ملخص
اكتسب المجتمع الأميركي ملمحه الناعم والخلاق، من خلال سبيكة المهاجرين، أولئك الذين حلوا برحالهم من قارات الأرض الست، لا سيما منذ أوائل القرن العشرين، الأمر الذي خلق سبيكة مجتمعية نادرة من البشر.
عرفت الولايات المتحدة منذ منشأها بأنها دولة مهاجرين، قامت على أكتاف الرعيل الأوروبي الأول الذي هاجر إليها من القارة العجوز، حيث التضييق الديني، إلى عالم رحب جديد، يمتلئ بالباحثين عن فرصة جديدة للحياة، ومن هذا المنطلق نشأ تعبير "الحلم الأميركي"، حيث يمكن للمرء أن يحقق ذاته على كافة الأصعدة، من غير خجل أو وجل عقائدي، ومن دون خوف من ملاحقة بسبب رأي أو فكر.
على مر ثلاثة قرون، مثلت الهجرة، الشريان الرئيس الذي ضخ الدماء في أميركا المتجددة، وعلى ضفاف هذا التيار نشأت فكرة "بوتقة الانصهار"، حيث تختلط البشر من كل الأمم ومن كل الشعوب ومن كل القبائل، في إناء واحد، ترسم معاييره بنود الدستور الأميركي، وتصنع معاييره روح القوانين الأميركية.
كانت الهجرة هي قوة أميركا الماورائية، ودافعتها للتقدم، لا سيما في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، حيث هاجرت إليها أفضل العقول العلمية الأوروبية، وبخاصة الألمانية، وليس سراً أن برامج الصواريخ الأميركية قامت على أعناق العلماء الألمان وكذا القنبلة النووية.
ما الذي جرى اليوم وجعل من الهجرة أزمة مزدوجة، وباتت تكاد تشكل الفائز في انتخابات الرئاسة 2024؟
الثابت أن الولايات المتحدة إزاء معضلة مزدوجة، ما بين حاجتها لمزيد من المهاجرين من جهة، ومن جهة ثانية نشوء وارتقاء فكر مناهض للهجرة، خوفاً من حدوث انقلاب ديموغرافي في التركيبة السكانية للبلاد.
هل أميركا في أزمة يمكن أن تقودها إلى صراع هوياتي تحدث عنه بالفعل المفكر المهاجر من اليابان، الأميركي الجنسية، فرانسيس فوكاياما، في مؤلفه الشهير: "الهوية: مطلب الكرامة وسياسات الاستياء"؟
تبدو الإشكالية حاملة في قلبها روح التضاد الأميركي المعروف بين الشيء وضده، وهي غالب الظن سوف تظل ملاحقة لهذا البلد الإمبراطوري، إلى أن يقضى الله أمراً كان مفعولاً.
أميركا والحاجة لمهاجرين جدد
عبر أكثر من قراءة نشرت في الأسابيع الماضية من خلال مواقع صحافية ومجلات أميركية، يتجدد الحديث عن الحاجة الأميركية لمزيد من المهاجرين، هذا على رغم أوضاع الاقتصاد الأميركي والتي ليست في أفضل حال من حيث مستويات التضخم، الأمر الذي حدا بالفيدرالي الأميركي إلى تثبيت أسعار الفائدة قبل أيام وعدم تخفيضها كما كان متوقعاً.
ما الذي يسهم في الحاجة الأميركية إلى مزيد من المهاجرين؟
بحسب موقع "إكسيوس"، هناك عاملان، الأول موصول بمعدلات المواليد في الداخل الأميركي وانخفاضها، والثاني موصول بقضية التغيرات الديموغرافية داخل أميركا عينها.
هذه التغيرات هي التي تخلق الحاجة إلى الاستمرار في تدفق المزيد من المهاجرين لتعويض المتاعب الاقتصادية التي ستنتج منها.
ارتقت الولايات المتحدة سلم الدولة ذات الاقتصاد الأكبر في العالم، حين قدر لمنتجاتها أن تغزو دول العالم، من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، لا سيما خلال فترة الستينيات حتى بدايات الألفية ولم تنازعها قوى عالمية أخرى.
