Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"فلسفة الأسطورة" لشيلنغ: التفكير العقلاني ولد من رحم الخيال والعواطف

في البدء كان تاريخاً للذات والتقاطاً لمعاني الكينونة ووجود البشر في رحاب الكون الفسيح

فريدريخ شيلنغ (1775 – 1854) (غيتي)

ملخص

كتاب فريدريخ شيلنغ "فلسفة الأسطورة واحد من أشهر الأعمال التي كتبت حول شعور الإنسان منذ البدء، بحاجته إلى اختراع الأسطورة وجعلها جزءاً أساسياً من حياته

هناك فارق كبير بين أن يخترع الإنسان الأسطورة ويصدقها ويحكيها، وبين أن يعي دلالاتها. ولئن كان الإنسان عاش الأسطورة منذ بدء وعيه، فإنه احتاج إلى زمن طويل قبل أن ينتقل إلى عملية تحليل الأسطورة وإدراك جذور ابتكاره لها. وهو إذ أدرك هذا، من طريق الشعراء ثم الفلاسفة لاحقاً، اكتشف أنه إنما كان، من دون وعي واضح منه، يؤرخ في الأسطورة لنفسه ولكينونته ولوجوده في الكون. وضمن هذا الإطار، صحيح أن وعي الأسطورة بدأ باكراً، مع الفكر الإغريقي على الأقل، لكن الأصح أن منهجة هذا الوعي وربطه، نهائياً، بتاريخ الوعي والتجربة الإنسانيين، وصلا إلى الذروة ابتداء من عصر النهضة الأوروبية، وصولاً إلى عصر التنوير، حيث أفرد الفلاسفة لهذا الموضوع، مؤلفات كثيرة ومهمة، ربما كان من أبرزها كتاب "فلسفة الأسطورة" للألماني فريدريخ شيلنغ.

الحاجة أم الاختراع

كتاب شيلنغ هذا، ليس الأشهر بين أعمال هذا الفيلسوف والكاتب الألماني الكبير وحسب، بل هو واحد من أشهر الأعمال التي كتبت حول فلسفة الأسطورة، وتحديداً حول شعور الإنسان، منذ البدء، بحاجته إلى اختراع الأسطورة وجعلها جزءاً أساسياً من حياته. فمنذ بداية الوعي الإنساني، وقبل أن يخترع العقل البشري أي شيء آخر، بل قبل أن يصل إلى أي أفكار أخرى بما في ذلك الأفكار الدينية، اخترع الإنسان الحكاية التي كانت هي هي الأسطورة في البداية. وعلى مر الزمن طوَّر الإنسان علاقته بالأسطورة، التي سرعان ما أصبحت جزءاً أساسياً من تاريخ الوعي الإنساني، وتعبيراً عن توق الإنسان، قبل أن يتفلسف مع الإغريقيين، إلى طرح أسئلته على وجوده في هذا الكون، كما على سر هذا الوجود، ولكن خاصة على سر القوى التي ساوره، منذ البداية، شعور حاد بأنها تُسير هذا الوجود. ومن البديهي أن بحث الإنسان عن معنى الأسطورة تأخر كثيراً عن الزمن الذي وجدت فيه الأسطورة نفسها، ولكن من الواضح أن الأسئلة عن الأسطورة طرحت منذ زمن بعيد، أي قبل شيلنغ وغيره. أما ما قام به هؤلاء فإنما كان فلسفة الأسطورة وربطها بوعي الإنسان ومن ثم منهجة تاريخها كجزء أساسي من أجزاء الوعي الإنساني، إذ تحول الإنسان إلى إنسان واع. وفي هذا الإطار ربما كان كتاب شيلنغ الذي نتناوله هنا، واحداً من الكتب الأساسية، ذلك أنه ربط الأسطورة بالتاريخ، وتحديداً بتاريخ الإنسان رباطاً لم يعد له من بعده انفصام.

جمهور غفير من الحضور

غير أن شيلنغ لم يضع كتابه أصلاً في شكل نص منساب ذي وحدة عضوية واضحة، بل إن أصله كان مجموعة محاضرات ألقاها على جمهور عام في برلين، مرة عام 1842 ومرة أخرى بين عامي 1845 و1846، وكان في ذلك الحين قد بلغ من الشهرة ما جعل جمهوراً غفيراً يقبل على محاضراته ويناقشه. وإذا  كان شيلنغ في كثير من محاضراته الأخرى قد جابه من قارعه حجة بحجة، فإنه في هذه المحاضرات التي تتعلق بالأسطورة وتاريخها وفلسفتها، ظل سيداً متماسكاً لا يكاد يبدو أحد قادراً على محاججته، إلى درجة أن بعض المتشيعين له، في ذلك الحين، أكد أنه قال الكلمة الفصل في ذلك المجال الذي كانت منهجته أمراً جديداً، وإن لم يكن جديداً التطرق إليه كما أشرنا. فكيف منهج شيلنغ موضوعه؟ كيف حدد فلسفة التاريخ والأسطورة كعنصرين متكاملين؟ في الشكل الذي أخذته المحاضرات حين نشرت في كتاب لاحقاً، صار العمل قسمين، أولهما عن "التوحيد" ويشكل نوعاً من مقدمة فلسفية ثاقبة تمهد للجزء الثاني الذي سيكون هو الأساس في مجال بحث فلسفة الأساطير.

