ملخص
يرى مراقبون أن الحديث عن انسحاب مصر من معاهدة السلام ليس منطقياً ويقفز إلى الحدود القصوى في رد الفعل
تطورات متلاحقة وتوتر متصاعد بشكل غير مسبوق بين مصر وإسرائيل للمرة الأولى منذ نحو 45 سنة، فمنذ مطلع مايو (أيار) الجاري تزداد ضغوط الأولى على الأخيرة لوقف عملياتها العسكرية في رفح بعد سيطرتها على معبر رفح الحدودي، المدخل الأساس للمساعدات الإنسانية لقطاع غزة الذي يعاني سكانه كارثة إنسانية جراء الحرب المشتعلة بين إسرائيل وحركة "حماس" منذ هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
منذ سيطرة إسرائيل على المعبر تأزمت الأمور بين البلدين، فرفضت مصر مقترحاً إسرائيلياً يقضي بالتنسيق المشترك لإعادة فتح المعبر وإدارة عملياته المستقبلية، إذ تصر القاهرة على أن المعبر يجب أن تديره سلطات فلسطينية فقط وفقاً لاتفاق عام 2005.
وسط جمود الموقف، إذ تعثرت المفاوضات الخاصة بالتوصل إلى هدنة لوقف إطلاق النار واستمرار العمليات الإسرائيلية "المحدودة" في رفح، أفادت وسائل إعلام أميركية بأن "مصر تدرس خفض العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل من خلال سحب سفير البلاد لدى تل أبيب".
التوترات القائمة بين القاهرة وتل أبيب بلغت أوجها حتى أن الصحف الإسرائيلية وصفت العلاقات بين البلدين بأنها في واد عميق، "فعلى رغم أنهم كانوا في وديان عميقة من قبل، ولكن بسبب المصالح المشتركة القوية كانوا دائماً يجدون طريقة للتنقل عبرها".
وينظر إلى سيطرة إسرائيل على معبر رفح على أنه انتهاك لاتفاق فيلادلفيا، الذي أضيف إلى معاهدة السلام بين البلدين عام 2005 بعد إخلاء المستوطنات الإسرائيلية في غزة، وكان الهدف منه تنظيم الحدود بين غزة ومصر. وقبل سيطرة إسرائيل على المعبر حذر المسؤولون المصريون علناً من أن أية خطوة من هذا القبيل تشكل خطاً أحمر من شأنه أن يعرض معاهدة السلام للخطر.
أوراق القاهرة
يقول مراقبون إن العملية الإسرائيلية التي بدأت في رفح خلال السابع مع مايو الجاري خلقت تهديدين لمصر، فثمة احتمال مؤكد بفرار اللاجئين الفلسطينيين إلى سيناء، وهو خط أحمر حددته القاهرة منذ بدء الحرب في أكتوبر 2023. كما أن مشاهد تفتيش المساعدات المصرية من الجنود الإسرائيليين عند معبر رفح ستكون بمثابة كابوس للمسؤولين المصريين. فاحتلال إسرائيل لمعبر رفح واللقطات التي تظهر مركبة مدرعة إسرائيلية وهي تلوح بعلم إسرائيلي عملاق على طول ممر فيلادلفيا كان مشهداً استفزازياً بشكل استثنائي أشعل وسائل التواصل الاجتماعي المصرية. ومن ثم اتخذت مصر نهجاً متسلسلاً من الضغط على إسرائيل لضمان استمرار تدفق المساعدات عبر المعابر البرية الأخرى، وفي الوقت نفسه تواصل اللعب بأوراقها الخاصة للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.
واحدة من الأوراق الأقوى لدى القاهرة، هو التلويح بالانسحاب من معاهدة السلام التي عقدتها مع إسرائيل قبل أكثر من أربعة عقود. ففي فبراير (شباط) الماضي نقلت وكالة "أسوشيتدبرس" الأميركية عن مسؤولين مصريين ودبلوماسي غربي قولهم إن مصر ربما تعلق العمل باتفاق السلام مع إسرائيل إذا ما أقدمت الأخيرة على اقتحام رفح، ومجدداً تم التلويح بالورقة نفسها مطلع مايو، إذ أفادت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية بأن المسؤولين المصريين أبلغوا مدير الاستخبارات الأميركية ويليام بيرنز خلال زيارته للقاهرة بضرورة ممارسة ضغوط جدية على إسرائيل وإجبارها على إنهاء عملية رفح والعودة للمفاوضات بجدية، أو أن القاهرة ستقدم على الانسحاب من معاهدة السلام.