اليوم تبدلت الأوضاع، لا سيما في ظل ظهور قوة صناعية أخرى تحسب لها أميركا ألف حساب، وعلى رأسها الصين، التي ينتظر أن يتجاوز ناتجها الإجمالي نظيره الأميركي قبل نهاية هذا العقد من القرن الحادي والعشرين.
ما الذي يعنيه لأميركا إذاً قضية نقص العمالة بسبب تراجع أعداد المهاجرين؟
باختصار غير مخل، يعني أول الأمر أن الشركات لن يكون لديها العدد الكافي من العمال، لتلبية الطلب على السلع والخدمات، مما يؤدي إلى ارتفاع التكاليف.
هنا فإن المعادلة تبدو حقاً مخيفة للاقتصاد الأميركي وقوامها، أنه إذا لم يكن لديك عمال للقيام بالعمل، فستكون هناك ندرة وستكون هناك ضغوط تصاعدية على الأسعار.
والشاهد أن الحديث عن الهجرة، تستتبعه بالضرورة تساؤلات جذرية عن حالة معدلات المواليد في الداخل الأميركي، وما طرأ عليها من تغيرات مثيرة، فهل يعاني الأميركيون من تدنٍ بالفعل في معدلات المواليد، ما يقطع بضرورة اللجوء إلى زيادة معدلات الهجرة، على رغم الضجيج الذي تثيره سياسياً داخل البلاد، وما يحدثه من جدل بين الأحزاب، والمرشحين للرئاسة الأميركية عما قريب؟
تناقص أعداد المواليد داخل أميركا
وفقا للإحصاءات الموقتة لعام 2023 الصادرة عن مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في 25 أبريل (نيسان) 2024، انخفض عدد المواليد في الولايات المتحدة العام الماضي، فقد تم تسجيل 3.6 مليون طفل مولود في أميركا، أي أقل بنحو 76 ألف طفل عن العام السابق، وهو أدنى رقم منذ عام 1979.
وبمزيد من التفصيلات، فإنه من عام 2022 إلى عام 2023، انخفض العدد الموقت للولادات بنسبة 5 في المئة للنساء الهنود الأميركيين وسكان آلاسكا الأصليين، و 4 في المئة للنساء السود، و3 في المئة للنساء البيض، و2 في المئة للنساء الأميركيات، فيما كان الاستثناء الوحيد هو ارتفاع بنسبة 1 في المئة للنساء من أصل إسباني.
في مارس الماضي، توقعت دراسة جديدة نشرت في مجلة "لانسيت" استمرار انخفاض معدلات المواليد بشكل كبير خلال القرن المقبل، حول العالم عامة، ما يعني أن نصيب أميركا منها سوف يؤثر في أوضاعها الاقتصادية قولاً وفعلاً.
هنا وبحسب موقع "أكسيوس"، فإن إنخفاض عد الولادات وصل إلى أدنى مستوى له منذ ما يقرب من قرن من الزمان، ففي يناير 2023، وجدت دراسة أشرف عليها وزيران أميركيان سابقان للخزانة أن الولايات المتحدة ستحتاج إلى مزيد من البشر، سواء من خلال إنجاب أطفال، أو زيادة عدد المهاجرين.
هل من تفسير "سيسيولوجي" لهذا التناقص الواضح في تعداد سكان أميركا؟
بحسب البروفيسورة كارين جوزو، عالمة السكان ومديرة مركز كارولينا للسكان بجامعة "نورث كارولينا" في "تشابل هيل"، فإن الشباب الأميركي يتخذ قرارات واعية بشأن تنظيم الأسرة ويريدون الانتظار حتى يتمكنوا من إعالة أنفسهم وأطفالهم مالياً، ويظهر بحثها أن الأميركيين يشيرون إلى الضغوط الاقتصادية، وعدم استقرار العمل والاستقطاب السياسي، وقروض الطلاب، والحصول على الرعاية الصحية، عطفاً على تغير المناخ والصراعات العالمية كأسباب لتأخير أو عدم إنجاب الأطفال.
