نظرة دهشة واستهجان، تلك التي اعتلت وجه الحاج الثمانيني أبو معلا، الذي تفاجأ بأن عقد قران حفيدته نور سيُكتب داخل المحكمة الشرعية في محافظة رام الله والبيرة على يد مأذونة وليس مأذون، كما جرت العادة لسنوات طويلة. جد العروس الذي أبدى امتعاضه في البداية، قبل بعدها وعلى مضض، أن يردد الكلمات المعهودة في عقود الزواج، وراء السيدة تحرير حماد (34 سنة) التي تشغل منصب "مأذونة شرعية" منذ عام 2015، وهي أول امرأة فلسطينية تأخذ هذا المنصب بقرار من قاضي قضاة فلسطين.
أول مأذونة في فلسطين
حماد المأذونة الشرعية الحاصلة على درجة الماجستير في الدراسات الإسلامية المعاصرة، قالت لـ "اندبندنت عربية"، "خضت هذا المجال ليس فقط من أجل كسر بعض القيود الموضوعة على عمل المرأة، بل لأثبت أن المرأة الفلسطينية بإمكانها التفوق والإبداع بأي منصب كان، خصوصاً أنه لا يزال حكراً على الرجال. في البداية تعرضت لكثير من التساؤلات والانتقادات، فصورة المأذون في بلادنا العربية مرتبطة بالشيخ المسن أو الملتحي بعمامته الحمراء وعباءة فضفاضة طويلة، ويتقن فن الخطابة، اليوم نحن نتحدث عن تجارب نسائية ناجحة جداً في عالم القضاء الشرعي. وبحسب القانون الفلسطيني، فإن تبوؤ المناصب والوظائف العامة يكون على قاعدة تكافؤ الفرص، وإن استلام المرأة لهذه المناصب مفتوح ومتحقق في المجالات الطبية والاقتصادية والعسكرية كافة، وحتى على مستوى المحافظين والقضاة في مختلف الدرجات".
عقبات دفعتها للنجاح
وبداية توليها منصب المأذونة الشرعية في الضفة الغربية، تعرضت تحرير لكثير من العقبات، حتى أنها واجهت رفضاً من قبل زوجين، أحدهما لم يكن لديه أي مبرر سوى أنه يرفض أن تعقد زواجه سيّدة، تُكمل حماد رواية تجربتها الخاصة "منذ أن توليت منصب المأذونة بارك لي الجميع ورحبوا بالفكرة الجديدة، حتى أن عائلتي وأقاربي احتفلوا بي ليلة إعلاني أول مأذونة شرعية في فلسطين، لكن هناك فئة لا بأس بها من الناس لا تزال حتى اليوم ترفض الفكرة جملة وتفصيلاً، إذا إن البعض يقول لي "كيف ستعقدين عقد زواج إذا كنت معذورة (فترة الحيض)، وكيف ستضعين يدك بيد والد العريس أو العروس أثناء العقد؟ المفهوم الخاطئ لطبيعة عمل المأذون هو ما يخلق تلك التساؤلات، فما نراه في التلفاز من مسك الأيدي في عقود الزواج ليس موجوداً في فلسطين، ولا داعي أصلاً لهذه العادة، إضافة لذلك فإن آيات القرآن التي أتلوها خلال عقد الزواج أحفظها عن ظهر قلب، ولا ضرورة لأن أمسك المصحف. كذلك يحتج بعض المعارضين المتشددين بالحديث الشريف (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) كدليل على عدم مشروعية عملي، لكن هذا الحديث يتكلم عن الولاية العامة بينما عملي لا يتجاوز توثيق وتوقيع العقود. والبعض الآخر يعتبر أنه لا يجوز لي أن أخرج خارج المحكمة (لعقد القران في البيوت) من دون محرم، استناداً للحديث الشريف (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها حرمة)، وذلك مردود عليهم لأنني أعمل ضمن نطاق مدينة رام الله وسط الضفة الغربية، وأبعد قرية فيها لا تبعد عني أكثر من ساعة".
