لا شيء طبيعي في المال. ولا دليل على ارتباط المال بأشكال نقدية أساسية ونادرة قد تُقيّد عملية إصداره. فالمال إما يتكوّن من معادن خسيسة أو أوراق أو بيانات إلكترونية – وهذه كلّها مواد غير نادرة وتتوفّر بكمية كافية. كذلك وعلى الرغم ممّا يُشاع عن الحاجة للتقشف والنقص في بعض الأشجار المدرّة للنقد – ليس هناك من مستوى "طبيعي" للإنفاق العام. وفي ما يخصّ حجم القطاع العام وامتداده، فالمسألة مسألة خيار سياسي.
وهذا ما يضع التقشّف الرّامي إلى خفض الإنفاق في الاقتصاد العام، تحت المجهر. في بعض الدول على غرار اليونان، كانت عواقب التقشف مدمّرة. وعلى الرّغم من الدراسات العديدة التي تُغالط السياسات التقشفية لارتكازها على الخيار السياسي بدل المنطق الاقتصادي، فإنّ هذه الأخيرة لا تزال معتمدة إلى اليوم. لكن ماذا عن الحجج الاقتصادية المؤيدة للتقشف، أوليست مُخطئة بنفس القدر لاستنادها إلى ما يُمكن وصفه بالاقتصاديات الخرافية؟!
إذن، ماذا كانت المبررات؟ بريطانيا على سبيل المثال، انتهجت نظاماً اقتصادياً تقشفياً منذ العام 2010، بعدما أطاحت حكومة حزبي المحافظين والليبراليين الديمقراطية سياسة حزب العمال الدّاعية إلى رفع مستوى الإنفاق العام بغية التصدّي للأزمة المالية 2007-2008 التي أثارت ظروفاً معاكسة من الحاجة إلى مستويات عالية من الإنفاق العام لإنقاذ المصارف والانكماش الاقتصادي الذي نتج عنه انخفاض في ضريبة الدخل. وفي تلك المرحلة الحساسة، كانت الحجج المؤيدة لاتخاذ تدابير تقشفية تربو على عدم قدرة المكلّفين على تحمّل مستوى إنفاق عام أعلى، بدعمٍ من "اقتصاد الصرة" الذي يُشبّه الدول بالأسر من ناحية اعتمادها على معيل (في هذه الحالة، القطاع الخاص).
وبموجب اقتصاد الصرة، يتعيّن على الدّول تقليص حجم إنفاقها بما يُتيح للمكلّفين تحمّله. لا ينبغي على الدّول زيادة نفقاتها بالاقتراض من القطاع المالي (الخاص) أو بـ"طباعة الأموال" (رغم أنّ هذه هي الطريقة التي اعتُمدت من أجل إنقاذ المصارف وإن تستّرت تحت مسمّيات أخرى كالتيسير الكمي واستحداث النّقد الإلكتروني).
فاقتصاد الصرة يستند إلى أيديولوجية حصر عملية درّ الأموال بنشاط السوق وحده، مع أنّ هذا النشاط غير كافٍ. ويكاد الطلب على زيادة الإنفاق العام أن يُقابَل دائماً بالسؤال نفسه: "من أين يأتي المال؟" والإجابة على هذا السؤال نستعيرها من ردّ رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي الشهير على سائليها بموضوع الأجور المتدنية في "دائرة الصحة الوطنية": "ما من شجرة سحرية تدرّ المال".
فمن أين يأتي المال إذن؟ وما هو المال أساساً؟
ما هو المال؟
لغاية الأعوام الخمسين الأخيرة أو نحو ذلك، كانت الإجابة على هذا السؤال بمنتهى البساطة والوضوح: المال هو النقود (أي الأوراق النقدية والنقود المعدنية). ولمّا كان المال سلعةً ملموسة، لم يكن هناك من داعٍ للشك في نشأته أو قيمته. فقد كانت النقود المعدنية تُسكّ والأوراق النقدية تُطبع بإذنٍ من الحكومات أو المصارف المركزية. لكن ما هو المال اليوم؟ في البلدان ذات الاقتصاديات الغنيّة، يقلّ استخدام النّقود بخطىً متسارعة ويتزايد اعتماد الصفقات النقدية على عمليات التحويل بين الحسابات، بعيداً عن الأموال المادية الملموسة.
وخلال الفترة السابقة للأزمة المالية، كان الغموض يلفّ دور الدولة في ما يتعلّق بالأموال المُودعة في الحسابات المصرفيّة، وكانت الخدمات المصرفية مجرّد نشاطات رقابيّة مرخّصة مع مستوى معيّن من ضمان الدولة للودائع المصرفيّة. أمّا عملية إنشاء الحسابات المصرفيّة بذاتها، فكانت ولا تزال تُعتبر مسألة خاصة. قد يكون هناك أنظمة وقيود، لكن لا يوجد حتماً تدقيق مفصّل للحسابات المصرفية والإقراض المصرفي.
لكن مع حلول الأزمة المالية 2007-2008 وتعرُّض الحسابات المصرفيّة للتهديد جراء ترنّح المصارف على حافة الإفلاس، كان على الدول والمصارف المركزية التدخّل من أجل ضمان أمان كل حسابات الإيداع. حينئذٍ، تجلّت صلاحية الأموال في الحسابات المصرفيّة غير الاستثمارية كمسؤولية عامة مثلها مثل النقود.
وهذا أمر يُثير تساؤلات مهمة بشأن المال بوصفه مؤسسة اجتماعية. هل صحيح أنه بالإمكان توليد الأموال عن طريق خيار خاص بالاستدانة قد يُمسي ضمانه على عاتق الدولة في أوقات الأزمات؟
بعيداً عن كون المال مورداً عاماً تحت مظلة اقتصاديات الصرة الليبرالية الجديدة، فقد تزايد النظر إلى إصدار الأموال وتداولها على أنّها الوظيفة التي يضطلع بها السوق. فالمال هو "إصدار" محصور بالقطاع الخاص والإنفاق العام هو العبء الأكبر الذي يستنزف هذا المال. وهذا ما يُبرر اللجوء إلى التقشف بغرض تحجيم القطاع العام قدر الإمكان، رغم أنّه نهجٌ مغلوط تماماً لارتكازه على سوء فهمٍ تام لطبيعة المال واستناده إلى سلسلة من الأساطير المترسّخة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خرافات عن المال
يستند اقتصاد الصرة الليبرالي الجديد إلى خرافتين أساسيتين عن تاريخ المال وماهيّته. تحكي الخرافة الأولى أنّ المال ينبثق من اقتصاد سوق سابق قائم على المقايضة، فيما تُرجع الثانية نشأة المال إلى المعادن الثمينة.
يُقال إنّ المقايضة لم تكن على قدرٍ كبير من الفعالية، إذ كانت تفرض على كلّ بائع-شارٍ العثور على شخصٍ قادرٍ على تلبية متطلباته واحتياجاته بكلّ دقّة. فصانع القبعات مثلاً، قادر على مقايضة قبعة من عنده بحذاء يحتاجه - لكن ماذا لو لم يكن صانع الأحذية بحاجة إلى قبعة؟ الحلّ لهذه المشكلة بحسب الرواية، هو اختيار سلعة تكون مرغوبة من الجميع وتصلح وسيطا للتبادل فيما بينهم. في البداية، كانت المعادن الثمينة (الذهب والفضة) الخيار الواضح والأكيد نظراً إلى قيمتها العالية وسهولة تقسيمها وحملها. والجدير ذكره أنّ هذه الرؤية لنشأة المال تعود إلى القرن الثامن عشر على الأقل: عصر آدم سميث.