وتشير البيانات إلى إنخفاض حالات الحمل غير المخطط له أيضا، إضافة إلى إنخفاض معدلات المواليد في سن المراهقة بنسبة 2 في المئة عن العام السابق، متوجة بانخفاض قدره 68 في المئة عن مستويات عام 2007، وانخفض معدل الولادات للنساء اللاتي تتراوح أعمارهن من بين 20 و24 سنة بمقدار النصف تقريباً منذ عام 2007، ليصل إلى مستوى قياسي منخفض بلغ 55.4 ولادة لكل 1000 امرأة.
هل الحل إذاً في المزيد من استجلاب المهاجرين إلى الداخل الأميركي، طالما أن الرحم الأم في الداخل غير قادر على تقديم المزيد من الأطفال عماد المستقبل؟
معضلة الهجرة وإشكالية أميركا العالقة
يتساءل الأميركيون، هل توقف تيارات الهجرة إلى البلاد، يؤثر في حالة الحراك المجتمعي الذي ضمن لأميركا موقعها وموضعها خلال النصف الثاني من القرن العشرين؟
يقدم لنا تقرير حديث صادر عن "مركز الأمن الاقتصادي والفرص"، في واشنطن، قراءة مثيرة عن ما يطلق عليه "أميركا العالقة"، ففي كل مكان تنظر إليه، إلى الهياكل الطبقية، والكونغرس، والاقتصاد، والفجوات العرقية، والتنقل السكني، وحتى الطرق يتباطأ التقدم.
لقد أصبح الجمود بالفعل مصطلحاً مفيداً للدلالة على عدم النشاط السياسي في واشنطن العاصمة، لكن الأمر يذهب إلى ما هو أعمق من ذلك بكثير، لقد أصبح المجتمع الأميركي نفسه عالقاً مع ضعف التوزيع والتنقل عبر الطبقات الطبقية. لقد فقد الاقتصاد دينامكيتيه، ولا تزال الفجوات العرقية، التي سلط الضوء عليها جرائم المجتمع الأميركي، لا سيما ذات الملمس العنصري.
وفي دولة لم يكن التقدم فيها موضع شك في يوم من الأيام، أصبح الركود يهدد الجميع، الركود السيسيولوجي، قبل الركود الاقتصادي.
اكتسب المجتمع الأميركي ملمحه الناعم والخلاق، من خلال سبيكة المهاجرين، أولئك الذين حلوا برحالهم من قارات الأرض الست، لا سيما منذ أوائل القرن العشرين، الأمر الذي خلق سبيكة مجتمعية نادرة من البشر.
غير أن الحال اليوم اختلفت كثيراً، لا سيما بعد أن طفت على السطح شبه متناقضات ما بين أميركا ذات البعد المتجانس، والأخرى المفارقة لروح "بوتقة الانصهار"، مع الإصرار على التمايز والمحاصصة.
هل كان تيار الهجرة إذاً عند لحظة بعينها، هو المياه الجارية، التي ضمنت لأميركا عدم التكلس أو التحجر، بمعنى هل كانت الهجرات روافع للغني والتنوع، للتجديد والنهضة العقلية والنقلية للولايات المتحدة الأميركية؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عن حال أميركا من دون مهاجرين جدد
المؤكد أنه لا يمكن تقديم جواب عن علامة الاستفهام المتقدمة من غير القيام بعكس السؤال أي طرح فكرة أميركا كيف يمكن أن تبدو من غير مهاجرين؟
كتب المؤلف الفرنسي الأميركي "هيكتور سانت جون دي كريفكور"، في كتابه "رسائل من مزارع أميركي" عام 1782، يقول: "هناك مكان للجميع في أميركا".
كان كريفكور مثل معظم أفراد جيله المؤسس، فقد اعتقد أن الحجم الهائل للدولة الجديدة يعني مستقبلاً مزدهراً، لكنه كان يحتفل أيضاً بموقف الانفتاح، والرغبة في احتضان مواطنين جدد من جميع أنحاء العالم في ما أسماه "بوتقة الانصهار" للمجتمع الأميركي.
لقد ظل احتضان الانفتاح قائماً، على رغم اندلاع المشاعر العدائية من حين لآخر، طوال القرنين ونصف القرن الماضيين.
لقد ظلت أميركا أمة مهاجرة بالروح كما بالواقع، لكن هذه الروح ربما تتضاءل وتتراجع في حاضرات أوقاتنا، على رغم الحاجة إلى المزيد من هؤلاء.
بالرجوع إلى علوم الرياضيات، والخوارزميات تحديداً، نكتشف أن أميركا في حاجة حقيقية للمزيد من الأيدي العاملة من الشباب لتعويض شيخوخة جيل الطفرة السكانية، وبشكل عام، فإن المهاجرين مفيدون للاقتصاد، كما يظهر ملخص حديث للأبحاث التي أجراها مشروع هاملتون التابع لمعهد بروكنغز.
لا يمكن اختزال قيمة الهجرة في حدود جداول بيانات، فالمهاجرين لا يجعلون أميركا أفضل حالاً فحسب، بل إنهم يجعلون أميركا أفضل، حيث يقدمون حقنة تجديد حضاري في ذراع الأمة، والعهدة هنا على البروفيسور البريطاني الاصل الأميركي الجنسية ريتشارد ريفز.
يقدم البروفيسور ريفز بعض البيانات للدلالة على الحراك المجتمعي والاقتصادي الذي يحدثه المهاجرون الجدد لأميركا، فعلى سبيل المثال أصبح هؤلاء أكثر ميلاً لبدء أعمال تجارية جديدة بمقدار الضعف مقارنة بالأميركيين المولودين في الولايات المتحدة عينها وفي حين أن معدلات ريادة الأعمال آخذة في الانخفاض بين السكان الأصليين، فإنها ترتفع بين المهاجرين.
من جانب آخر، يظهر الأطفال المهاجرون عادة قدرة تصاعدية غير عادية، من حيث الدخل والمهنة والتعليم.
على سبيل المثال، من بين الأطفال المولودين في لوس أنجليس بولاية كاليفورنيا، لمهاجرين صينيين ذوي تعليم سيئ، فإن 70 في المئة منهم يكملون دراستهم الجامعية لمدة أربع سنوات.
ماذا يعني إغلاق أبواب الهجرة؟
عند الكثير من علماء الاجتماع الأميركي، يعني أميركا التي تعرف الاستقرار، لكنها ستكون عصية على النماء والتقدم، الأمر الذي يسمح للأمن بأن يحجب الديناميكية عن أجيال أميركية جديدة.
هنا يقول أحدهم، إن أميركا كانت دائماً تزن الفوائد المترتبة على الديناميكية والتنوع بقدر أكبر من الاهتمام، والهجرة وسيلة مهمة تضغط بها أميركا دوماً على زر التحديث وتجدد نفسها، ومن دون الهجرة لن تصبح الأمة أسوأ حالاً فحسب، بل إنها سوف تتوقف، إلى حد ما، عن كونها أميركا على الإطلاق.
لكن على جانب آخر، فإن هناك من يرى عكس هذا الكلام، ويرى أن استمرار الهجرة، يعني غياب أميركا التي كانت يوماً ما، ماذا عن ذلك؟
الرجل الأبيض والانقلاب الديموغرافي
قامت الولايات المتحدة الأميركية في أول أمرها وحتى وقت قريب من أوائل القرن العشرين على أعناق المهاجرين المعروفين باسم "الواسب" اختصاراً لـ"الوايت أنجلو ساكسون بروتستانت"، أولئك البيض البروتستانت الإنجليز بنوع خاص، والذين هاجروا من القارة الأوروبية تحت ضغوطات مختلفة في مقدمها العامل الديني حيث كانت القسوة الدوغمائية تغلف الأجواء الأوروبية.
اعتبرت الأراضي الجديدة بمثابة كنعان أخرى للرجل الأبيض، أي أنها كانت المكافئ الموضوعي لأرض الموعد بالنسبة لبني إسرائيل في التاريخ القديم.