بدلاً من الصورة السائدة

وفي الجزء الثاني هذا، بدأ شيلنغ بتأكيد أن الأسطورة، لكي "تخدم كأساس للوصول إلى فلسفة حقيقية" يجب عليها "أن تكون شيئاً آخر غير الصورة السائدة: أي شيء آخر غير ذلك التتابع القصصي: عليها أن تحتوي على حقيقة خاصة بها". وهذه الحقيقة تكمن، في نظر شيلنغ "في واقع أن الأساطير هي في الأصل سيرورة إلهية - كونية تتحقق داخل الوعي البشري لا خارجه. ومبادئ السيرورة هي نفسها مبادئ الكينونة والصيرورة" بمعنى أن ما نحن في صدده هنا إنما هو "سيرورة تطور العالم الشاملة والمطلقة". ومن هنا يرى شيلنغ أن أي مسلمة فلسفية اختزالية (أو استنباطية، إذ ثمة هنا شيء من التباس المصطلح) تقوم انطلاقاً من مختلف الابتكارات الأسطورية التي توصل إليها الوعي الإنساني، إنما هي تصور الخالق بوصفه إلهاً واحداً، أي إلهاً منطلقاً في ذاته، وإن كان الوعي البشري قد وصل إلى هذا من طريق أشكال وأساليب متنوعة. إن الخالق، تبعاً لهذا التصور، قوة الكينونة، الكينونة المطلقة، التموضع الذاتي للكينونة (الروح)، أو إنه يمثل التوليف بين هذه الأبعاد الثلاثة". ويرى شيلنغ أنه من أجل الوصول إلى هذه الكينونة وهي في خضم الفعل، يتوجب أن يكون ثمة فعل، هو فعل الإرادة الإلهية: "إن الخالق هو الذي يريد، هو الإرادة، إرادة الكينونة". وهذه الإرادة تتجلى من طريق سيرورة خلاقة لها امتداداتها في الوعي البشري. وانطلاقاً من هنا يرى شيلنغ أن عملية الخلق الذاتي المتواصلة هذه، هي التي يدركها الوعي الإنساني على شكل أساطير.

في انتظار الأديان التوحيدية

وإذ يتوصل شيلنغ إلى هذا، ينتقل إلى الحديث (التاريخي أكثر منه فلسفياً) عن آلهة اليونان والرومان والهندوس القديمة، السابقة على الأديان التوحيدية، في فصول يرى الباحثون المفسرون لأعمال شيلنغ أنها تنتمي إلى التاريخ الخالص، أو إلى تاريخ الحضارات، أكثر من انتمائها إلى الفلسفة أو حتى إلى تاريخ الفلسفة أو فلسفة الأساطير. ويرى هؤلاء الباحثون أن هذا الجزء من كتاب شيلنغ، هو الجزء الأضعف وإن كان الجزء الأقل إثارة للسجال.

 أما الجزء الأهم فهو ذلك الأول الذي يتوقف فيه شيلنغ مطولاً عند العلاقة الثلاثية بين إدراك وحدانية الله وإرادته من جهة، والأسطورة من جهة ثانية، والوعي الإنساني من جهة ثالثة، إذ هنا تمكن شيلنغ، وفق باحثيه، من أن يقدم "أوفى محاولة لتحديد المبدأ التأملي القادر على أن يجمع في قانون واحد، تطور مختلف الأشكال التي تمكنت التجربة الإنسانية عبرها من إخفاء نزعة موضوعية محولة تاريخها وتاريخ وعيها إلى تصورات ومفاهيم فلسفية وألوهية، من طريق تتبع مسار الأسطورة وعلاقتها بالوعي الإنساني الناتج عن تلك التجربة". ويضيف المفكر المصري الراحل عبدالرحمن بدوي إلى هذا، أن شيلنغ إنما بدأ بحثه كله، عبر طرحه ثلاثة أسئلة "هي التي تخطر ببال الإنسان العادي حين يجد نفسه في إزاء الأساطير: كيف ينبغي أن تفهم، ما معناها، وكيف حدثت؟".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الفلسفة كما مارسها مراهق

ويرى بدوي نفسه أن اهتمام شيلنغ بالأساطير قد بدأ في مطلع شبابه، بل حتى في سن مراهقته، هو الذي كتب وكان بعد في الـ17 من عمره، بحثاً بعنوان "بحث في تفسير نقدي وفلسفي في أقدم نظرية متعلقة بنشأة الشرور الإنسانية". ومن المؤكد أن هذا كان، على أي حال، أول نص متكامل كتبه هذا الفيلسوف الذي كان يعتبر من غلاة المثاليين في الفكر التنويري. وقد ولد فردريخ فلهلم شيلنغ عام 1775 في مقاطعة فورتنبرغ في الجنوب الغربي الألماني، ابناً لشماس وعالم لاهوت كان ضليعاً في اللغات الشرقية. وقد التحق الفتى وهو في الـ15 بجامعة توبنغن حيث درس الفلسفة ثم اللاهوت طوال خمس أعوام. وهناك تعرف بالشاعر هولدرلن والفيلسوف هيغل اللذين كان لهما تأثير كبير في أفكاره وحياته. عام 1798 عين شيلنغ في جامعة يينا التي بقي فيها أربع أعوام أستاذاً للفلسفة، وهناك التقى غوته والأخوين شليغل وبدأ يضع أسس مذهبه الفلسفي، كما بدأ ينشر كتبه الكبرى، ومعظمها يتابع فيه أستاذه الكبير هيغل، ومنها "روح العالم"، و"استعراض التجريبية الفلسفية"، و"أفكار من أجل فلسفة الطبيعة"، و"فلسفة الوحي"، و"فلسفة الدين"، و"منظومة المثالية التجاوزية"... وقد مات شيلنغ عام 1854 بعد أن قضى معظم حياته في التأليف والعمل الجامعي، واضطرته بعض المضايقات إلى الاعتزال خلال السنوات الأخيرة من حياته.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة