ملخص
يكتسب ملف القاعدة الروسية في السودان أهمية كبيرة، ليس للقارة الأفريقية أو القرن الأفريقي فحسب، وإنما للعالم نسبة لتحول البحر الأحمر إلى ساحة لتنافس القوى الدولية
منحت الحرب في السودان موسكو فرصة إنعاش اتفاق إنشاء قاعدة عسكرية في البحر الأحمر لتوسيع نفوذها في منطقة القرن الأفريقي ذات الأهمية الجيوسياسية والاستراتيجية، إذ تربط قارات أفريقيا وآسيا وأوروبا عبر البحر الأحمر وقناة السويس والبحر المتوسط.
مرت القاعدة العسكرية الروسية المزمع إنشاؤها بمراحل عدة شهد فيها السودان تغييرات سياسية واقتصادية اتسمت بعدم الاستقرار، وأوصلت البلاد إلى الحرب الدائرة منذ أبريل (نيسان) العام الماضي بين قوات الجيش بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان، وقوات "الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ولذلك لم يستقر ملف القاعدة الروسية على حال، إذ استمر بين القبول والتجميد والمراجعة من دون أن يحسم أمرها.
وفي مرحلة جديدة جاء تصريح عضو مجلس السيادة مساعد القائد العام للجيش السوداني الفريق ياسر العطا لإحدى القنوات الفضائية، بأن روسيا طلبت إقامة محطة للوقود في البحر الأحمر في مقابل توفير أسلحة وذخيرة للسودان. أعلن العطا مع موافقة قيادة الجيش على منح روسيا قاعدة عسكرية في البحر الأحمر، وترحيب السودان بقواعد عسكرية لمصر والصين أيضاً إن تقدمتا بطلبهما.
يكتسب ملف القاعدة الروسية أهمية عالية، ليس للقارة الأفريقية أو القرن الأفريقي فحسب، وإنما للعالم نسبة لتحول البحر الأحمر إلى ساحة لتنافس القوى الدولية (الولايات المتحدة وفرنسا والصين واليابان). وتدخل روسيا حلبة التنافس في ظروف إقليمية مضطربة، فالسودان الذي يستضيف القاعدة يعاني حرباً لا تتراءى نهايتها في الأفق القريب، كما أن الحرب في غزة التي نشبت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تزداد عنفاً ولا يستجيب طرفاها لأي حلول سياسية مطروحة.
نفوذ تاريخي
لا تذكر علاقة السودان بالاتحاد السوفياتي إلا وتقفز إلى الذهن العلاقة الأيديولوجية التي جمعت بينهما في نهاية ستينيات القرن الماضي، إذ كان العقيد جعفر النميري صلة الحزب الشيوعي السوداني لتنفيذ انقلابه عام 1969 على حكومة الديمقراطية الثانية بزعامة إسماعيل الأزهري، والاستيلاء على السلطة. ونمت بين البلدين علاقة عسكرية، إذ كان السودان أحد مستوردي الأسلحة الروسية، ثم تحول ولاء النميري إلى الولايات المتحدة بعد محاولة الانقلاب عليه من الضباط الشيوعيين عام 1971 تحت اسم "ثورة يوليو التصحيحية".
وكان السودان ضمن دول أخرى موالية للاتحاد السوفياتي هي إثيوبيا والصومال واليمن الجنوبي، كما كانت مصر كذلك حتى وفاة جمال عبدالناصر عام 1970، واستلم بعده محمد أنور السادات الذي استغنى عن نحو 17 ألف خبير روسي من قدامى العسكريين عام 1972 بدعوى أنهم كانوا عبئاً على الجيش المصري، إضافة إلى رغبته في عدم نسب الانتصار في حرب أكتوبر 1973 للسوفيات.
عادت علاقة روسيا مع السودان في عهد الرئيس السابق عمر البشير عندما حظرت الأمم المتحدة صادرات الأسلحة إلى السودان عام 2005 أثناء حرب دارفور، فأرسلت روسيا دبابات قتالية من طراز "تي-72" وقاذفات قنابل يدوية وأسلحة صغيرة إلى الخرطوم عام 2008، ومنذ ذلك الوقت وجدت موسكو في تحالفها مع الخرطوم فرصة لاستعادة نفوذها التاريخي.
اتفاق متذبذب
عندما زار عمر البشير روسيا عام 2017، طلب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحماية لوجود "مؤامرة أميركية لتقسيم السودان إلى خمس دول"، وطلب البشير تزويد الخرطوم بأسلحة دفاعية مثل مقاتلات "سوخوي 30" و"سوخوي 35"، ومنظومة الدفاع الجوي الروسية (إس 300) لتحديث الجيش السوداني، في مقابل إنشاء قاعدة عسكرية على البحر الأحمر.
بعد عامين من ذلك اللقاء كشفت موسكو عن الاتفاق على أن تستمر لمدة 25 عاماً مع تمديد تلقائي لمدة 10 أعوام أخرى، وفي عام 2020 صادق الرئيس بوتين على الاتفاق ونشرته الجريدة الروسية الرسمية في العام نفسه، وتنص على "إنشاء قاعدة بحرية قادرة على استيعاب سفن تعمل بالطاقة النووية، واستقبال أربع سفن حربية في وقت واحد، بإمكان تموين وصيانة البحرية الروسية على البحر الأحمر، واستيعاب 300 عسكري ومدني".
وفي عام 2021 دخلت سفينة حربية روسية ميناء بورتسودان، وهي المدمرة "الأدميرال غريغوروفتش". وفي 2022 زار نائب رئيس مجلس السيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو موسكو، وقال "إن السودان ليست لديه مشكلة في أن تقيم روسيا أو أية دولة أخرى، قاعدة بحرية على ساحلها في البحر الأحمر بشرط ألا تشكل أي تهديد على أمنها القومي". وكانت روسيا طورت علاقاتها مع قوات "الدعم السريع" بواسطة مجموعة "فاغنر" منذ عام 2017، وهو العام نفسه الذي أقر فيه البشير قانوناً يمنح "الدعم السريع" صفة قوة أمنية مستقلة، مما أسهم في تمدد نفوذه واستغلال مكانته الجديدة لتكوين علاقات أمنية مع قوات "فاغنر".
بعد ذلك نقلت موسكو آلياتها العسكرية من قاعدة طرطوس السورية إلى قاعدة فلامنغو السودانية على البحر الأحمر، واشتعلت احتجاجات شعبية بسبب أن الاتفاق كان في عهد نظام أسقطه الشعب، وأن القرار لم يمرر وقتها على البرلمان ولم يحصل على موافقة المؤسسات التشريعية. كما تأثرت التيارات المدنية الرافضة للاتفاق بالموقف الأميركي، وكانت واشنطن داعمة للانتفاضة السودانية وأنهت القطيعة الدبلوماسية مع السودان وشرعت في رفع العقوبات، بعد دفع السودان تعويضات لضحايا تفجير سفارتي واشنطن في نيروبي ودار السلام والمدمرة "يو إس إس كول".
هذه الضغوط أجبرت المكون العسكري على تجميد القرار، وبعد أن نقلت روسيا آلياتها من قاعدة فلامنغو، زار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الخرطوم في فبراير (شباط) 2023، عقبها زيارة ستة مبعوثين غربيين من الاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا والنرويج والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.
عقيدة متطورة
حدث الرئيس بوتين العقيدة البحرية الروسية في يوليو (تموز) 2022 لتحل محل العقيدة البحرية لعام 2015، التي سعت إلى تنفيذ "السياسة البحرية الوطنية" بأهداف كبيرة، منها اقتصادية تمثلت في استغلال موارد المحيطات مثل صيد الأسماك والمعادن والطاقة والنقل البحري والبحث العلمي والأنشطة البحرية، بما فيها مد خطوط الأنابيب وإنشاء البنية التحتية البحرية. وتعد القاعدة الروسية في طرطوس بسوريا، والاتفاق المعلق مع السودان بمثابة جهود تهدف إلى تفعيل جزء مهم من عقيدة عام 2015.
وفي حين احتوت عقيدة 2015 على مبادئ وأهداف عامة وواسعة للسياسة البحرية فإن عقيدة 2022 جاءت أكثر تحديداً، إذ سلطت الضوء على نهج أكثر قومية يسعى إلى وضع روسيا كدولة بحرية قوية ذات حضور عالمي دائم. وأبرز ذلك بوضوح في الهدف الاستراتيجي الأول، ليعبر عن "تطوير الاتحاد الروسي كقوة بحرية عظمى وتعزيز مكانته بين القوى البحرية الرائدة في العالم".
أما المؤشرات الرئيسة في عقيدة 2022 التي ضمنت بين الأهداف الاستراتيجية للسياسة البحرية الوطنية بحسب ما أوردته "بوابة المعلومات القانونية للاتحاد الروسي"، فشملت "الأمن الإقليمي للاتحاد الروسي وتنميته الاقتصادية المستدامة، وبناء القدرات لحماية المصالح الوطنية للاتحاد الروسي في محيطات العالم، وضمان الوصول إلى جميع موارد المحيطات وفقاً لمبادئ وقواعد القانون الدولي، وضمان الحفاظ على النظم البيئية الطبيعية البحرية والاستخدام الرشيد لمواردها، وزيادة القدرة التنافسية لمجمع النقل البحري الروسي في سوق النقل البحري العالمي".
ولتحقيق هذه الأهداف ركزت العقيدة البحرية الأخيرة على تطوير صناعة وبناء السفن الحربية والتجارية، لا سيما أن روسيا تطمح في استعادة سمتها الأمبراطوري كقوة قارية وبحرية عظمى، تخدمها عوامل عدة منها أنها تمتلك خامس أطول خط ساحلي في العالم، يبلغ نحو 37 ألفاً و653 كيلومتراً، إضافة إلى تنوع طاقتها البحرية ومواردها المعدنية والبيولوجية. وتمكن هذه العوامل موسكو من العمل في بيئة أمنية عالمية متذبذبة، إذ تعتقد أنها تتبع نهجاً تنافسياً واسعاً لا يغفل عن التنمية العلمية والتكنولوجية والاقتصادية، في حين تمكنها هذه المزايا من التعاون الدولي والتعامل مع القرصنة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حراك الشرق
ومع تأثير مناطق مهمة مثل مياه المحيطات والبحار المتاخمة للسواحل الروسية، بما فيها بحر آزوف والبحر الأسود، والجزء الشرقي من البحر المتوسط والبحر الأسود ومضيق البلطيق والكوريل، فإن تركيز روسيا على وجودها البحري في الجنوب على طول السواحل الآسيوية والأفريقية متزايد أيضاً. وهنا يتجاوز طموح موسكو البحري الحرص على ضمان مصالحها وأمنها القومي في حدودها البحرية وإقليمها إلى تشكيل تهديد أمني خارجي. القاعدة الروسية في بورتسودان أيقظت مخاوف إقليمية، وأعادت تركيز الولايات المتحدة والغرب على ضرورة حماية مصالحهم في المنطقة. كما أن الانعكاسات الأمنية لهذه القاعدة تطاول الداخل السوداني في إثارة النزاعات على مستويين، الأول هو المشاركة في الحرب وإطالة أمدها بوقوف روسيا إلى جانب الجيش ومده بالأسلحة مما يدفع "الدعم السريع" إلى الاستعانة بدول أخرى قد تكون مناوئة للوجود الروسي في البحر الأحمر. أما المستوى الثاني فهو الخلافات وسط الإدارات الأهلية خصوصاً في شرق السودان، وكان بعض زعمائها رفضوا من قبل إنشاء القاعدة الروسية.
وتضغط بعض القوى السياسية في شرق السودان باتجاه تحسين وضع الإقليم الذي يعاني تهميشاً منذ استقلال السودان، مهددة بالمطالبة بحق تقرير المصير. وتستخدم هذه القوى أوراق ضغط فاعلة منها الوقوف ضد قيام القاعدة الروسية، مستفيدة من الورقة الجيوسياسية لإقليم الشرق باعتباره الرابط بين السودان والعالم الخارجي عبر البحر الأحمر الذي تمر به صادرات السودان الأساسية ووارداته. كما أن هناك خلافاً ناشئاً حول تصدير نفط جنوب السودان عبر ميناء بشائر في إقليم البحر الأحمر، إضافة إلى التوترات الحدودية بين السودان وكل من إثيوبيا وإريتريا ومصر. ولكن في المقابل هناك قوى سياسية أخرى بقيادة ناظر عموم قبائل "الهدندوة" محمد الأمين ترك، ظلت تتحرك في كنف الجيش، نجدها حالياً مؤيدة لقيام القاعدة الروسية بتبني رؤية قيادة الجيش التي تسعى إلى التقليل من خطورة الاتفاق، بأن روسيا لم تطلب سوى إقامة محطة وقود في البحر الأحمر، وهو على عكس ما تراه التيارات المعارضة بأن روسيا لم تنتظر طوال الأعوام الماضية لترضى من غنيمة التنافس البحري مع قوى دولية أخرى بوجود شكلي فقط.
"دينامية انتهازية"
يتوقع أن يظل البحر الأحمر تحت الأضواء لفترة طويلة، فأهميته الاستراتيجية كمركز محوري تؤهله لأن يكون أرضية للتنافس على الوجود فيه بواسطة القواعد العسكرية لعقود مقبلة. ومع تزايد التوترات على سطح أمواجه، يرجح أن يجلب مزيداً من اهتمام القوى الدولية من أجل تأمين حرية حركة الملاحة ورعاية مصالحها وإمدادات مصادر الطاقة في المنطقة. ومن المتوقع أن تزداد التحركات العسكرية لعدد من القوى الدولية في المنطقة، وستدور هذه التحركات بدرجة كبيرة في فلكه.
ويعكس إنشاء القاعدة الروسية في السودان، أحد مداخل التغلغل في أفريقيا وفي جزء مهم منها، منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي. وبما أنه يتوقع أن تتم الخطوة بمباركة الصين وإيران، فإنه يفسر بأن موسكو وبكين وطهران مجتمعة ستحل محل واشنطن في إطار سعيها إلى خلق نظام عالمي جديد يبدد رويداً رويداً النظام الدولي القائم على القواعد. ومع ذلك يلاحظ أن المحور الصيني - الروسي - الإيراني غير متوازن بشكل أساسي في تشابك علاقاته مع القارة الأفريقية، فالعلاقة السياسية وتوحد وجهات النظر والعداء المشترك للغرب، يرتبط بشدة بالمصالح الاقتصادية في ما بينها. وستظل بكين وطهران داعمتان لموسكو في وجودها في البحر الأحمر ما لم يتضارب ذلك مع مصالحهما في المنطقة.
وبما أن روسيا والسودان أنعشتا هذا الاتفاق في ظروف الحرب السودانية، فإن دينامية تحرك الجانبين انتهازية من الطراز الأول، فروسيا منذ عهد الاتحاد السوفياتي تواصل نهج اختراق المناطق الهشة لتملأ الفراغ الأميركي، بينما تحقق القوات المسلحة السودانية مكاسب أخرى لا سيما مع تأخر حسم الحرب، وفي كلتا الحالتين فإنه ليس لدى روسيا والسودان ما يخسرانه من هذه المحاولة حتى ولو انحصرت أخيراً في كونها محاولة استعراضية.