Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غزة قبل النكبة... مصور أرميني يستكشف وجوهها

كيغام دجيغاليان أنشأ أول استوديو للتصوير الفوتوغرافي في القطاع مطلع أربعينيات القرن الماضي وأصبح أرشيفه بمثابة الوثائق

كيغام من أمام استوديو التصوير الخاص به في غزة (مواقع التواصل)

ملخص

لم يخطر ببال كيغام أن هذه الصور التي التقطها على مدى سنوات ستصبح بمثابة وثائق تاريخية وستتحول إلى واحدة من أهم مصادر التأريخ للمدينة المتوسطية.

شاب أرميني عاش في فلسطين، يهوى التصوير الفوتوغرافي وتعلمه ليتوجه من القدس محل إقامته، التي كانت تضم جالية أرمينية كبيرة في الماضي، إلى غزة المدينة الساحلية الهادئة القابعة على شاطئ المتوسط، إذ افتتح أول استوديو للتصوير الفوتوغرافي بالمدينة في عام 1944، إنه كيغام دجيغاليان.
ينتمي كيغام لعائلة من الأرمن، ولد في الأناضول، وفر مع والدته عندما كان طفلاً، من مذابح الأرمن التي وقعت بتركيا في عام 1915، ليتوجها إلى سوريا ومنها إلى فلسطين.
ما قبل افتتاح "فوتو كيغام" الذي أصبح لاحقاً من علامات المدينة، كان التصوير الفوتوغرافي حكراً على طبقة محدودة من العائلات الأكثر ثراءً في غزة، التي تستطيع وحدها الحصول على كاميرات التصوير التي لم تكن شائعة ومتداولة خلال هذه الفترة.
ولكن كيغام نجح في جعل التصوير متاحاً لعموم أهل غزة الذين توافدوا لالتقاط الصور الشخصية والعائلية، وفي الوقت ذاته انطلق حاملاً كاميراته إلى فضاء غزة الواسع ليوثق جزءاً مهماً من تراث المدينة ومعالمها وثقافة أهلها. لم يخطر بباله وقتها أن هذه الصور المتفرقة التي التقطها على مدى سنوات ستصبح بمثابة وثائق تاريخية وستتحول لواحدة من أهم مصادر التأريخ للمدينة التي تغير حالها وتبدلت معالمها عن غزة الجميلة الظاهرة في الصور.
ظهرت غزة في صور كيغام كمدينة ساحلية على شاطئ المتوسط يعيش أهلها في هدوء وسلام، ويرتادون الشواطئ، ويحضر بعضهم الحفلات الموسيقية التي كان تقيمها أوركسترات عالمية ويحضر إليها كبار الفنانين. وظهر ميناء غزة كنقطة تجارية مهمة للتصدير والاستيراد، وبخاصة تصدير البرتقال الذي تشتهر به فلسطين. كما وثقت الصور مطار غزة والسكة الحديد التي كانت تمتد إلى مصر.
جزء من أرشيف كيغام عرض أخيراً في القاهرة بالمركز الثقافي الفرنسي ليقف بعض الناس وبخاصة من الأجيال الصغيرة مشدوهين أمام بعض الصور متسائلين هل هذه حقاً غزة؟

كيغام فتح الصندوق

رحل كيغام دجيغاليان في عام 1981 ولعشرات السنوات ظل إنتاجه محفوظاً ولم يتم الاطلاع عليه، إلى أن وجدت أسرته منذ سنوات عدة، مجموعة صناديق مغلقة تحوي صور ونيغاتيف الأفلام وألبومات قديمة. كانت هذه الصناديق بمثابة كنز إذ توثق جزءاً مهماً من تاريخ غزة بقي محفوظاً لعشرات السنوات، منذ رحيل صاحبها. وبدأت الأسرة بفرز الصور التي عرض جزء منها أخيراً في المعرض الذي حمل اسم "كيغام فتح الصندوق".