وانطلاقاً من هاتين الخرافتين، برزت فرضيّتان بشأن المال، وهاتان الفرضيّتان لا زالتا قائمتين إلى اليوم. الفرضية الأولى تؤكّد أنّ المال متصل بشكلٍ أساسي بالسوق ومنبثق منه. أما الفرضية الثانية، فتقول إنّ المال بشكله الحديث غير متوفّر بكمية كافية، تماماً كالمال بشكله الأوّلي والمثالي. من هنا ادّعاء الليبرالية الجديدة بأنّ الإنفاق العام هو ثقلٌ كبير على قدرة السوق على إنتاج الثروات ولا بدّ من السعي إلى الحدّ منه قدر الإمكان. المال هو أداة تجارية غير اجتماعية وغير سياسية موضوعة في خدمة وظيفة أساسية وتقنية خاصة بالسوق والمعاملات.
لكنّ رواية المال الفعلية مختلفة جداً. فالأدلة من وجهة نظر الأنثروبولوجيا والتاريخ تؤكّد أنّ المقايضة لم تكن منتشرة قبل نشوء الأسواق القائمة على المال وأنّ النقود المسكوكة في المعادن الثمينة سبقت ظهور اقتصاديات السوق بوقتٍ طويل. وإلى جانب القطع النقدية المعدنية الثمينة، ثمة أشكال أخرى عديدة من المال.
المال كعرف
وُجدت أشباه المال في معظم، أو بالأحرى، في كلّ المجتمعات البشرية؛ منها الأحجار ومنها الأصداف ومنها الخرز ومنها الملابس ومنها القضبان النّحاسية التي اعتُمدت جميعها كوسيلة للمقارنة وتحديد قيمة المقارنة. ولكنّ أشباه المال هذه قلّما استُخدمت في السوق. فمعظم المجتمعات البشرية الأولى كانت تعيش من خيرات الطبيعة – أي من صيد الحيوانات والأسماك وجمع المحاصيل والبستنة - وما لجأت إلى المال في شكله المعتاد، إلا للاحتفال بالمناسبات الاجتماعية الميمونة أو تسوية الصراعات الاجتماعية.
فعلى سبيل المثال، شعب الـLele الذي عاش إبان تسعينيات القرن الماضي في ما يُعرف اليوم بجمهورية الكونغو الديمقراطية، كان يُقدّر قيمة الأشياء على أساس الملابس التقليدية المنسوجة، مسلّماً أمر تحديد كمية الملابس المطلوبة في مناسبات مختلفة للأعراف والتقاليد: 20 قطعة ملابس لأبٍ يحتفل بوصول ابنه إلى مرحلة البلوغ و20 قطعة مماثلة لامرأة متزوّجة أنجبت حديثاً. وحسب عالمة الأنثروبولوجيا ماري دوغلاس التي أجرت دراسة معمّقة عن ـشعب الـLele ، فقد كان هؤلاء حريصين جداً على عدم استخدام الملابس في الصفقات التي يجرونها مع جهات خارجية، ما يُشير إلى الأهمية الثقافية التي كانوا يولونها لهذه الملابس.
والأغرب من الملابس هو المال المصنوع من الحجارة الكبيرة والمعتمد من قبل شعب الياب في ميكرونازيا. وكانت هذه العملة عبارة عن أقراص دائرية مهيبة يصل وزنها إلى أربعة أطنان. وبالتالي لم يكن من السهل على المرء وضعها في جيبه متى كان متجهاً إلى المتاجر للتسوّق.
ثمة أدلّة أنتروبولوجية أخرى كثيرة كهذه حول العالم، وكلّها تشير إلى أنّ المال، في شكله الأوّلي، كان يخدم هدفاً اجتماعياً أكثر منه هدفاً قائماً على السوق.
سلطة المال
بالنّسبة إلى أكثرية المجتمعات التقليدية، لم يصمد منشأ شكل المال المحدد أمام عوامل السنين. لكنّ منشأ المال واعتماده كمؤسسة بات أكثر وضوحاً مع بروز مفهوم الدولة. فالمال لم يظهر كقطعة نقدية معدنية ثمينة مع تطوّر الأسواق. والحقيقة أنّ اختراع القطع النقدية المعدنية الجديد على مقربة من العام 600 قبل الميلاد اعتُمد من قبل الحكام الاستعماريين وخضع لسيطرتهم وساعدهم في بناء امبراطورياتهم عن طريق شنّ الحروب.