ظل تفوق الرجل الأبيض ماضياً قدماً، حتى العقود القريبة والتي بدأت فيها الموازين الديموغرافية تنقلب في غير مصلحة الحضور الأبيض، وبدأت كفة الميزان الديموغرافي ترجح أقليات ملونة أخرى، لا سيما "الهسبانيك" أي المهاجرين من قارة أميركا الجنوبية، عطفاً على الآسيويين والشرق أوسطيين، عطفاً على الأميركيين من أصول أفريقية.
والحقيقة أنه مع ازدياد تنوع سكان الولايات المتحدة من الناحية العرقية والإثنية، تتباين وجهات نظر الأميركيين حول الكيفية التي قد تتغير بها البلاد عندما يشكل هؤلاء غالبية السكان، وفي حين أن الكثيرين يقولون إن هذا التغيير سيكون مفيداً للبلاد أكثر من الذين يقولون إنه سيكون سيئاً، فإن الرأي السائد هو أنه لن يكون كذلك.
وبالرجوع إلى الكثير من التصريحات يستنتج القارئ أن غالبية الأميركيين يعتقدون أن الأثر سيكون سلبياً على البلاد. وفي الوقت نفسه بالرجوع إلى توقعات مكتب الإحصاء الأميركي، نجد أن غالبية سكان الولايات المتحدة سيكونون من غير البيض بحلول عام 2050.
هنا يعتبر نحو نصف الأميركيين أن هذا التحول سيؤدي إلى المزيد من الصراعات بين المجموعات العرقية والإثنية.
ويتوقع نحو أربعة من كل عشرة أن غالبية السكان غير البيض ستضعف العادات والقيم الأميركية، وهي نسبة أكبر من النسبة التي تقول إنها ستعززها 30 في المئة أو أن يكون لها تأثير كبير 31 في المئة.
ومع الأخذ في الاعتبار تراجع الرغبة في الزواج عند كافة الأميركيين، هنا يبدو واضحاً جداً أن أعداد البيض سوف تتضاءل يوماً تلو الآخر.
فبحسب استطلاع رأي لمركز "بيو" يتوقع نصف الأميركيين 53 في المئة إنه في غضون 30 سنة سيكون احتمال زواج الناس أقل مما هو عليه الآن، ويقول 7 في المئة فقط من الأميركيين أنه ستكون لدى الأجيال القادمة الرغبة في الزواج.
من هنا تتفاقم أزمة أخرى مرتبطة بديموغرافية "الواسب" وتعمل في مصلحة المهاجرين، أنها إشكالية الشيخوخة.
وفقاً لمكتب الإحصاء الأميركي، فإنه بحلول عام 2050، سيفوق عدد الأشخاص الذين يبلغون من العمر 65 سنة أو أكثر عدد الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة، ويقول 56 في المئة من الأميركيين إن هذا سيكون له تاثير سلبي على البلاد.
هنا يطفو على سطح الأحداث تساؤل خطير، كبير ومثير: "ما التأثيرات التي ستتركها الانقلابات الديموغرافية على عمق الحياة المجتمعية الأميركية"؟
المؤكد أولاً، وقبل كل شيء، أن هناك تياراً أميركياً عريضاً من الأميركيين البيض، أصحاب التوجه اليميني بنوع خاص، يرفضون هذا الانقلاب ويعملون جاهدين على وقفه، ولو لزم الأمر من خلال القوة المسلحة، وهذا ما نراه في الكثير من ملامح ومعالم الحوادث الأخيرة التي جرت برسم عرقي إثني، وردود الفعل المصاحبة لها من جانب أقليات مغايرة، كما رأينا في جماعة مثل "حياة السود تهم".
وفي كل الأحوال، فإن حديث الهجرة والمهاجرين، سوف يوجد على ضفافه، ومن دون أدنى شك، حالة من اللغط الأيديولوجي، لن تنفك تضحى مواجهات نخبوية فكرية، وآخر المطاف حراك في الشارع، سينجم عنه صراع مجتمعي، بل إن هذا الصراع ربما تتضح صوره في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024... ماذا عن ذلك؟
سياسة الهجرة وتحديد الرئيس المقبل
يبدو واضحاً أن قضية الهجرة، ومواقف المرشحين الديمقراطي جو بايدن والجمهوري دونالد ترمب، منها ستكون عاملاً من العوامل الحاسمة في فوز أحدهما وإخفاق الآخر.
