كانت سالي بيركو جالسة في القاعة، تعض على أصابعها، وتحدّق في مقعد زوجها رئيس المجلس بنظرة ثاقبة.
كانت الأسئلة المتعلقة بملفات التعليم على وشك أن تنتهي عندما أخذ جون بيركو، رئيس المجلس، رشفة من كأس الماء الموضوع أمامه ثم رشّ القليل منه في عينيه.
اندفع الصحافيون للجلوس في المقاعد المخصصة لهم في الجزء المطلّ على القاعة من الطابق الأعلى، بينما دلف النواب من الأبواب الموزعة خلف الرئيس وأمامه متجهين إلى مقاعدهم الخضراء.
وكان بيركو قد ذكر سلفاً أنه سيدلي بـ"بيان"، علماً أن مداخلاته خلال العام الفائت المضطرب عبر بيانات كهذا كانت مُزلزِلة على رغم ندرتها.
كانت تفصلنا مجرد ساعات قليلة عن تعليق بوريس جونسون للبرلمان، وهو إجراء أصاب تماماً من اعتبره محاولة لتمرير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون صفقة قسراً، وذلك خلافاً لرغبة أعضاء مجلس العموم. وكان رئيس المجلس قد قطع عطلته بشكل مقتضب ليصف الإجراء بأن قرار الإغلاق كان "شائنة دستورية".
كانت هناك تكهنات بأن بيركو يوشك أن يعلن أنه لن يتنحى. لكن لو أراد البقاء مسمراً على كرسي الرئاسة، يصل الليل بالنهار كي تظل أبواب البرلمان مفتوحة، لكان ذلك سلوكاً غير متوقع.
بيد أن الأمر كان في نهاية المطاف أكثر أهمية من ذلك بكثير. فقد اتضح أن إعلان رئيس المجلس قد ترّكز على أمر يحظى بالأولوية على كل ما عداه في حياته، وهو نفسه.
استهل بيانه قائلاً "أيها الزملاء"، ثم توقف لبرهة. بذل بيركو قصارى جهده كي يندفع بهذه المناسبة بكل القوة التي يتيحها ثقله الشخصي. تخللت كلماته فترات صمت، ذهب أثناءها موظفو المجلس لتناول الغداء وعادوا.
قال بيركو "أود أن أدلي ببيان شخصي أمام المجلس"، ثم توقف مرة أخرى. لا يسعنا إلا التكهن بأن أحداً ما قد لفت انتباه المتحدث إلى أن نجماً بعيداً جداً، في مكان ما في مجرة قصية، كان يقترب من مئات الملايين من السنين التي تفصله عن نهاية دورة حياته الطبيعية، وكان الأمر على درجة من الأهمية لا تسمح للنجم المتفجر التالي بمقاطعته في تلك اللحظة.
وتابع "في انتخابات عام 2017، وعدت زوجتي وأطفالي أن تكون تلك آخر انتخابات لي. هذا تعهد أعتزم أن أنفذّه ".
أخذ نفساً عميقاً، ثم أطلق زفرة أعمق. هل كان هذا كل ما في الأمر؟ نعم، لقد كان كذلك. ولم يحصل هذا كله من دون أن يضفي عليه طابعاً درامياً، ولعل هذه الدرامية هي الشيء الإنساني الذي يعطيه بيركو أولوية على نفسه.
وأضاف "إذا صوّت المجلس الليلة لصالح انتخابات عامة مبكرة، فإن دوري كرئيس للمجلس ونائب فيه سينتهي مع نهاية هذا البرلمان".
أه حقاً. كان من المقرر أن يصوّت المجلس على مشروع إجراء انتخابات. وهذا التصويت، الذي كان يمكن أن يتم حوالي الساعة 11 ليلاً، سينتظر الآن الى ما بعد منتصف الليل بوقت قد يطول ، ريثما يجري التعامل مع "الشؤون العاجلة للغاية" الخاصة برئيس المجلس.
وزاد بيركو موضحاً "إذا لم يصوّت المجلس على هذا النحو، فقد خلُصتُ إلى نتيجة مفادها أن الأسلوب الأقل إرباكاً والأكثر ديمقراطية للتنحي هو أن أفعل ذلك بختام أعمال يوم الخميس 31 أكتوبر (تشرين الأول)".