والأبرز بين هؤلاء القادة كان الإسكندر الأكبر الذي حكم بين 323 و336 قبل الميلاد. فقد قيل إنه كان يُموّل جيشه المؤلّف بمعظمه من المرتزقة بنصف طنٍّ من الفضة يومياً بدلاً من حصة من الغنائم (طريقة التمويل التقليدية). وكان لديه أكثر من 20 منشأة لسك القطع النقدية المزيّنة بصور آلهة وأبطال والممهورة بكلمة ألكسندرو (المشتقّة من إسكندر). من ذلك الوقت وصاعداً، حاولت أنظمة الحكم المتعاقبة الإعلان عن قدومها من خلال إصدار قطعة نقدية جديدة تُعبّر عنها.
وبعد مرور أكثر من ألف عام على اختراع العملة النقدية، سعى شارلمان (742-814) الذي بسط سيطرته على الجزء الأكبر من أوروبا الوسطى والغربية، إلى تطوير ما أصبح أساساً لما قبل النظام العشري في بريطانيا: الباوند والشلن والبنس. أنشأ شارلمان نظاماً نقدياً قائماً على 240 بنساً مسكوكاً في رطل من الفضة. ومع الوقت مهّدت هذه البنسات لظهور: الدينييه (denier) في فرنسا والبفنيغ (pfennig) في ألمانيا والدينيرو (dinero) في اسبانيا والديناري (denari) في إيطاليا والبني (penny) في بريطانيا.
إذن، الرواية الحقيقية عن نشأة العملة النقدية المعدنية لا تخصّ المقايضين والتجار بل تاريخاً طويلاً من السياسات والحروب والنزاعات. كان المال عاملاً حيوياً في بناء الدول والامبراطوريات، ولم يكن مجرد تمثيل سلبي للأسعار في السوق. وكان التحكم بالكتلة النقدية عاملاً مهماً للقوة والتأثير بيد القادة، قل مظهراً من مظاهر السلطة السيادية. فهؤلاء كانوا يُصدرون المال ويطرحونه في التداول سواء بشكلٍ مباشر كما في حالة الإسكندر أو من خلال فرض الضرائب أو من خلال مصادرة ممتلكات خاصة من المعادن الثمينة.
ولكن هذا لا يعني أنّ المال في شكله الأوّلي كان يتكوّن بالضرورة من المعادن الثمينة. الواقع أنّ المعادن الثمينة كانت غير نافعة نسبياً لبناء الامبراطوريات لأنها لم تكن متوفرة بكميات كافية. وحتى في عصر الرومان، كانت المعادن الخسيسة هي المستعملة ومع الوقت فقد النوع الجديد من المال الذي وضعه شارلمان قيمته. أما في الصين، فلم يجرِ التداول يوماً بالذهب والفضة، ومنذ القرن التاسع والناس هناك يتعاملون بالعملة الورقية.
وجلّ ما فعله اقتصاد السوق حقيقةً هو إدخال شكل جديد من المال: المال كدين.
المال كدين
لو نظرتم إلى ورقةٍ نقديةٍ بقيمة 20 جنيهاً استرلينياً، ستجدون عليها عبارة: "أتعهّد بتسديد مبلغ 20 جنيهاً لحامل هذه الورقة عند طلبه". وهذه العبارة هي الوعد الكتابيّ الذي تقدّم به "بنك إنكلترا" أساساً لأجل إتاحة تبادل الأوراق بالعملة السيادية. وكانت العملة الورقية آنذاك شكلاً جديداً من المال. وخلافاً للمال السيادي، لم يكن المال الجديد بياناً بالقيمة بل وعداً بالقيمة. وبالنسبة إلى القطع النقدية المعدنية، حتى تلك المصنوعة من المعادن الخسيسة، فقد كانت بدورها قابلة للتبادل. ولكنّها لم تُعتبر يوماً شكلاً آخر وأرقى من المال، بعكس الأوراق النقدية التي اعتُبرت كذلك أوّل ظهورها.
وقد ظهر اختراع السندات الإذنية بالتزامن مع تنامي متطلبات النشاط التجاري في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وكان الغرض منها الإقرار باستلام القروض أو الاستثمارات وبواجب تسديدها من أرباح الصفقات المرتقبة. وكانت المهمة الأساسية لمهنة الصيرفة الصاعدة حينها، تسوية هذه الوعود بشكلٍ دوري ومعرفة مَن يدين لمَن بقيمة كذا من المال. وقد عنى إجراء "التسوية" هذا أنّ كمية كبيرة من الالتزامات الورقية قد استُبدلت بعدد أقل نسبياً من التحويلات المالية الفعلية. أما التسوية النهائية، فكانت تتمّ إما بالمال السيادي (القطع النقدية المعدنية) أو بالسندات الإذنية الأخرى (العملة الورقيّة).
وفي نهاية المطاف، حصدت العملة الورقية ثقةً كبيرة واستحالت بذاتها مالاً. وفي بريطانيا تحديداً، أصبحت العملة الورقية موازية للقطع النقدية المعدنية، لاسيما عندما اتّحدت تحت راية "بنك إنكلترا". واليوم، لو توجّهتم إلى "بنك إنكلترا" وفي جعبتكم عملةً ورقية، فسوف لن يكون بإمكانكم استبدالها بورقة أخرى تحمل القيمة نفسها. فالأوراق النقدية لم تعد وعوداً، بل صارت هي نفسها العملة، وما من أموال "فعلية" تُقابلها.
كان الإسكندر الأكبر الذي حكم بين 323 و336 قبل الميلاد، يُموّل جيشه المؤلّف بمعظمه من المرتزقة بنصف طنٍّ من الفضة يومياً بدلاً من حصة من الغنائم (طريقة التمويل التقليدية). وكان لديه أكثر من 20 منشأة لسك القطع النقدية المزيّنة بصور آلهة وأبطال والممهورة بكلمة ألكسندرو (المشتقّة من إسكندر). من ذلك الوقت وصاعداً، حاولت أنظمة الحكم المتعاقبة الإعلان عن قدومها من خلال إصدار قطعة نقدية جديدة تُعبّر عنها.
الأمر الوحيد الذي لا يزال يُحافظ عليه المال الحديث هو ارتباطه بالدين. وعلى عكس المال السيادي الذي كان يُصدر ويُطرح مباشرةً للتداول، فإنّ المال الحديث يُقترض ويُستخدم بشكلٍ كبير في التداول عبر النظام المصرفي. وهذه العملية تختبئ خلف رواية أخرى مفادها أنّ المصارف تعمل كصلة وصل بين المدّخرين والمقترضين. والحقيقة أنّ المصارف هي التي تُصدر المال وقد استمرت هذه الرواية القوية قائمة حتى العقد الماضي حين أقدمت السلطات المصرفية والنقدية على وضع نهايةٍ أخيرة لها.
في الوقت الراهن، تُقرّ السلطات النقدية على غرار "صندوق النقد الدولي" و"الاحتياطي الفدرالي الأميركي" و"بنك إنكلترا"، وتعترف بأنّ المصارف تُصدر أموالاً جديدة عند منح القروض، أي أنها لا تأخذ المال من الحسابات المصرفية لمُودعين كي تُقرضها للأطراف الراغبة في الاستدانة. فالقروض المصرفية تُستحضر من العدم، حيث يُودع المال الجديد في حساب المقترض بالاتفاق معه على وجوب تسديده أخيراً مع الفوائد.
أما الآثار المترتبة على سياسة خلق العملة المتداولة من العدم ثم إقراضها إلى الأطراف الراغبة في الاستدانة على أساسٍ تجاري بحت، فلم تُؤخذ بعين الاعتبار بعد. والأمر سيان بالنسبة إلى إسناد العملة المتداولة إلى الدَّين مقابل السلطة السيادية لاستحداث مالٍ خالص من الدَّين وطرحه مباشرةً في التداول.
