رجل ثري، فيما نتعرف إلى راقصة في ملهى ليلي كانت قد تحدت تقاليد الحي الشعبي الذي تقيم فيه، ودفعها ظلم أبيها إلى الهرب من بيت العائلة إلى العمل في مرابع السهر.
جميع هذه القصص تمت روايتها في العالم المتخيل للعلية أو "السقيفة"، مما أتاح المجال أمام مخرج العرض ومؤلفه برسم عوالم للدمية (المانيكان)، وجعلها تأخذ أبعاداً رمزية في لعبة لا متناهية من الاعترافات والبوح والرغبة في العزلة على مواجهة عالم يزداد وحشية وقسوة، لكن في المقابل بقي الشكل الفني لمسرحية "سقيفة" يذكر بعروض مسرح الهواة الذي لا يستطيع بناء قصة شخصياته إلا من خلال لوحات يتم مفصلتها بالإضاءة، فيقدم ملامح لشخصيات تروي حكايتها بصورة خاطفة، ثم لا تلبث أن تختفي أو تندمج في قصة الممثل الشريك على الخشبة. يبدو هذا القالب مستساغاً في عروض تتوخى أسلوب اللوحات الدرامية على منصات السوشيال ميديا، التي اشتهر مؤلف "سقيفة" ومخرجه بكتابتها.
يبقى الجهد في توليف هذه اللوحات (دراماتورجيا لميس عباس) على الخشبة بمذاق المسرح التجاري، إذ استعان سليمان قطان بأغنيات مرابع السهر وأطال فيها، في حين دمج بين هذه الأغنيات وعزف حي لآلة العود (ياسر البردان) في فقرات أخذت طابعاً ميلودرامياً (بكائياً)، لا سيما في مشهد فتاة الرقص الشرقي وتصوير مدى معاناتها. يبدو الخلط في الأنواع الفنية هنا جلياً ومتأرجحاً بين تقنيات المسرح الجاد والمسرح الترفيهي، وهذا خلط لا يمكن التعويل عليه لإنتاج عرض يحكي مآسي النساء بقالب وصلات الرقص الشرقي، والاتكاء على ذائقة مسرح الخمسينيات لاستجداء تصفيق الجمهور أو تعاطفه.
مسرح وكواليس
المفارقة أن سينوغرافيا العرض (رضوان النوري، ومحمد قطان) ابتعدت عن هذا القالب، ووفرت مساحة لعب متوازنة بصرياً، فاعتمدت على إغلاق كواليس المسرح الجانبية بستائر سوداء، وأبقت مساحة اللعب تنطلق من عمق الخشبة عبر مجموعة من حبال أخذت شكل شبكة عنكبوت تترصد فرائسها من نساء وفتيات سرعان ما يتدحرجن إلى أداء دور الضحية، وهذا ما كان واضحاً في "سقيفة" عبر معالجة فنية انتصرت لدور المرأة مهيضة الجناح، والتي لا تبدي مقاومة تذكر لتغيير مصيرها، بل سرعان ما تخضع وتستكين لسكاكين العيب والحرام والإذعان للقمع والترهيب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هكذا يختتم سليمان قطان عرضه بعودة الرجل المقنع ليلف حباله على أعناق ضحاياه، ويذكر بأن الدمية التي تحركها اليد عبر خيوط لا مرئية غير قادرة على انتزاع حريتها، بل هي ستبقى رهينة رغباته وأهوائه، فيحيلنا هذا المشهد على شنق الدمى وعقابها لتبقى أسيرة "سقيفة" في متجر لبيع الألبسة، وهي نهاية لا تتعارض مع ما سبق شرحه في متن العرض السوري، بل تستلهم مصائر شخصياتها من مخيلة تلفزيونية صرفة، فتدفع هذه الشخصيات لنكء الجراح والتمثيل بها، من غير محاولة تحطيم القيود والانعتاق من خيوط تجبرها على الامتثال والانصياع لرغبات لاعب الدمى السياسي والاجتماعي والديني.
يبقى أداء الممثلين في هذا السياق لافتاً من ناحية التنقل بين أدوار عدة على الخشبة، وسرعة تبديل الأزياء (تصميم جماعي) ومرونة الاندماج في الدور والخروج منه، مما أتاح فرصة لتقديم صيغة من اللعب المسرحي في أداء مؤسلب اتكأ على تقنية التغريب، وعدم الاندماج العاطفي مع الدور. والتعويل في ذلك على أداء النساء لأدوار الرجال والعكس بالعكس، في محاولة ربما لتصوير العنف المتبادل بين الجنسين، فما يقع على المرأة من ضيم وحيف يقع على الرجل، والخيوط التي تلف أعناق الدمى ليست مخصصة للنساء بقدر ما هي مخصصة لرجال تم سلبهم حرية تقرير المصير، فاليد التي تحرك الخيوط هي ذاتها دمية من نوع آخر، وعليه يستحيل الجميع إلى صورة من الدمى والأيدي التي يحركها الغيب السياسي والديني سواء بسواء.
هذه المقاربة كان يمكن لها أن تبدو أكثر إحكاماً فيما لو تم التأمل في صياغة العرض، والابتعاد عن تقديم شخصيات نمطية ضمن إطار مسرح عبثي، فالشخصية النمطية التي عول عليها الممثلون في "سقيفة" لإبراز عيوبها الجسدية واللفظية افتقرت إلى عالم داخلي قادر على انتزاعها من كليشيهات الأداء المدرسي، والذهاب بهذه الأنماط إلى أقصى لحظات الصدق الفني، وذلك عوضاً من محاولة ترويضها لصالح التغيير في نبرة الصوت وتقصد مبالغات تضخيمه أو تخنيثه تبعاً لانتحال المرأة دور الرجل أو العكس. من دون ذلك يمكن القول إن "سقيفة" راوح فنياً في المكان على رغم النيات الحسنة لصناعه.