هذه التوترات دفعت بتساؤلات واسعة في شأن جدية إقدام للقاهرة على تعليق معاهدة السلام، لكن السؤال نفسه يثير معه تساؤلات أخرى، وهو عما إذا كانت إسرائيل انتهكت بالفعل اتفاق السلام من خلال السيطرة على معبر رفح وإرسال قوات إلى محور صلاح الدين (فيلادلفيا) الفاصل بين مصر وقطاع غزة، وما أوراق الضغط التي بحوزة القاهرة لإثناء إسرائيل عن مواصلة عمليتها في رفح؟
على الجانب الرسمي كانت القاهرة واضحة وحاسمة في شأن الالتزام بمعاهدة السلام، فوزير الخارجية المصري سامح شكري صرح خلال مؤتمر صحافي في القاهرة مع نظيره السلوفيني في الـ12 من مايو، أن "السلام هو خيار مصر الاستراتيجي منذ 40 سنة ويمثل ركيزة استقرار في المنطقة"، وأشار إلى آليات قائمة للتعامل مع أي خروقات محتملة لاتفاق السلام، قائلاً إن الانتهاكات "تتم معالجتها في إطار لجنة الارتباط العسكري، ومستمرون في التعامل مع الموضوع من هذا المنظور".
حجر أساس لأمن المنطقة
ويرى المراقبون في القاهرة أن ما تنشره وسائل الإعلام من تصريحات على لسان مسؤولين غير معروفي الهوية لا يشكل الموقف الرسمي للقاهرة، معتبرين أن الحديث عن انسحاب مصر من معاهدة السلام أمر ليس منطقياً ويقفز إلى الحدود القصوى في رد الفعل.
ويقول المستشار بالأكاديمية العسكرية للدراسات العليا في مصر نصر سالم إن معاهدة السلام تشكل حجر أساس لأمن مصر وإسرائيل والمنطقة، ومن ثم فإنه لا أحد يرغب في تعليقها أو الانسحاب منها.
وأضاف أن "إلغاء المعاهدة يعني عدم وجود عتبة تمنعنا من الدخول في حرب"، وتساءل "لماذا علينا الذهاب بعيداً وتمزيق جميع الأوراق؟ هل الحرب (بين مصر وإسرائيل) ستحقق الأهداف السياسية التي نرغب فيها للفلسطينيين؟".
وذكر سالم أن الهدف الأساس لمصر حالياً هو وقف ما يحدث للفلسطينيين في غزة من إبادة جماعية وتحقيق السلام وإقامة دولة فلسطينية، بينما توسع الحرب لن يحقق هذه الأهداف، بل سيدخل مصر ودول المنطقة في دوامة تنتهي بمحاولة التوصل إلى السلام مجدداً. وأشار إلى أن ما تقوم به مصر حالياً هو تكثيف الضغوط عبر الأدوات الدبلوماسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح المراقبون الذين تحدثوا لـ"اندبندنت عربية" أن إسرائيل لم تنتهك معاهدة السلام مع مصر، كما أنها لم تحتل محور صلاح الدين المعروف بممر فيلادلفيا، وهو شريط بعرض 100 متر يمتد داخل قطاع غزة من البحر المتوسط شمالاً حتى معبر كرم أبو سالم جنوباً بطول الحدود مع مصر التي تبلغ نحو 14 كيلومتراً. ويقع محور صلاح الدين ضمن المنطقة "د" العازلة بموجب معاهدة السلام الموقعة بين البلدين عام 1979 التي تفرض قيوداً على عدد ونوعية الأسلحة والقوات المسموح بنشرها على محور صلاح الدين.
عندما انسحبت إسرائيل من قطاع غزة في عام 2005، وقعت تل أبيب والقاهرة على اتفاق فيلادلفيا "اتفاق المعابر"، الذي أنهى فعلياً سيطرة إسرائيل على الممر. ويسمح الاتفاق لمصر بنشر 750 من حرس الحدود على طول الجانب المصري من الممر لمنع التهريب إلى غزة، كما ينص اتفاق المعابر على أن الاتفاق يخضع بالكامل لأحكام معاهدة السلام لعام 1979.
وأوضح مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق حسين هريدي أنه وفقاً لملحق الدفاع الخاص بالمنطقة "د" فإنه ليس مسموحاً لإسرائيل بوجود أكثر من أربع كتائب مشاة داخل محور صلاح الذين، كما أنه لا يسمح لها بإدخال أسلحة ثقيلة أو طائرات إلى المنطقة، وإذا تجاوزت هذا تكون قامت بخرق اتفاق المعابر. ومع ذلك أوضح سالم أن التجاوز يتعلق بعودة سيطرة إسرائيل على معبر رفح الذي من المفترض وفقاً لنص اتفاق المعابر أن يخضع لسيطرة فلسطينية، ومن ثم فإن التعامل مع هذا التجاوز يخضع للآليات التي حددها اتفاق عام2005 وليس معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل.