مصور غزة الأول

حياة كيغام وقصة استوديو التصوير الوحيد في غزة، بمرحلة ما قبل النكبة، أثارت اهتمام المخرجة الفلسطينية مروة جبارة الطيبي لتبدأ رحلة بحث لتتبع مسيرة كيغام والبحث عن أرشيفه لتحكي تاريخه في فيلم قصير بعنوان "كيغام مصور غزة الأول".
وتقول الطيبي إن "صور كيغام تعد الأهم في ما يتعلق بغزة لامتدادها لفترة طويلة، فمنذ مطلع الأربعينيات مروراً بأحداث النكبة والنكسة والتهجير والنزوح وتغير معالم المدينة واختلاف أحوال الناس تشكل هذه الصور دليلاً دامغاً على واقع غزة قبل الاحتلال، فما يحدث حالياً ومنذ سنوات هو نوع من أنواع الإبادة الثقافية، والصور المعروضة في الفيلم تشير إلى كثير من الأماكن التي دمرت تماماً ولم يعد لها وجود. وتغيرت ملامح المدينة تماماً بفعل الاحتلال".
وتضيف المخرجة الفلسطينية "كثير من الناس شعروا باستغراب شديد عندما شاهدوا ضمن مجموعة صور كيغام في غزة صوراً لأرنستو غيفارا، وجان بول سارتر، والرئيس المصري السابق محمد نجيب، ورئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو، وغيرهم كثير من الشخصيات العامة من كل أنحاء العالم. وفي الوقت ذاته ظهرت مظاهر الحياة الاجتماعية والعائلات على الشواطئ، وبعض الصور لا يوجد مثيل لها إلا في أرشيف كيغام، ومنها صور نادرة جداً لانسحاب الإسرائيليين من غزة بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، تشكل الدليل البصري الوحيد على هذا الحدث، والتقطها كيغام من خيمة أحدث بها ثقباً وضع فيه الكاميرا".


حارس الأرشيف

على امتداد مسيرة "استوديو كيغام" في غزة عمل معه أحد أبناء المدينة وهو موريس ترزي منذ ستينيات القرن الماضي، إذ تعلم منه أسرار التصوير الفوتوغرافي والتحميض وكل التقنيات التي كانت مستخدمة حينها؟ ولاحقاً بعد رحيل كيغام أدار ترزي استوديو التصوير الذي تعلم فيه وكان جزءاً من مسيرته المهنية. واحتفظ مروان ترزي، شقيق موريس الأصغر، بجزء كبير من أرشيف كيغام الذي بقي في استوديو التصوير بعد رحيل أسرة كيغام عن غزة.
تقول مروة الطيبي "يمكن القول إن مروان ترزي هو حارس أرشيف كيغام على مدى ما يقارب 40 سنة، بقي محتفظاً به خلالها في صناديق مغلقة. ومن المفارقات أن مروان ترزي قتل في أحداث غزة الأخيرة حيث ترك منزله بعد طلب إسرائيل إخلاء منطقتهم السكنية، ليتوجه بصحبة عائلته إلى كنيسة الروم الأرثوذوكس للاحتماء بها، لكن إسرائيل قصفتها لاحقاً، ليقتل مروان ترزي وأفراد من عائلته. كما قصف منزل مروان ترزي الذي كان يضم الأرشيف وجرى تدميره".
وتضيف "نجا ابن مروان، سامي ترزي من القصف، ولمعرفته بقيمة هذا الأرشيف وأهميته، توجه للبحث بين أنقاض المنزل واستطاع إنقاذ ما يقارب نصف المجموعة التي كان يحتفظ بها والده الراحل. لكن هناك مجموعات فقدت بالفعل جراء قصف منزل عائلة الترزي".
وتتابع "هذه المجموعات يجب أن تكون تحت حماية مؤسسات ولا تترك بهذا الوضع حتى لا تفقد أجزاء منها مثلما حدث مع كيغام. ولا بد من تحويلها إلى صور رقمية ليسهل حفظها وتداولها ولا تكون عرضة للضياع".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