في أوائل يناير (كانون الثاني) المنصرم، وجد استطلاع رأي لـ "غالوب" أنه عندما طلب من الناخبين الذين لا يوافقون على أداء بايدن الوظيفي شرح أسبابهم، كانت فكرة الحدود المفتوحة، أي الهجرة غير الشرعية، هي القضية الأكثر شيوعاً بنسبة 19 في المئة.
ومن المؤكد أن الارتفاع الأخير في عدد المهاجرين على الحدود الأميركية- المكسيكية في براونزفيل، تكساس، الأمر الذي كاد يقود - وربما سيفعل في المدى المنظور – إلى مواجهة ترقى إلى حد صراع أهلي، كان أحد أسباب تراجع حظوظ بايدن، لا سيما لدى الناخب اليميني الأبيض الذي يخشى على مستقبل نوعه في الداخل الأميركي.
على الجانب الآخر يتساءل المراقبون: "هل سيوفي الحظ لترمب، الرجل الذي ينادي بجعل أميركا أمة أفضل وأمة عظيمة من جديد، وفي مقدمة خططه وقف تدفق المهاجرين غير النظاميين على البلاد"؟
لم تكن الهجرة أولوية قصوى بالنسبة للناخبين في الآونة الأخيرة، بما في ذلك خلال انتخابات 2022، عندما أظهرت استطلاعات الرأي الوطنية أن نسباً صغيرة من الناخبين ذكرت أن حماية حقوق المهاجرين (7 في المئة) أو أمن الحدود ( 16 في المئة)، كانت من أهم القضايا بالنسبة للناخبين.
مع ذلك فمن المؤكد أن هذه القضية سوف تكون في مقدمة معايير الاختيار بين المرشحين في نوفمبر المقبل.
هنا يبدو جلياً للعيان أن حملة ترمب ليست غريبة على حشد الناخبين من خلال الحديث المتشدد حول إنفاذ الحدود والتشهير بالمهاجرين، فقد باتت قضية الهجرة ركناً أصيلاً في برنامجه الانتخابي، مع التركيز على جزئية الترحيل حال انتخابه كما يعد متابعيه، حيث يتحدث عن إطلاق أكبر عملية ترحيل في تاريخ البلاد، وذلك عبر استخدام الجيش لاعتقال المهاجرين غير الشرعيين في معسكرات ترحيل واسعة النطاق يتم تصميمها على غرار حملة عملية "ويتباك" التي جرت وقائعها خلال رئاسة أيزنهاور، وأدت إلى ترحيل الآلاف من اللاتينيين غير الشرعيين.
هنا التساؤل: "هل سيؤدي دور ترمب في فشل مشروع قانون الهجرة إلى تغيير مواقف الناخبين"؟
في الواقع ، فإن مبرر ترمب لرفض مشروع القانون الذي قدمه الحزبان هو أنه ليس قاسياً بما فيه الكفاية، وهو ما برره بقوله: "لا أعتقد أننا يجب أن نبرم صفقة حدود على الإطلاق، ما لم نحصل على كل ما نحتاجه لوقف غزو الملايين والملايين من الناس".
وفي الخلاصة، تبدو الولايات المتحدة الأميركية بالفعل أمام اختبار مصيري، اختبار يتعلق بمستقبلها القاري والإمبراطوراي، حيث أزمة "الشتاء الديموغرافي"، تخيم عليها، كما تفعل مع العديد من الأمم حول العالم، ولهذا فهي أمام اختيار من اثنين، فإما أن تعيد فتح قلبها وعقلها للمزيد من المهاجرين من أنحاء العالم، لضمان جريان الحياة في شرايينها السكانية، أو أنها تغلق الأبواب في وجههم، ومن غير أدنى قدرة على الإنجاب تعوض النقص.
ما الذي ستختاره أميركا؟ الليالي حبلى بالمفاجآت.