لا موانع شرعية
وبحسب ديوان قاضي القضاة في الضفة الغربية، فإن مجموع المتقدمين للعمل كمأذون شرعي لدى المحاكم الشرعية عام 2019 بلغ 75 متقدماً، منهم سبع إناث.
القاضي عبدالله حرب رئيس هيئة التفتيش القضائي ورئيس لجنة المأذونين في الضفة الغربية، تحدث لـ "اندبندنت عربية" عن الشروط التي يجب أن تتوافر في المأذون الشرعي، بحسب تعليمات تنظيم عمل المأذونين عام 1987، مؤكداً أنه "يجب أن يكون فلسطيني الجنسية حاصلاً على إجازة في العلوم الشرعية وحسن السيرة والسلوك ويتمتع بسمعة حسنة".
وتابع "تميزت المحاكم الشرعية الفلسطينية دائماً بإعطاء الفرص للنساء، إذ جرى تعيين مأذونات شرعيات إلى جانب تعيين القاضيات. فقانون تشكيل المحاكم الشرعية وكذلك التعديلات القانونية والترقيات، لم تقتصر تقليد منصب القاضي أو المأذون الشرعي على الذكور فقط، إذ لا يوجد أي تمييز بين الرجال والنساء في هذه المجالات".
مؤيدون ومعارضون
فلسطين ليست البلد الوحيد الذي سمح للنساء بدخول مهنة "المأذونة الشرعية"، فقد سبقتها في ذلك دول عربية كتونس ومصر والإمارات، ولحقها المغرب عام 2018، وكوكبة من النساء الفلسطينيات لحقن حماد في جرأتها، وتمكّن بعد اجتيازهن درجة الماجستير في القضاء الشرعي، من اختراق عالم المأذون، الذي طالما احتكره الرجال، فأصبحن مأذونات شرعيات في شمال الضفة الغربية وجنوبها يوثقن العقود ويبرمن الزيجات بكل ثقة، وقد بلغ عددهن 15. ولا يخلو انفتاح المرأة على المناصب التي ظلت حكراً على الرجال من الجدل المتواصل، فإذا كان البعض يؤيد "المأذونة الشرعية" ويعتبرها نموذجاً للارتقاء، هناك من يعارض ذلك ويعتبرها مخالفة للشرع والعادات والتقاليد.
من جهته، يقول حافظ حميض (57 سنة)، "لا يمكن أن أستسيغ فكرة وجود امرأة بين الرجال تعقد الزواج، فليس من عاداتنا ولا تقاليدنا أن تقوم المرأة بهذا العمل، وعملُ المرأة كمأذونٍ شرعيٍ لا بدَّ فيه من النظر إليها باستمرار، بالتالي لا يمكننا غض البصر الذي أمرنا الإسلام به تجاه المرأة الأجنبية (من غير المحارم)".
أما الشاب عدي محمد (29 سنة) فيقول، إن "الموضوع بالنسبة لي لا علاقة له في الشرع أو القانون، فعقد الزواج يكون في المنازل أحياناً كثيرة بما يعرف بـ (الجاهه أو العطوة)، ولا بدَّ من اختلاطها بالرجال وحضور مجالسهم والكلام معهم، ما قد يسبب لها حرجاً في دينها وأخلاقها".
بينما ترى كوثر رزق "ألا مشكلة أبداً في تولي النساء مناصب قيادية كمستشارة وقاضية ومأذونة شرعية، وهذا التطّور من شأنه رفع مستوى المرأة الفلسطينية ويكشف عن قدراتها الكامنة، لكنها بكل الأحوال ستواجه عقبات خلال أداء عملها في مجتمعاتنا الذكورية، التي لا تتقبل أي تطور يخرج عن العادات والتقاليد".