ملخص
عندما أنجز السينمائي الكندي ديفيد كروننبرغ فيلم "اصطدام" عن رواية الكاتب الإنجليزي ج ج بالارد، كان الوقت قد فات لمعرف رأي المؤلف فيه، فقد رحل قبل إنجاز كروننبرغ فيلمه بأسابيع قليلة من دون أن يسمع بأن نقاد السينما اعتبروه واحداً من أقوى أفلام المخرج
لم يستغرب أحد أن يقتبس السينمائي الكندي ديفيد كروننبرغ، الذي كان قد بدأ يتحول هوليوودياً في ذلك الحين، رواية "اصطدام" للكاتب الإنجليزي ج ج بالارد في عام 1996 في فيلم جديد له وذلك لسبب بسيط للغاية، يمكن على أية حال إضافته إلى أن كروننبرغ عرف منذ بدايته باللجوء إلى روايات الحداثة لتحقيق سينماه انطلاقاً من تحفها. فكروننبرغ الذي سيقول دائماً إنه قرأ تلك الرواية باكراً وتأثر بها في مجمل عمله السينمائي من ناحية تركيز كاتبها على موضوعة العلاقة بين الجسد الإنساني وتقنيات ومواد الحداثة، ولكن ليس من منطلق الخيال العلمي الذي ربط به أدب بالارد دائماً، وإنما من منطلق فلسفي سيكولوجي هيمن دائماً على أفلامه ليصل إلى ذروته في فيلمه "سبايدر" بعدما كان قد اشتغل عليه بصورة لافتة حقاً في فيلم سابق له هو "إكزيستز" ("وجود" مع تحريف في استخدام حروف الكلمة). والحال أن تلك العلاقة الجسدية الفلسفية رافقت كروننبرغ منذ أفلامه الأولى ولا تزال تفعل حتى اليوم. غير أن مشاهدة ذلك المخرج الكندي فيلماً سابقاً حققه ستيفن سبيلبرغ عن رواية لبالارد "أوتو بيوغرافية" أي تنتمي إلى سيرة الكاتب الذاتية، هو "إمبراطورية الشمس" ردعه سنوات عن الدنو من "اصطدام" لمجرد أن فيلم سبيلبرغ حيره وتحديداً من ناحية تعاطيه مع بالارد نفسه. لقد خيل إليه أمام هذا الفيلم أن ثمة ازدواجية مرعبة لدى بالارد: حافلة بالبراءة الطفولية إذ تنهل من سيرة الطفل الذي كانه بالارد خلال الحرب العالمية الثانية من ناحية، وتغرق في انحراف مريع، إذ توصل علاقة الجسد بدمار صاحبه إلى ذروة في رواية اصطدام من ناحية ثانية.
رأي من وراء القبر
غير أن ذلك البعد النابذ سيكون هو أداته لخوض تجربة أفلمة تلك الرواية التي كان كروننبرغ يعرف أنه لم يكن الوحيد الذي تأثر بها إبداعياً، فهناك اليوم مبدعون كثر من روائيين وسينمائيين بل حتى رسامين لا يخفون أنهم إنما يبدعون "على طريقة بالارد". وهكذا ولد فيلم "اصطدام" الذي لن نعرف أبداً لسوء الحظ ما كان رأي صاحب الرواية فيه. فهو رحل عن عالمنا قبل إنجاز كروننبرغ فيلمه بأسابيع قليلة من دون أن يسمع بأن نقاد السينما اعتبروه واحداً من أقوى أفلام صاحب شرائط مثل "مستر باترفلاي" و"الحفل العاري" وغيرهما من أفلام شكل الجسد وتحولاته فيها تيمة جددت دماء السينما "الوقحة" والغرائبية في حد ذاتها والتي يتحول العنف فيها إلى مادة فلسفية (كما في "الذبابة" أو "فيديو دروم" وصولاً إلى "الطريق إلى النجوم" و"متروبوليس" ولكن بخاصة إلى "تاريخ من العنف" و"وعود شرقية"...). ومهما يكن من أمر هنا، حين رحل بالارد عن عالمنا كان يعرف أن كروننبرغ ينجز فيلمه وكان يبدو راضياً تماماً عن السيناريو الذي كان قرأه. بل كان يبتسم ويقول ما معناه: إذا كان سينمائيان كبيران في تناقضهما المطلق من طينة سبيلبرغ وكروننبرغ قد وجدا ما يهمهما من موقعيهما المختلفين تماماً، في رواياتي فهذا يرضيني تماماً". وبهذا الكلام لا شك أن ج ج بالارد قد سجل موقفاً شديد التفهم تجاه التعاطي السينمائي مع الأدب الروائي يتوافق مع موقف مواطنه ومجايله أنطوني بارغيس (الذي أشرنا إليه في مجال حديثنا في حلقة سابقة من هذه السلسلة عن ردود فعل أدبية تجاه سينما كوبريك). ولعل من الضروري هنا أن نتوقف عند فيلم "اصطدام" والعودة إلى الكيفية التي نظر بها مؤلف الرواية إلى روايته.
عنف وسوداوية وخيارات متنوعة
في البداية لا بد من الإشارة إلى أن رواية "اصطدام" التي صدرت للمرة الأولى عام 1973 تشكل القسم الثالث من "ثلاثية الباطون" التي تضم إليها "جزيرة الباطون" و"آي دجي أتش". وهي روايات مترابطة تتسم بقدر كبير من العنف والسوداوية أراد فيها بالارد أن يعبر عن العلاقات التي رصدها بين الجسد الإنساني وعالم التكنولوجيا والمعدن الأسمنتي السائد في المدن العملاقة المعاصرة. ولعل من اللافت أن بطل الرواية الرئيس وراويها يحمل اسم المؤلف نفسه، "بالارد" من دون أن يخبرنا بأنه هو الشخص نفسه، لكنه يخبرنا بأنه قد نجا من حادثة سير مريعة تعرض لها في الحزام الدائري لمدينة لندن وها هو ذا يتعرف بمصور يدعى فون يهتم بتصوير الضحايا الناجين مع عاهات وجراح وندوب تمزق الجسد بفعل حوادث سير من ذلك النوع. ويفتن فون ببالارد ليبدأ تجوالات مريعة تقوده إلى حيث تقع الحوادث الكبرى ويصورها بانبهار وشبق. وهكذا من طريق تلك العلاقة الجديدة بين فون وبالارد يتفاقم الانحراف الجسدي في تضافره مع الافتتان بالتكنولوجيا وبعالم الباطون، مما ينتج في نهاية الأمر واحدة من أجرأ التعبيرات الأدبية عن الترابط بين عالم الآلة والأجساد البشرية. والواقع أن ذلك كله يضعنا أمام رواية مقلقة عرف فيلم كروننبرغ كيف يؤفلمها بقوة ليبدو الأمر وكأن كل ما قدمه قبل ذلك من أفلام حول الموضوع نفسه لم يعد أن يكون مجرد تمارين في أفلمة لغة الجسد كان من الضروري أن توصله إلى هنا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تفاعل سابق لأوانه
ولقد فضل كروننبرغ على أية حال أن يستعين إذ تراكمت الأسئلة عليه حول مجمل تلك "المصادفات" التي جمعته بكتاب يلتقي تماماً مع تطلعاته الفكرية ليشكل نوعاً من جردة حساب بالنسبة إلى مساره الإبداعي نفسه، فضل أن يستعين بالكاتب نفسه ولو بعد رحيل هذا الأخير مذكراً بما كان قد قاله تعليقاً على تلقي روايته وكيف يتوقع أن يكون تلقي المشاهد السينمائي لها. فالحال أن بالارد قال ما معناه إنه اكتفى بأن يترك لقارئه عدداً كبيراً من إمكانات فهم ما يحدث في الرواية، "وهذا، كما أردف، على عكس ما يحدث في الرواية الكلاسيكية حيث يترك كل مشهد أو حدث للقارئ أن يخمن بكل وضوح، الموقف الأخلاقي أو السياسي أو الفلسفي الذي يتخذه المؤلف"، مضيفاً "أما في (اصطدام) فلقد حرصت على ألا أكون واضحاً ومن هنا تركت للقارئ جملة من الاختيارات التي يتعين عليه هو نفسه أن يختار من بينها. لذا أعتقد أن روايتي هذه إنما تشتغل انطلاقاً من ردود فعل القارئ على ما يقرأ ومن ثم أعتبرها رواية تفاعلية ربما تكون في هذا سابقة لأوانها". وإذ سئل بالارد هنا عما إذا كان كروننبرغ سيفعل نفس هذا الشيء في الفيلم - الذي لم يكن قد أنجزه بعد - أجاب "لست أدري تماماً وإن كنت أحدس من خلال معرفتي بأفلامه السابقة بأن هذا لن يكون صعباً عليه. فهو في نهاية الأمر أكثر مني انتماءً إلى الزمن التفاعلي. وأعتقد من ناحيتي أنه سيكون أقرب مني إلى مشاهدي الفيلم حين ينجزه، وفي الأقل بالنسبة إلى نقطة محددة قد أقف أمامها أنا حائراً. فأنا على سبيل المثال حين أحدد في أحد الاحتمالات المتعلقة بنهاية الأحداث، أن ثمة احتمالاً بأن نهاية العالم التي أقترحها ستكون عبر انفجار نووي يتعلق برؤية كيوم القيامة تترابط مع حوادث سير مذهلة، لا أفعل أكثر من تقديم واحد من الاقتراحات الممكنة لنهاية ما. أي أنني أورد هذا الاقتراح كمجرد فرضية قصوى فقط لأنه يبدو لي منضوياً في سياق الزمن الحاضر الذي تعيش فيه. وللمناسبة لا بد أن أقول إنني تعمدت في ذلك السياق المفترض نفسه أن أختصر إلى أدنى الحدود عدد الشخصيات ذات العلاقة بما تحكيه الرواية، وذلك لسبب ينطلق من قضية تشغل بالي في الآونة الأخيرة: قضية أن الكاتب بات لا يبدو لي مجبراً على إضافة مخيالات جديدة إلى هذا العالم الذي نعيش فيه، بل بات مجبراً على البحث عن أفضل السبل لتخفيض عدد وأهمية تلك المخيالات، وقد بات عليه بالأحرى أن يسعى إلى إجراء بحث منطقي يوصله في نهاية المطاف إلى العثور على الحد الملائم من عناصر الواقع التي تعقلن عمله في هذا الركام من المخيالات الذي يحيط به... بل بنا جميعاً".
الحلقة الثالثة: بورخيس "الضرير" يشاهد فيلمه