بالتأكيد، الموطن الإيراني هو الخاسر الوحيد في الأزمة الحالية التي تشعلها طهران بقيادة الحرس الثوري، والتي يقابلها عقوبات أميركية عنيفة دفعت الاقتصاد الإيراني إلى التهاوي باتجاه مستويات غير مسبوقة من الضعف والانهيار.
أمس، قال الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، إن الولايات المتحدة فرضت عقوبات كبيرة على المصرف المركزي الإيراني بعد الهجوم الذي استهدف مواقع تابعة لشركة "أرامكو" السعودية.
وأوضح، في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن إيران من أوائل الدول الراعية للإرهاب في العالم ولا بد من منعها من الحصول على الأسلحة النووية. وقال "يجب منع سلوك إيران المُزعزع للاستقرار وسنعمل على تشديد العقوبات عليها".
ومثلما تواجه حكومة طهران أزمة عنيفة في تراجع عائداتها جرّاء اتجاه أميركي قوي إلى تصفير صادرات النفط، فإن المواطن الإيراني يواجه أزمة أكبر مع انهيار عملة بلاده، ما يدفع إلى موجة ارتفاع "جنونية" في أسعار السلع والخدمات، وبالتالي تبنت الحكومة سياسة إزالة مجموعة من الأصفار من قيمة العملة التي تواصل الانهيار أمام الدولار الأميركي.
هجوم أميركي عنيف على النظام الإيراني
الرئيس الأميركي قال إن طهران تموّل النزاعات داخل سوريا واليمن، وإن النظام الإيراني يشن هجمات في أماكن مختلفة. وأوضح أن "النظام القمعي في إيران يرفض السلام، وهو من أكبر التهديدات التي نواجهها اليوم من أوائل الدول الداعمة للإرهاب".
وقال إن "أميركا، وهي أكبر قوة في العالم، وآمل ألا نضطر إلى استخدامها، لكن في الوقت نفسه حان الوقت لكي يتوقف قادة إيران عن تهديد جيرانهم"، وأضاف "نسعى إلى التناغم والسلام حول العالم، لا إلى حروب بلا نهاية".
وقال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إن الهجوم التخريبي على المنشآت النفطية السعودية مرفوض، مجدداً إدانة الأمم المتحدة لاعتداء منشأتي النفط في خريص وبقيق السعوديتين، وشدّد على ضرورة وقف تهديد الصواريخ الباليستية.
انهيار قياسي في سعر الريال مقابل الدولار
في نهاية يوليو (تموز) الماضي، أقرّت الحكومة الإيرانية الخاضعة لعقوبات أميركية قاسية، خطة لحذف عدة أصفار من عملتها واستبدال "التومان" بـ"الريال".
وواصلت قيمة الريال الإيراني التدهور منذ العام الماضي. وقبل ثلاثة أعوام كان الدولار الأميركي يساوي 37 ألف ريال إيراني، لكن العملة الإيرانية تدهورت بشكل كبير العام الماضي ليصبح الدولار الواحد يساوي 180 ألف ريال، علما بأن سعر الصرف الرسمي كان 42 ألف ريال للدولار الواحد.
وتشكّلت حينها طوابير طويلة أمام مكاتب الصيرفة قبل أن تقرر الحكومة الإيرانية توقيف أصحاب مكاتب الصيرفة غير المرخّص لهم بالعمل وتجميد حسابات المضاربين.
وفي سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، رفضت اللجنة الاقتصادية بمجلس الشورى الإسلامي الإيراني، مقترحاً تقدمت به حكومة الرئيس حسن روحاني، لإحلال "التومان" كعملة وطنية لإيران بدلا من "الريال"، وإلغاء "صفر" من سعر صرف الريال مقابل الدولار الأميركي.
وتلجأ الدول إلى خطوة حذف أصفار من عملتها المحلية لعدة أسباب، منها مواجهة معدلات التضخم المرتفعة جداً في العملة المحلية، أو مواجهة انهيار اقتصادي محتمل. وتسهم خطوة حذف الأصفار من العملة المحلية أيضاً في تسهيل عمليات الشراء والبيع، والتخفيف من حمل كميات كبيرة من الأوراق النقدية، وربما إعطاء دفعة نفسية إيجابية للمواطنين، بحيث يشعرون، ولو من باب الشعور فقط، بأن القوة الشرائية لعملة بلادهم أصبحت أفضل.
خسائر عنيفة بعد الاقتراب من تصفير صادرات نفط إيران
في وقت سابق من الشهر الماضي، قال وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إن الولايات المتحدة أزالت نحو 2.7 مليون برميل من النفط الإيراني من الأسواق العالمية نتيجة لقرار واشنطن إعادة فرض العقوبات على جميع مشتريات الخام الإيراني. وأضاف أن الولايات المتحدة واثقة من قدرتها على مواصلة استراتيجيتها تلك.
وكانت الولايات المتحدة أعادت فرض العقوبات على إيران في نوفمبر (تشرين الثاني) بعد الانسحاب من اتفاق 2015 النووي بين طهران والقوى العالمية الست.
وفي مايو (أيار)، أنهت واشنطن العمل بإعفاء من العقوبات كانت تمنحه لبعض مستوردي الخام الإيراني، مستهدفة وقف صادرات طهران تماما.
وبحسب مصدر بالصناعة يرصد مثل تلك التدفقات وبيانات من "رفينيتيف أيكون"، صدّرت إيران نحو 100 ألف برميل يوميا من الخام في يوليو (تموز) الماضي. وبحساب المكثفات، وهي نوع من النفط الخفيف، تكون الشحنات قد بلغت نحو 120 ألف برميل يوميا.
وقال وزير الخارجية الأميركي "استطعنا استئصال نحو 2.7 مليون برميل من النفط الخام من السوق، لنحرم إيران من الثروة التي يستخدمونها في حملتهم الإرهابية في أنحاء العالم، واستطعنا أن نحافظ على تلقي أسواق النفط إمدادات كاملة".
خطة حذف الأصفار واستبدال العملة
وتتبنى الحكومة الإيرانية خطة لاستبدال "التومان" بـ "الريال" مع حذف أربعة أصفار منها، وهي ثاني محاولة لطهران في هذا الاتجاه بعد أن قدمت الحكومة خطة مماثلة لمجلس الشورى (البرلمان) في عام 2016، بيد أنه لم يتم تمريرها بعد رفضها من جانب الأخير حينئذٍ.
ومن شأن تطبيق هذا الإجراء أن يساعد طهران، على نحو ما، في تعزيز الثقة المحلية والدولية بالعملة، وتسهيل حسابات المعاملات المالية والتجارية للأفراد والشركات، بجانب خفض تكلفة طباعة الأوراق النقدية.
لكن ومع ذلك، يبدو أن أثر هذه الخطوة على سوق الصرف سيكون قصير الأجل، بخاصة أنها تحتاج بدورها لإجراءات أوسع لعلاج تشوهاتها المتعددة والممتدة منذ فترة طويلة.
كيف تبرر الحكومة الإيرانية إجراءات تغيير العملة؟
المتحدث باسم الحكومة الإيرانية، علي ربيعي، قال في تصريحات سابقة، إن الحكومة الإيرانية أقرت مشروع قانون لحذف 4 أصفار من العملة، وهو الإجراء نفسه الذي سبق أن اتخذته العديد من دول العالم، من بينها تركيا، على خلفية التدهور الشديد الذي شهدته قيمة عملتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان من المقرر أن يساوي التومان الواحد نحو 10 آلاف ريال، بحسب خطة البنك المركزي الإيراني التي عرضها على الحكومة والبرلمان الإيرانيين في يناير (كانون الثاني) الماضي. بيد أن البدء في تطبيق هذه الخطة قد يستغرق وقتاً طويلاً، حيث يحتاج إلى موافقة البرلمان ومجلس صيانة الدستور، ليصبح قانوناً نافذاً بعد ذلك.
وهذه ليست المرة الأولى التي تنوي فيها إيران تصفير قيمة عملتها، حيث وافقت حكومة الرئيس حسن روحاني، في ديسمبر (كانون الأول) من العام 2016، على مقترح قدمه البنك المركزي لتغيير العملة الوطنية من الريال إلى التومان، إلا أنه تم تأجيل تنفيذها في ضوء عدم موافقة البرلمان عليها حينئذٍ.
ويمكن القول إن السبب الرئيس الذي أسهم في طرح هذه الخطة مجدداً يكمن في الضغوط الاقتصادية والمالية التي تواجهها إيران خلال الآونة الأخيرة، عقب تطبيق الولايات المتحدة الأميركية جولتين من العقوبات الاقتصادية عليها في أغسطس (آب) ونوفمبر (تشرين الثاني) الماضيين، تسببت في انخفاض صادرات النفط، وهي أهم مواردها من النقد الأجنبي، على نحو أدى إلى انكماش الاقتصاد بنسبة 3.9 بالمئة في عام 2018، ومن المتوقع أن يزيد هذا الانكماش بشكل حاد إلى 6 بالمئة خلال عام 2019، وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي.