وكانت النتيجة أن تحوّلت الدول من استخدام سلطتها السيادية لاستحداث المال على طريقة الإسكندر الأكبر، إلى اقتراض المال من القطاع الخاص. فحيث يكون عجزٌ في الإنفاق العام أو حيث تظهر حاجة لنفقات مستقبلية كبيرة الحجم، يُتوقّع من الدولة اقتراض المال أو زيادة الضريبة المفروضة على الشعب بدلاً من استحداث المال بحد ذاته.
معضلة الدين
ينطوي مفهوم بناء الكتلة النقدية على الدَّين على معضلة في جوانب عدّة، منها الإيكولوجية والاجتماعية والاقتصادية.
على المستوى الإيكولوجي، تكمن المشكلة في احتمال أن تؤدّي الحاجة لقضاء الدَّين إلى إلحاق الضرر بالنمو.
وعلى المستوى الاجتماعي، يُعتبر بناء الكتلة النقدية على الدَّين نوعاً من أنواع التمييز، من منطلق أنه لا يمكن للمواطنين أن يستدينوا سواسية؛ الأمر الذي يُمكن أن يُرجّح كفّة نمط الكتلة النقدية لصالح الأثرياء أو المجازفين. ففي العقود الأخيرة مثلاً، لجأ القطاع المالي إلى عمليات اقتراض مهولة لتعزيز استثمارات هؤلاء.
أما على المستوى الاقتصادي، فتتمثّل المشكلة في اعتماد الكتلة النّقديّة على قدرة عناصر اقتصاديّة مختلفة (عامة وخاصة) على الاستدانة بشكلٍ أكبر. هكذا ومع اعتماد الدول أكثر فأكثر على المال الصّادر عن المصارف، باتت فقاعات الدين والضّغوط الائتمانية أكثر تواتراً.
ويُعزى ذلك إلى كون اقتصاد الصرة مهمّة مستحيلة بنظر القطاع الخاص الذي من المفترض به أن يخلق الأموال الجديدة بواسطة دين مصرفي، ومن ثم يُسدّد هذا الدين مع الفوائد. ومن المفترض به أن يُموّل القطاع العام بشكلٍ كامل ويُولّد أرباحاً للمستثمرين.
لكن عندما تتعثّر الكتلة النقدية المخصّصة والخاضعة لسيطرة المصارف، يعود المال التي تقوم عليه سلطة الدولة، إلى الواجهة من جديد. وكان ذلك واضحاً بصورةٍ خاصة خلال أزمة 2007-2008، حين استحدثت المصارف أموالاً جديدة في إطار عملية عُرفت بالـ"تيسير الكميّ". آنذاك، استخدمت المصارف المركزيّة سلطتها السيادية لإصدار أموال خالصة من الدّيون وإنفاقها مباشرةً في الاقتصاد (كما في حالة شراء دين حكومي وموجودات مالية أخرى).
ويُصبح السّؤال بعد ذلك: إن كانت المصارف المركزية قادرة على استحداث النّقود من العدم لإنقاذ المصارف، ما الذي يمنع الدّول من الحذو حذوها لإنقاذ شعوبها؟
المال في خدمة الشعب
لقد أسهمت الرّوايات المُحاكة حول المال في تشويه نظرتنا إلى الإنفاق العام وفرض الضّرائب. فالضّرائب والإنفاق في حالة تدفّق منتظم، مثلها مثل الاقتراض المصرفي والتّسديد. وبحسب اقتصاديات الصرة، فإنّ الضّريبة (التي يفرضها القطاع الخاص) هي التي تجمع المال المخصّص لتمويل القطاع العام، وهذه الضّريبة هي التي تأخذ المال من جيوب المكلّفين.
بيد أنّ تاريخ هيمنة السّلطة السّيادية السّياسي الطّويل على المال، فيشير إلى احتمال أن يكون دفق الأمول في الاتجاه المعاكس. وكما أنّ المصارف قادرة على استحداث المال من العدم وتحويله إلى قروض، الدّول قادرة كذلك على توليد المال من العدم لغاية تمويل الإنفاق العام. فالأولى تخلق المال من إنشاء حسابات مصرفية. أما الثانية، فتستحدث المال عن طريق تخصيص الموازنات.
