ملخص
يتضمن كتاب الروائي أشرف العشماوي "مواليد حديقة الحيوان" ثلاث روايات قصيرة مفتوحة على عوالم لا نهائية. وينسج المؤلف لأبطاله حالات من الفوضى والحيرة ومواقف وعلاقات متشابكة قد لا تخضع للمنطق. لكنهم في الوقت نفسه ينخرطون فيها بأجسادهم وأراوحهم ويستشفون معانيها بقلوبهم وضمائرهم، وتتأثر بها مصائرهم المتباينة.
يقدم الروائي المصري أشرف العشماوي في عمله الجديد "مواليد حديقة الحيوان" (الدار المصرية اللبنانية، 2024) ثلاث روايات قصيرة متتالية. واحدة منها وهي الثالثة وفق ترتيب الكتاب تحمل عنوان الغلاف. أما الروايتان الأولى والثانية فهما "كابينة لا ترى البحر" و"مزرعة الخنازير". وتنقسم كل رواية قصيرة "نوفيلا" إلى مجموعة من العناوين الفرعية تأخذ صورة أسئلة لعبة الكلمات المتقاطعة. ولا يتغير الراوي في كل "نوفيلا" على حدة، وهو الأنا المتكلم في الأولى والراوي العليم في الثانية والثالثة.
ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن في إصدار العشماوي (58 سنة) الذي يأتي بعد 11 رواية له وكتاب توثيقي عن استعادة الآثار المصرية، هو ذلك الرابط المشترك أو الثيمة الجامعة بين الروايات الثلاث التي يتخطى مجموعها 250 صفحة بقليل. ويثار سؤال آخر حول اختيار عنوان النوفيلا الثالثة "مواليد حديقة الحيوان" ليصير عنوناً للكتاب ككل، وهل يعني ذلك الاختيار انحيازاً محتملاً أو إشارة خاصة؟
"لا يمكنني تأكيد أن الأحداث حقيقية وفي الوقت نفسه لا أستطيع النفي". عبارة افتتاحية تتصدر الكتاب وتمهد الطريق للوصول إلى الخيط الأساس الذي يلضم الروايات الثلاث، ويكشف ملامح تقاطعاتها وتشابكاتها على رغم اختلاف شخصياتها ووقائعها وأمكنتها وأزمنتها عن بعضها بعضاً.
هذا الخيط الرئيس أو ما يمكن تسميته "منطقة عمل الروايات" هو ذلك اللعب الفني الذكي المشغول على كل ما هو "بين بين" في هذه الحياة، وبمعنى أوضح هو ذلك الرهان على أن تتقصى الكتابة الإبداعية تلك المساحة الضبابية بين الصورة المسطحة الثابتة والأصل المتحرك المراوغ المتعدد الأبعاد والأوجه، وأن تكون الكتابة كشفية الطابع تتناول الحالات البرزخية واللحظات المتذبذبة الغامضة الكائنة بين الواقع والوهم، والحقيقة والخيال والوعي واللا معقول والصدق والزيف ولا تهمل أيضاً الأحلام والأساطير والسحر والهذيان، ومقولات العرافات والمنجمين وكل ما هو مشوق ومثير وملغز.
العنوان البديل
وثمة مقولة معبرة هي "كل الصور خادعة" ترددت أكثر من مرة على لسان الفتاة "حياة" التي فقدت حياتها في ريعان شبابها، ولسان شقيقها "عارف" الذي لا يعرف شيئاً على رغم امتلاكه صندوق صور فوتوغرافية قديمة للعائلة، في نوفيلا "كابينة لا ترى البحر". وربما تمثل هذه المقولة المتكررة عنواناً عاماً بديلاً أكثر مقاربة لأجواء الروايات الثلاث القصيرة بكل تجلياتها وتمظهراتها وإحداثياتها وإسقاطاتها، وهي كلها تجمع على أن الرؤى متفاوتة ونسبية وأن مساحة الاختلاف أرحب دائماً من حيز الاتفاق، وأن امتلاك الحقيقة أو احتكار المعرفة أو ادعاء اليقين الكامل من المستحيلات، خصوصاً في ما يخص العلاقات الإنسانية المعقدة والمعاملات المتداخلة والمصالح المتضاربة.
ولعل العشماوي الفائز بجائزة كتارا 2023 لأفضل رواية عربية عن "الجمعية السرية للمواطنين" لم يتخذ "كل الصور خادعة" عنواناً صريحاً لكتابه الجديد، وفضل عليه عنوان النوفيلا الثالثة "مواليد حديقة الحيوان" على اعتبار أن تلك النوفيلا هي الأكثر استغراقاً مثلاً في أسطرة الأحداث ومزج الواقعي والفانتازي معاً إلى حد العبث أو الجنون.
وعلى رغم ذلك فإن صاحب "المرشد" و"البارمان" و"كلاب الراعي" و"صالة أورفانيللي" و"السرعة القصوى صفر" وغيرها من الروايات المعروفة الرائجة، لم يتخل كلية عن عنوانه الضمني الجاذب "كل الصور خادعة" لأنه لا يزال يؤمن به حتى النهاية، كمحور تدور حوله الروايات القصيرة الثلاث.
وأثبت المؤلف بالفعل مضمون ذلك العنوان البديل مفصلاً على الغلاف الخلفي "لا تر بأذنيك ولا تسمع بعينيك ولا تصدق كل ما يقال لك، فبعض الكلمات صور لو تأملتها لرأيت تفاصيل لم تدركها من النظرة الأولى. أطياف مهزوزة في خلفيتها وأشياء صغيرة دالة على زمانها ومكانها. وإذا ما قلبتها لربما صافحت عيناك كلمات دونها صاحبها قد تغير رؤيتك عنها. والحقيقة نراها منقوصة دوماً لكننا نشعر بها كاملة فلا تثق إلا بقلبك".
وجوه المسرح المتنوعة
يقترح أشرف العشماوي في رواياته القصيرة ثلاث حكايا مختلفة تبدو وقائعها الظاهرية قريبة، ومستندة إلى قدر مقبول من المنطق أو إمكانية التحقق. ولكن هذه الواقعية ليست إلا وجهاً واحداً من وجوه المسرح الفني الذي تحتشد فيه أيضاً تفاصيل ومواقف ومفارقات وأحداث فرعية، فانتازية وأسطورية وحلمية ومتوهمة مما يجعلها واقعية أغرب من الخيال ويمنح كل حكاية دلالات وإسقاطات وترميزات لا نهائية.
وفي نوفيلا "كابينة لا ترى البحر" التي تدور في الزمن الحالي يحكي الفتى المراهق "عارف" قصة ضياع أسرته الفقيرة جيلاً بعد جيل. فالجد الذي لا يكاد يعرف الضحك ويتشابه اسمه مع الباشا رجل الأعمال الشهير يتضح أنه لم يكن يعمل في ليبيا مثلما كان يدعي، بل كان يدخل السجن مرة تلو أخرى بدل الباشا نظير تقاضيه أموالاً تستر عائلته. ويكتشف عارف ذلك السر من بعض قصاصات الصحف المخبوءة في صندوق الصور العائلية القديمة في حين لم تدله "الصور" ذاتها على شيء من هذه الحقيقة العارية المؤلمة.
ويموت الأب صغيراً ثم تتبعه الأم جراء مرض عضال ويضيع عارف وشقيقته "حياة" في أول احتكاك مع الطبقة الراقية في مصيف الساحل الشمالي. وتموت الفتاة حياة قتيلة في إحدى حفلات العربدة في فيلا الباشا بعدما أعطاها حفيده قرصاً مخدراً ضمن ممارسات التحدي وركوب التريند. وتتكرر مأساة الجد بأن يضطر عارف إلى الاعتراف زوراً بأنه هو الذي تسبب في قتل شقيقته ليدخل الفتى المهزوم المكلوم السجن بدلاً من حفيد الباشا الذي لا يتحمل أن يبيت في الحجز قيد التحقيق ليلة واحدة "مفيش ظلم وعدل. إنت ينفع تتحبس مكان واحد ما ينفعش يتحبس".