محدودية السياسة النقدية في احتواء أزمة سوق الصرف
مركز المستقبل للدراسات والأبحاث المتقدمة ذكر، في دراسة حديثة، أنه يمكن تفسير اتجاه إيران نحو استبدال عملتها وحذف عدة أصفار منها في ضوء اعتبارات أربعة رئيسة، يتمثل أولها في محدودية فعالية السياسة النقدية الحالية في احتواء تدهور سعر الصرف، فمن بين إجراءات مختلفة، ضخ البنك المركزي 5 مليارات دولار في سوق الصرف منذ مارس (آذار) وحتى يوليو (تموز) الماضيين، بيد أن ذلك لم يحل دون هبوط قيمة الريال أمام الدولار الأميركي في الفترة الأخيرة.
ويتعلق ثانيها بتعزيز الثقة المحلية والدولية في العملة، إذ إن حذف هذه الأصفار يمكن أن يدعم نسبياً من الثقة والمصداقية المحلية في قيمة العملة، كما سيعزز من السمعة العالمية لها، حيث من المحتمل أن يكون له تأثير نفسي إيجابي على المتعاملين في السوقين المحلية والدولية، الذين سيرون قيمة عملة أكثر قوة نسبياً بدلاً من سعرها السابق الذي يتجاوز عشرات الألوف.
وينصرف ثالثها إلى تسهيل الحسابات المالية والتجارية، حيث إن هذه الخطوة سوف تجعل عمليات المحاسبة والمراجعة للمعاملات المالية والتجارية تتم بشكل يسير بدلاً من تسويتها بقيم معاملات كبيرة للغاية، سواء بالنسبة إلى القطاعين الخاص والعام، أو بالنسبة إلى الجمهور.
في هذا السياق، قال عبد الناصر همتي، محافظ البنك المركزي الإيراني، في يناير (كانون الثاني) الماضي "بعض الخبراء يقولون إن هذا لن يكون له أي تأثير على التضخم... هذا مجرد تبسيط".
ويتصل رابعها بخفض تكلفة طباعة الأوراق النقدية، فعندما يتحسن نسبياً سعر صرف العملة المحلية المقرر إطلاقها في المستقبل، ستنخفض الحاجة نسبياً إلى طباعة مزيد من الأوراق النقدية أو فئات جديدة منها، وعلى حدّ قول رئيس البنك المركزي، في يناير الماضي، فإن تكلفة طباعة العملة الورقية فئة 5000 ريال تصل إلى 80 بالمئة من قيمتها النقدية (أي نحو 4000 ريال).
عملية معقدة تستغرق وقتاً طويلاً
لكن من دون شك، يعتبر استبدال العملة الجديدة بالريال عملية معقدة وقد تستغرق وقتاً طويلاً، حيث سيتم سحب الأوراق النقدية القديمة وطباعة أوراق مالية جديدة، وهو ما قد يستغرق نحو عامين بحسب البنك المركزي، ويعني أن الأوضاع الحالية لسوق الصرف ستظل كما هي لفترة طويلة.
وعلى الأرجح، فإن التأثير النفسي الإيجابي الأوَّلي لاستبدال العملة قصير الأجل، ولن ينجح في احتواء معدل التضخم المرتفع في البلاد ما لم تتجه السلطات إلى معالجة الأسباب الحقيقية لتدهور قيمة العملة المحلية، ومن أهمها انخفاض سيولة النقد الأجنبي بسبب العقوبات التي تهدف من خلالها الولايات المتحدة الأميركية إلى تصفير صادرات إيران من النفط الخام للأسواق الدولية.
وتعاني سوق الصرف في إيران من تشوهات عديدة منذ فترة طويلة، يتمثل أبرز مؤشراتها في نظام سعر الصرف ذاته الذي يتسم بالجمود والثنائية. إذ لا تسمح سلطات البنك المركزي بتحرك العملة وفقاً لآليات العرض والطلب، بمعنى أنها تتحكم في تحركات سعر الصرف، وهو ما يسمح بوجود سعر صرف رسمي ثابت نسبياً يحدد أسعار الواردات وبعض المعاملات الحكومية، وسعر صرف آخر يجرى تداوله بفارق كبير في سوق مكاتب الصرافة المرخصة وكذلك السوق السوداء غير المرخصة، ويحدد في أغلب الأحوال باقي المعاملات بين الأفراد والشركات.
ويمكن القول إن اتجاه الحكومة والبنك المركزي نحو تصفير قيمة العملة يبدو محدود الفعالية في مواجهة تدهور سعر الصرف، ما لم تتخذ مزيداً من الإجراءات التي يمكن أن تسهم في علاج التشوهات الحالية لسوق الصرف.