وعندما تُريد الحكومات إصدار موازناتها، فإنّها لا تتطلع إلى المبالغ المالية التي جمعتها في "حصالتها" من الضرائب. ولهذا السبب، تنطوي موازانتها على التزمات إنفاق قد تتطابق أو لا تتطابق مع كمية المال المستقدمة من الضّرائب. ومن خلال حساباتها في الخزينة والمصرف المركزي، لا تتوقّف الدّول عن تقاضي المال وإنفاقه. وحين يزيد معدل إنفاقها عن معدل ما تتقاضاه، فإنّها تترك كمية أكبر من المال في جيوب الناس. وهذا ما يمكن أن يخلق عجزاً في الموازنة وما تعتبره المصارف المركزيّة سحباً على المكشوف.
هل هذه مشكلة؟ نعم، في حال اعتبار الدولة صاحبة حساب مصرفي أسوةً بغيرها من المُودعين – وتشبيهها بالأسر من ناحية حاجتها إلى معيل في اقتصاديات الحقيبة. كلا، في حال اعتبار الدولة مصدراً مستقلاً للمال. لا ينبغي للدول أن تنتظر الصدقات من القطاع التجاري، كونها السلطة التي يستند إليها النظام المالي. وبالنسبة إلى السلطة التي تُمارسها المصارف لاستحداث العملة المتداولة من العدم، فهي سلطة سيادية.
من غير الضروري بعد اليوم سك القطع النقدية على طريقة الإسكندر – فالمال بات قابلاً للاستحداث بكبسة زر. وما من سببٍ يدعو القطاع المصرفي إلى احتكار هذا الإجراء من أجل إصدار أموال جديدة كدين. فمساواة الإنفاق العام بالقروض المصرفية، يحرم عامة الشعب والشعب صاحب السيادة في إطار نظامٍ ديمقراطي، حقّ الوصول إلى المال الخاص والخالص من الديون.
إعادة تعريف المال
على ضوء الروايات التاريخية والأنتروبولوجية عن المال، يظهر أنّ المفاهيم التي طال أمدها - وأَرجعت نشأة المال إلى اقتصاد سوقٍ سابق يقوم على المقايضة وربطت صناعتة الأولى بالمعادن الثمينة – هي مجرد نسيج من الخيال. علينا أن نفهم هذه الحقيقة وعلينا أن نستفيد من القدرة العامة على استحداث المال.
لكن من المهم أيضاً أن نعترف على الملأ بأنّ السلطة السيادية لاستحداث المال ليست بذاتها حلاً. فلكلّ من قدرة الدولة وقدرة المصارف على إصدار الأموال نقاط إيجابية وسلبية. ومن بين النقاط السلبية المشتركة، إمكانية سوء الاستخدام. ومن أبرز الأمثلة على سوء الاستخدام، تهوّر القطاع المصرفي في منح القروض وتسبّبه بإنهيار النظام المالي والنقدي في أوروبا وأميركا. وعلى العكس من ذلك، استمرار الدول التي لا تمتلك قطاعاً مصرفياً متطوّراً في بسط سيطرتها على الكتلة النقدية، مشرّعةً أبواب مجتمعاتها للفساد وسوء الإدارة.
لا بدّ للإجابة أن تتضمّن إخضاع طريقتي استحداث الأموال، سواء عبر المصارف أو الدولة، للمساءلة الديمقراطية. فبعيداً عن كون المال أداةً تقنية وتجارية، يُمكن النّظر إليه على أنّه بنيان سياسي واجتماعي ذو إمكانية متطرّفة وهائلة قد تتزعزع قدرتنا على تسخيرها ما لم نُدرك ماهية المال وطريقة عمله. على المال أن يتحوّل من سيّدٍ علينا إلى خادمٍ طيّعٍ لنا.
- ماري ميلور هي أستاذة شرفيّة في "جامعة نورثومبريا" (Northumbria University) حيث شغلت منصب الرئيسة المؤسسة لـ"معهد بحوث المدن المستدامة"( Sustainable Cities Research Institute). صدر هذا المقال للمرّة الأولى على موقع "ذا كونفرسيشن".
© The Independent