وفي "مزرعة الخنازير" التي تدور في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي، يلجأ "فايز حنا" أحد الأقباط في صعيد مصر إلى الادعاء بأنه مات "حياتك في موتك" وذلك خوفاً من التطرف الديني واضطهاد الجماعة السنية، لأنه يمتلك مزرعة خنازير. وبعدها ينفذ فكرة محاميه بأن "يغير اسمه وهيئته" فيصير شخصاً آخر مسلماً ويهرب إلى القاهرة، ويبدأ بيع لحوم الخنازير الرخيصة التي هربها على أنها لحوم أبقار غالية بعدما يخلطها بتركيبة خاصة تغير "صورتها ومذاقها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويصير الشخص الجديد رجلاً بالغ الثراء وإنساناً مرموقاً في المجتمع ورمزاً من رموز الحزب والبرلمان. إلا أنه صار أكبر مما ينبغي لمثله فيتآمر الصفوة لتصفيته وتتحقق نبوءة العرافة العجوز حول مصيره المحتوم، الذي لم يتمكن من الفرار منه على رغم تغييره "اسمه وصورته".
أما "مواليد حديقة الحيوان" التي تدور أيضاً في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات فتستعرض حكاية "إسماعيل"، الشاب الجامعي المتخرج في كلية الطب البيطري والذي ولد في استراحة حديقة الحيوان حيث كان يعمل والده قبل أن يموت متأثراً بهجوم الأسد عليه.
ولا يجد الشاب عملاً في أواخر عهد الرئيس السادات سوى كحارس لبيت الفيل مما يؤجل زواجه من خطيبته "عايدة"، ويعرضه لازدراء أهلها والمجتمع كله وذلك في "عام الرخاء" وفق تسمية الرئيس السادات، التي يستحضرها الراوي على سبيل السخرية. ويستغل مدير الحديقة ظروف الشاب وخطيبته فيعرض عليهما أن يرتديا ملابس أسدين (على غرار مسرحية "شاهد ما شفش حاجة") ليحلا محل الأسدين اللذين ماتا في الحديقة نتيجة سوء التغذية، ويعدهما كذباً بمكافأة كبيرة.
ويوهمهما مدير الحديقة بأن ذلك الأمر ليس خداعاً وإنما "مهمة قومية" لأن الرئيس السادات وضيفه الرئيس الكيني سيتفقدان قفص الأسود ولابد من وجودهما فيه بدل الأسدين. وتتمادى الأحداث الغرائبية بموافقتهما على تمثيل "صورتي الأسدين". ثم يتم القبض عليهما ويتهمان بالاشتراك في مؤامرة اغتيال السادات وتسمى جريمتهما "عملية الأسد"، وينسبها بعض الإعلاميين إلى نظام الأسد السوري المعادي للسادات في ذلك الوقت!
ما وراء الحكايات
وهكذا تبدأ كل حكاية من لحم الواقع ولكنها لا تقتصر عليه، ولا تقف عند حدوده الضيقة. فما وراء الحكاية دائماً من فانتازيا مجنحة وتطورات مذهلة هو الأهم، والأكثر تأثيراً في معالجة الأحداث وإدهاش المتلقي. وتتعدد إسقاطات الروايات الثلاث وترميزاتها إذ تنطلق من الخاص إلى العام فتعكس أزمات أجيال بأكملها، وتبرز انكسارات طبقات اجتماعية واقتصادية متوسطة ودنيا أكلتها الطبقات العليا والفئات النخبوية والسلطوية، وسحقت طموحها وآمالها وشوهت ماضيها وقضت على حاضرها ووأدت مستقبلها في مهده. وتفجر الروايات قضايا ملحة ومهمة مثل الفساد والبطالة والمحسوبية والتشرذم الأسري وغياب العدالة وغيرها.
وجاءت لغة السرد الروائي بسيطة ومرنة لأنها تهدف إلى الوصول إلى المراد من أقصر الطرق في حين ارتكزت الحوارات على العامية المصرية، بما يلائم كل شخصية وعمرها وبيئتها المحلية ومستواها التعليمي.
واتسمت المشاهد بالحركية والتوتر والكادرات القصيرة المتقطعة التي تتناغم مع تقنية لعبة الكلمات المتقاطعة في العناوين الفرعية (مرادف قهر وكرامة مبعثرة وعكس بدايات... إلخ). وتتسق هذه الكادرات مع الطابع السينمائي لكل نوفيلا يسهل تحويلها إلى فيلم مليء باللقطات الحية والصراعات المتنامية.