هذه الجزئية المضلّلة التي أتت في آخر لحظة أدت غرضاً معيناً أوضحه بنفسه بعد ذلك. وهو أن إجراء انتخابات عامة في نوفمبر (تشرين الثاني) أو ديسمبر (كانون الأول) أمر شبه مؤكد، وبالتالي سينتخب هذا البرلمان، وليس البرلمان المقبل، رئيساً جديداً له. وهذا يعني أنه سيكون من الصعب انتخاب نائب مؤيد للخروج من الاتحاد الأوروبي ليحلّ محله رئيساً للمجلس.
في هذه المرحلة، واليوم المضطرب، والساعة المضطربة من حياة الأمة، استطاع بيركو أن يُفرد 90 دقيقة، ضمن جدول أعمال البرلمان المزدحم إلى درجة الانفجار، لمدائح النواب له شخصياً.
تحدث جيريمي كوربين أولاً، و تبعه مايكل غوف. صفق أشخاص عدة. سيكون هناك فترة محددة، في الوقت المناسب، على جدول أعمال المجلس مخصصة كي يثني النواب الراغبون على الرئيس. لكن في هذه المناسبة، عُوملت كل من المدائح كنقطة نظام، مما يعني أنه كان على الرئيس أن يرد عليها بشكل فردي.
انتفخت عينا بيركو. ألقى نظرة خاطفة على العوارض الخشبية. هاهنا كان مجلس العموم، مندفعاً في حديثه عن بيركو، ومشتعلاً بصوت بيركو الجهوري. لو أنه سقط ميتاً في تلك اللحظة لما استغرق الأطباء الشرعيون وقتاً طويلاً لاكتشاف تركيبة المواد القاتلة المسؤولة عن وفاته، إنها "خلطة بيركو" المخدرة القاتلة.
جو سوينسون .. ودومينيك غريف .. وإيان بيزلي جونيور .. وديفيد لامي. مع حلول الدقيقة التسعين من الفترة المخصصة للثناء، كان من الصعب أن تعرف بالعين المجردة إذا كان كرسي الرئيس نفسه لم يرتفع عن المنصة وراح بيركو يحلق فوق مجلس العموم كما لو أنه كان محمولاً على أكتاف حشود هذا المهرجان.
في لحظة ما، كان من الواضح أنه لم يعد قادراً على احتمال ما يجري، حتى أنه نسي لوهلة الادعاءات الكثيرة التي تتهمه بالتنمر ومضايقة النواب، وكما غفل عن التقارير حول سلوكه التي لم يُبت بها للآن.
واستمر الأمر على هذا المنوال، حتى أنه عندما قرر بتواضع وضع حد لتكريمه بعد مرور ساعة وأربعين دقيقة فقط، سمح لنفسه بالاستمتاع بتسعين ثانية زمجر خلالها مخاطباً الجالسين على مقاعد المحافظين حين حاول نائب محافظ الاعتراض على نقاش كان قد أقره هو.
وصرخ بملء حنجرته، بينما كانت عيناه مفتوحتين على اتساعهما "لا تقل لي أيها الشاب، من مكانك الثابت، ما يمكنني وما لا يمكنني قوله!" كان ذلك الشاب المعني إما جيمس دودريج، 48 عاماً، أو غراهام ستيوارت ،57 عاماً، ولم يكن ممكناً معرفة أي منهما المقصود.
"إذا لم تكن مهتماً، فاترك القاعة! غادر القاعة! أنا لست مهتماً من مكاني هذا باعتراضك عديم القيمة! إن الموقف كما وصفته، واضح تماماً أيها الشاب، ويمكنك أن تحبه أو تتركه!".
إن مغادرة بيركو المتأخرة ولكن السابقة لأوانها مع ذلك، تعني أنه من غير الواضح ما إذا كانت التحقيقات المختلفة حول سلوكه ستُستكمل أبداً. لكن يمكننا القول، أن من حسنات ذلك الرجل العظيم أنه استغل هذه الفرصة لمساعدة أي شخص يفكر في التوصل إلى استنتاجاته الخاصة بشأن القضايا التي أثيرت حوله.
© The Independent