استراتيجية الاحتواء
لدى مصر عديد من الأوراق الدبلوماسية للضغط على إسرائيل من أجل تعديل المسار والعودة لطاولة المفاوضات. ففي الـ12 مايو الجاري أعلنت القاهرة اعتزامها التدخل رسمياً لدعم الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، للنظر في "انتهاكات إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاق منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في قطاع غزة". وفي أعقاب القرار المصري، تقدمت أنقرة بطلب للانضمام للدعوى نفسها.
يقول الباحث المتخصص في الشأن الجيوسياسي والأمني لدى معهد تشاثام هاوس في لندن أحمد عبدالله إن مصر تتبنى ما يسميه المسؤولون في القاهرة استراتيجية "الاحتواء"، وتنطوي على تصعيد الضغوط الدولية على إسرائيل من خلال اشتراط إعادة فتح معبر رفح بانسحاب القوات الإسرائيلية من المنطقة وإعادة السيطرة على المعبر للفلسطينيين.
ويضيف أن القاهرة أظهرت جديتها الشهر الجاري بإعلانها أنها ستدعم قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل لدى محكمة العدل الدولية، مما قد يشجع مزيداً من الدول على الانضمام.
ويتابع أن المسؤولين المصريين يدركون أيضاً أنهم يحظون بدعم نظرائهم الأميركيين في الوساطة، وهي ورقة ضغط أخرى على نتنياهو. وهذه هي المرة الأولى منذ حرب السويس التي تتوافق فيها وجهات النظر العامة للإدارة الأميركية مع المصالح المصرية والعربية، وهو كبح جماح إسرائيل ووقف الحرب.
ويشير السفير هريدي إلى تغير اللغة الرسمية التي باتت القاهرة تتحدث بها مثل استخدام تعبير "الإبادة الجماعية" لوصف ما يحدث في غزة عبر الإعلام المصري، كما أن مصر لا تعمل بمعزل عن المجتمع الدولي، فثمة ضغوط عربية ودولية مشتركة لوقف الحرب. ويلفت سالم إلى أوراق أخرى تتعلق بالتنسيق الأمني بين البلدين والتعاون الاقتصادي، وغيره من السبل الدبلوماسية للضغط.
سحب السفير
خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2000 أصدر الرئيس المصري الراحل محمد حسني مبارك قراراً بسحب السفير المصري لدى تل أبيب احتجاجاً على "الاستخدام المفرط للقوة" ضد الفلسطينيين، ثم أعيد مجدداً في عام 2002.
كانت هذه هي المرة الثالثة التي يتم فيها سحب سفير مصري من إسرائيل منذ توقيع معاهدة السلام، كانت المرة الأولى في عام 1982 احتجاجاً على الغزو الإسرائيلي للبنان. وجاءت المرة الثانية في نوفمبر (تشرين الثاني) عام2012 احتجاجاً على عملية عسكرية واسعة في قطاع غزة.
وتعليقاً على ما تداولته وسائل الإعلام الأميركية من تهديد مصري بسحب السفير للضغط على إسرائيل في شأن غزة، قال هريدي إن تقليص التمثيل الدبلوماسي هو من بين أدوات الضغط، ومع ذلك "لا ينبغي استباق الأحداث، إذ إن الأمر متروك للقيادة السياسية لتحديد متى تلجأ لمثل هذا الإجراء".
الخروج من المأزق
ومع ذلك حذر باحث معهد تشاتام هاوس من أنه كلما زادت القاهرة من تضخيم تهديداتها من دون اتخاذ خطوة فعلية أصبحت إسرائيل وشركاء مصر، وخصوصاً الولايات المتحدة، أقل جدية في التعامل معها. ويشير إلى أن السياسة الخارجية المفرطة في تجنب المخاطرة أظهرت مصر بشكل ضعيف، لكن أيضاً ثمة عامل ضغط على القاهرة يتعلق بتردد إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في تعظيم الكلفة التي يتحملها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وشركاؤه المتطرفون في الحكومة الإسرائيلية لعدم استجابتهم للتحذيرات ضد عملية عسكرية واسعة النطاق في رفح، إذ لم تقدم واشنطن على ما هو أبعد من القرار الرمزي بحجب الذخيرة.
وفي هذه البيئة المعادية ترى مصر أن اتفاق وقف إطلاق النار هو السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق، والصفقة الجيدة قد تتضمن إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين وضخ المساعدات إلى غزة ووضع الشروط اللازمة لإجراء مفاوضات حول حل الدولتين.