قوة الأرشيف الشعبي

توثق صور كيغام دجيغاليان المرحلة الممتدة منذ بداية الأربعينيات وحتى نهاية السبعينيات، وهي بلا شك فترة فاصلة وزاخرة بالأحداث عند الحديث عن القضية الفلسطينية، فمع النكبة وما تلاها من أحداث، ظهر الفارق جلياً في صور كيغام، فشواطئ غزة التي كانت تعج بالعائلات التي تستمتع بأجواء الشاطئ الساحر، صارت تمتلئ بالمخيمات التي أقام فيها النازحون الفلسطينيون القادمون من بلدات فلسطينية متعددة إلى مخيم الشاطئ الذي تم إنشاؤه وقتها، ليختلف المشهد كلياً وتبدأ غزة حقبة جديدة.
يظهر ذلك قوة وأهمية ما يمكن أن يطلق عليه الأرشيف الشعبي فهو يقدم الرواية الحقيقية بعيداً من التحيزات التي يمكن أن تنقلها الروايات الرسمية أو التي ترغب إسرائيل في تصديرها للعالم باعتبارها الحقيقة.
ويرى المستشار الثقافي لسفارة فلسطين بالقاهرة، ناجي الناجي، أن "هناك انطباعاً ظالماً وصورة نمطية عن غزة عند قطاع عريض من الناس في العالم كله، فهم لا يعرفون سوى غزة التي تقدمها نشرات الأخبار وهي بنظرهم المدينة الصامدة التي تحاول النجاة وتعاني ويلات الحرب والقصف والدمار، ولكن الحقيقة أن هذه الأزمة بدأت مع النكبة عام 1948 بينما قبل ذلك كانت غزة واحدة من أهم وأجمل المدن العربية وكانت أحد منابر الحضارة في المنطقة". ويضيف "ربما لا يعرف كثر من الناس أن غزة كانت ملتقى ثقافياً وفنياً وكان بها حركة أدبية راقية، وقد لا يعرف كثر أن السيدة أم كلثوم والموسيقار محمد عبدالوهاب أحييا حفلات غنائية في غزة، وقدمت إليها فرق مسرحية ليوسف وهبي وغيره من الفنانين. ما تظهره صور كيغام يعكس هذا المفهوم لأنه يقدم غزة كمجتمع متحضر راق ويعرض صوراً للحياة الاجتماعية والعائلات والآثار والشواطئ، فغزة كانت نموذجاً للانفتاح والتواصل الحضاري، والدليل الأكبر على ذلك هو كيغام نفسه المصور الأرميني الذي عاش فيها وتفاعل مع أهلها وأصبح لاحقاً واحداً من أهم من وثقوا هذه الفترة".

ما بين النكبة والنكسة

عند الحديث عن غزة فإن أحداث نكسة يونيو (حزيران) 1967 تعد حدثاً فاصلاً لا يقل عن النكبة، فاستيلاء إسرائيل على الضفة الغربية وقطاع غزة بدأ معه فصل جديد من عمر القضية امتد إلى يومنا هذا. ويشير الناجي إلى أن "المتأمل في صور كيغام على امتداد مشواره يمكنه أن يلاحظ الفارق الكبير بين المراحل الزمنية المختلفة فصور ما قبل النكبة كانت تعيش فيها العائلات الغزاوية في استقرار وأمان، وغزة تعج بالنشاطات الفنية والثقافية. أما صور ما بعد 1948 فشهدت تغير الأوضاع وبدأت الأزمة وبدأت مشاهد المخيمات والنزوح. من المشاهد الجديرة بالملاحظة أيضاً هي مرحلة ما بعد النكسة في عام 1967 حين ظهر الهم على الوجوه بعدما أصبح الناس لاجئين في وطنهم، وأصبح الشعب الفلسطيني لا يمتلك مقدراته". ويضيف أن "الحرب الدائرة حالياً هدفها قتل الذاكرة ومحو الهوية ومن هنا تأتي أهمية مثل هذه الأرشيفات، فالصورة نجت والذاكرة ستبقى وسيسلمها جيل لآخر حتى تبقى روايتنا وتنتهي أسطورتهم".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات