Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عن حروب أميركا وقواعدها العسكرية

هل واشنطن على استعداد لخوض أكثر من معركة كبرى في وقت واحد؟

واشنطن لا تزال تحتفظ بنحو 800 قاعدة موزعة في قارات الأرض الست (أ ف ب/ غيتي)

ملخص

يبدو الجدل حول قدرة أميركا على خوض حربين، وانتشار القواعد الأميركية العسكرية في الخارج، أمراً طبيعياً في حالة القوى الإمبراطورية التي تدلف إلى منطقة الأفول، إذ تبلغ ذروة قوتها وسيطرتها عند لحظة زمنية بعينها، ثم يبدأ المنحنى في التراجع. حكمة كونية ورؤية إلهية "وتلك الأيام نداولها بين الناس".

على رغم أن حديث المعركة الانتخابية الرئاسية يكاد يعلو على كل صوت آخر، لا سيما في هذه الأشهر القليلة المتبقية قبل الوصول إلى نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، فإن هناك في واقع الأمر عديداً من القضايا التي لا تزال تمثل هاجساً قوياً ومخيفاً لأساطين الدولة الأميركية العميقة، لا سيما أعضاء المجمع الصناعي العسكري الأميركي بأبعاده الثلاثة: أصحاب المصانع العسكرية من ناحية، والمشرعون في الكونغرس الأميركي، وجنرالات "البنتاغون"، من ناحية ثانية.

وفي مقدم تلك القضايا تأتي إشكالية الحروب الأميركية، فالحروب بالنسبة إلى القوى العظمى دائماً وعبر التاريخ أمر ملازم لحضورها، صعوداً وهبوطاً، وفي دفاعها عن مكانتها القطبية، لا بد لها من أن تخوضها رغبة أو رهبة، طوعاً أو قسراً.

ولا تشذ الولايات المتحدة عن هذا السياق، ولهذا يبدو سؤال جهوزيتها للحروب أمراً فائق الأهمية، لا سيما في ظل إرهاصات عالم متعدد القطبية.

 

والسؤال المثير المطروح في الآونة الأخيرة: "هل يمكن للولايات المتحدة الأميركية أن تخوض أكثر من حرب قطبية كبرى حول العالم في وقت واحد؟".

في عهد الرؤساء باراك أوباما ودونالد ترمب وجو بايدن ارتكزت استراتيجية الدفاع الأميركية على فكرة متفائلة مفادها بأن الولايات المتحدة لن تحتاج أبداً إلى خوض أكثر من حرب واحدة، ومن هذا المنطلق جرت حركة تقشف تخلت فيها وزارة الدفاع الأميركية عن سياستها الطويلة الأمد المتمثلة في الاستعداد لخوض حربين كبيرتين والفوز فيهما في الوقت ذاته.

على أنه اليوم، وقرب نهاية ولاية بايدن الأولى، تبدو التحديات مزعجة، فهناك جرح قطبي ساخن ومفتوح في أوكرانيا، جرح كفيل بأن يأخذ العالم إلى حرب كبرى، تقليدية أول الأمر، إن لم يتحول تالياً إلى مواجهة نووية.

وفي آسيا أيضاً تبقى ملفات النزاع مع الصين، سواء كان بسبب بحر الصين الجنوبي أو جزيرة تايوان قابلة للانفجار بين عشية وضحاها.

في الخليج العربي يظل الملف الإيراني بدوره قابلاً للاشتعال والدخول في حرب كبرى، وبالمثل الوضع في كوريا الشمالية، ناهيك عما يمكن أن يستجد في قارة أميركا اللاتينية من حروب محتملة، جراء الرغبة الروسية والصينية في إيجاد موطئ قدم عسكرية هناك.

وهنا يتساءل البعض: "هل احتمالات الحروب تعزز الحاجة إلى القواعد الأميركية العسكرية خارج البلاد؟".

من الواضح أن هناك رؤية ثنائية، فالبعض يرى أنها أمر مهم للغاية لحروب أميركا القائمة والقادمة، فيما فريق آخر يجزم بأنها باتت تمثل عبئاً على كاهل الأميركيين والحلفاء الذين يستضيفونها على أراضيهم. من أين لنا بداية هذا النقاش؟

دفاع أميركا ومنافسة القوى العظمى

نقرأ في تقرير خدمة أبحاث الكونغرس عنوانه "منافسة القوى العظمى: الآثار المترتبة على الدفاع"، الذي تم تحديثه آخر مرة في عام 2018 أن "الجيش الأميركي في الوقت الحاضر قادر على القيام بشيء أقل من صراعين كبيرين متزامنين أو متداخلين".

وعلى مدى ما يقارب ثلاثة عقود بعد نهاية الحرب الباردة حافظ "البنتاغون" على "بنية الحربين"، التي بموجبها تأكدت الولايات المتحدة من قدرتها على الفوز في حربين متزامنتين في مسارح مختلفة، وكانت الفكرة تتلخص في أن الولايات المتحدة ستكون قادرة على مواجهة دولة معادية في الشرق الأوسط مثل العراق أو إيران، وتظل قادرة على هزيمة كوريا الشمالية في شرق آسيا. غير أنه في عام 2018 حدث تحول جوهري لم تتم مناقشته كثيراً في التخطيط العسكري الأميركي. فهل تراجعت واشنطن بالفعل عن جهوزيتها لخوض حربين كبيرتين في وقت واحد؟

لم يتضمن الملخص غير السري لاستراتيجية الدفاع الوطنية لعام 2018 بياناً صريحاً حول بنية تخطيط القوة لكنه يشير إلى التحول.

 

وتقول الوثيقة إن الجيش الأميركي سيكون قادراً على "هزيمة العدوان من قبل قوة كبرى"، بينما "يردع" العدوان الانتهازي في أماكن أخرى. "وهذا يعني أنه بينما يخوض الجيش حربه ذات الأولوية القصوى، فإن الجبهة الثانية ستظل معلقة حتى انتهاء الصراع الأول".

وفي تعليقه على هذه الاستراتيجية، يقول المسؤول السابق في "البنتاغون"، وأحد المؤلفين الرئيسين للتقرير، جيم متري إن "هناك تحولاً جرى بالفعل على صعيد مفاهيم الحروب التي يمكن أن تخوضها أميركا، فقد تم إعطاء الأولوية لقدرة الجيش الأميركي على هزيمة الصين أو روسيا في حرب واحدة على القدرة على هزيمة خصمين إقليميين في الوقت نفسه".

لكن حقائق عام 2024 شوشت خطة اللعبة، وبدلاً من تركيز كل الاهتمام الأميركي على الصين، تواجه الولايات المتحدة أزمة محتملة على أربع جبهات: مساعدة أوكرانيا على صد الهجوم الروسي، ودعم إسرائيل في هدفها المعلن المتمثل في القضاء على "حماس"، والتعامل مع كوريا الشمالية الاستفزازية على نحو متزايد، والاستعداد لوقف الغزو الصيني أو الكوري الشمالي في المستقبل، وبالطبع من غير أن نوفر القول المواجهة المحتملة مع إيران، التي تحاول واشنطن تجنبها عبر السعي إلى الوصول إلى اتفاق نووي جديد.

ما المطلوب من العسكرية الأميركية؟

أحد أفضل العقول الأميركية التي قدمت رؤى واقعية وعقلانية في مواجهة علامة الاستفهام المتقدمة، البروفيسور مايكل أوهانلون مدير أبحاث السياسة الخارجية في معهد "بروكينغز"، والمتخصص في استراتيجية الدفاع الأميركية واستخدام القوة العسكرية وسياسة الأمن القومي الأميركي.

ويحيلنا الرجل في جوابه على نص العقيدة الرسمية لوزارة الدفاع الأميركية، إذ يجب أن يكون لدى الجيش الأميركي اليوم القدرة على القيام بما يلي في وقت واحد:

-الدفاع عن الوطن الأميركي مع الحفاظ على الردع النووي.

-ردع كوريا الشمالية وإيران (من دون تحديد الكيفية بالضبط).

-الحفاظ على الزخم ضد المنظمات المتطرفة العنيفة العابرة للحدود الوطنية كجزء مما يسمى "الحرب على الإرهاب ".

غير أن ما تقدم لا يزال يمثل مجرد إطار لحرب واحدة، فهل هذا ما يكفي من القوة العسكرية الأميركية في عالم اليوم؟

هنا تبدو أميركا في حاجة إلى تعزيز ردعها ضد العدوان الانتهازي المتزامن، لكن عند أوهانلون، المعيار الصحيح للقيام بذلك هو على الأرجح التأكد من أن البلاد لديها ما يكفي من القدرات الأساسية لكل من الأعداء الأربعة المحتملين الذين يمكنهم، مع الحلفاء، منع عدوان سريع وناجح من قبل أي منهم حتى مع تركيز معظم قواتها في حرب واحدة كبيرة.

 

هل من فوائد أخرى رئيسة لإطار التخطيط للحروب المتعددة؟

المؤكد نعم، ذلك أنه سيخلق في الواقع احتياطاً استراتيجياً من الذخائر، ومن خلال إنتاج الذخائر ونشرها مسبقاً لا يمكن أن تضمن الولايات المتحدة جهوزيتها لمواجهة حروب عدة تستمر وقتاً طويلاً.

ومن شأن هذه السياسة أيضاً أن توفر الوقت للبدء في تصنيع مزيد من الأسلحة لاستعادة القدرة القوية على تعدد المسارح إذا اندلعت حرب في مكان واحد. وبلغة الأسلحة القريبة للتصور فإن بعض القدرات الإضافية الرئيسة التي قد تكون مطلوبة لدعم مثل هذه الاستراتيجية تتمثل في التالي:

- سربان من الطائرات المقاتلة من الجيل الخامس المخصصة لكوريا الشمالية، لمهاجمة منصات إطلاق الصواريخ في وقت مبكر من أي حرب، والحد من الأضرار التي يمكن أن تلحق بكوريا الجنوبية.

-غواصات غير مأهولة متمركزة في غرب المحيط الهادئ مزودة بأجهزة استشعار مضادة للسفن.

-صواريخ لمساعدة تايوان على مقاومة محاولة الغزو الصيني.

-طائرات الرفع العمودي في أوكيناوا (اليابان) مجهزة بذخائر قابلة للاستخدام للغرض نفسه، وأنظمة دفاع صاروخية مخصصة للشرق الأوسط من النوع الذي ساعد في إحباط وابل الصواريخ والطائرات من دون طيار الذي أطلقته إيران أخيراً ضد إسرائيل.

-لواء من القوات البرية الأميركية مدعومة بالمقاتلات وطائرات الهليكوبتر الهجومية في دول البلطيق كرادع دائم ضد العدوان الروسي هناك.

-تعزيز بعض شبكات الاستشعار ومخزونات الذخيرة في القواعد الأميركية المنتشرة حول العالم.

فهل هذه الاستراتيجية يمكن أن تتسبب في اختصام من النفوذ الأميركي على جانب عالم الردع النقدي وليس النووي؟

يخشى الراسخون في العلم أن تكون واشنطن منساقة في كلف حروب التسلح لمواجهة أعداء متعددين، والتجهز لحروب مختلفة، سواء مع دول قطبية أو في صراعات إقليمية.

وتكاد موازنة الدفاع الوطني الأميركية تلامس سقف الـ900 مليار دولار، وهي بذلك تتجاوز بالفعل مقدرات الموازنة خلال الحرب الباردة، وتعادل ثلاثة أضعاف موازنة الصين، وستة أضعاف موازنة روسيا، في وقت يشكل العجز الفيدرالي الهيكلي في الولايات المتحدة تريليون دولار سنوياً. فهل تسقط أميركا في الفخ الذي تسبب في انهيار الاتحاد السوفياتي من قبل جراء سباق التسلح مع "الناتو" وكأن الأمر بمثابة قراءة في المعكوس؟

 

مؤشر القوة العسكرية الأميركية 2024

عادة وفي كل عام تصدر مؤسسة "هيريتاج" أو "التراث" الأميركية الشهيرة، ملخصاً تنفيذياً لمؤشر القوة العسكرية الأميركية، فما الذي يخبرنا إياه تقرير هذا العام عن أوضاع القوات المسلحة الأميركية؟

من الواضح أن التقييم العسكري للعام الجاري 2024 يتوقف عند ثلاثة منعطفات رئيسة تتمثل في ما يلي: "القوة والقدرة والاستعداد"، وبمعنى أكثر تفصيلاً، ما لدى الجيش الأميركي من قوات معروفة أو مجهولة لمواجهة الاعتداءات عليها في الداخل أو الخارج، ثم قدرتها على مجابهة تلك الهجمات نظرياً أول الأمر، وتالياً مدى استعدادها للمضي عملياً في سياق المبادأة قبل أن تتعرض للضربة الأولى.

في هذا التقييم من الواضح جداً أن الاستعدادات تمضي على قدم وساق لعسكرة الفضاء، وهنا يبدو الجانب المجهول في قدرات أميركا العسكرية، إذ عاد مرة أخرى برنامج حرب الكواكب أو النجوم، ذلك الذي أرسى ركائزه الرئيس الجمهوري رونالد ريغان عام 1983، في أوج الحرب الباردة مع حلف وارسو.

الجزئية الثانية التي يبدو أن واشنطن تعمد إليها لتكون ذراعها الطويلة في الفوز بالحروب المقبلة، تتمثل في الصواريخ الفرط صوتية، وهذه برع فيها الروس بنسبة كبيرة، إضافة إلى استحداث طرز جديدة قاتلة لا تصد ولا ترد من الصواريخ الباليستية ذات الرؤوس النووية، إذ لا تزال الكفة في هذا السياق تميل إلى روسيا، وصواريخها الجهنمية، لا سيما الصاروخ الشيطاني "سارامات".

والثابت أن أحد أهم عناصر القوة التي مكنت للولايات المتحدة من السيطرة على مقدرات العالم طوال ثلاثة عقود، أي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تمثل في المقدرة على الإبحار حول العالم مرة كل 24 ساعة، من خلال أساطيل عدة تجوب المحيطات العالمية.

واليوم يبدو أن هذه السيطرة آخذة في التراجع من دون أدنى شك، لا سيما في ظل الصحوة البحرية الصينية، إذ تدشن بكين أعداداً هائلة من القطع البحرية التقليدية، وأخرى تحمل أسلحة نووية.

أما عن روسيا وعالم البحار، فعلى رغم قلة ما تملكه من قطع بحرية، فإن ما لديها بالفعل من غواصات نووية وفرقاطات يكفي لأن يشاغب القدرات الأميركية، ويسبب لها نوعاً من الإزعاج المكلف، والدليل على صحة ما نقول هو زيادة بعض قطع الأسطول الروسي إلى كوبا أخيراً، والانتباه والمراقبة الأميركيان لهذا الحدث.

ما الذي يخلص إليه مؤشر القوة العسكرية الأميركية في 2024؟

باختصار، تبدو القوة العسكرية الأميركية الحالية معرضة لخطر كبير لعدم قدرتها على تلبية متطلبات صراع إقليمي كبير واحد، مع الاهتمام بأنشطة الوجود والمشاركة لقوى دولية أخرى مختلفة.

هنا ربما لن تكون القوة الأميركية المسلحة قادرة على فعل المزيد، وهي بالتأكيد غير مجهزة للتعامل مع حربين كبيرتين، كما أن الوضع ينسحب على حلفاء واشنطن، لا سيما من الدول الأوروبية بسبب الحالة الضعيفة لأوضاع غالبيتهم عسكرياً.

ولعله في هذا السياق يتساءل البعض ممن تبدو مخاوف الولايات المتحدة عسكرياً "هل من روسيا أكثر أم من الصين؟".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واشنطن - بكين حرب طويلة ممتدة

الذين قدرت لهم قراءة استراتيجية الأمن القومي الأميركي الأولى في عهد الرئيس جو بايدن، التي صدرت في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022، ربما دهشوا من أن واشنطن ترى في الصين المهدد الأكبر للنفوذ الأميركي المسلح، على رغم أن روسيا في الوقت الحاضر هي من يكاد يشعل العالم من جراء الحرب مع أوكرانيا، ترى ما السبب؟

مؤكد أن الأميركيين يعلمون أن الحرب الروسية مع أوكرانيا لا بد لها من أن تتوقف بصورة أو بأخرى، وقد تكون فترة إطالة أمد النزاع مع كييف هدفها الرئيس هو استنزاف موسكو اقتصادياً، وتالياً عسكرياً، مما يمكن الغرب من فرض شروطه لإنهاء الأزمة، وهي في كل حال لا بد لها من أن تنتهي سلماً، فما من أحد قادر على أو راغب في تحولها إلى حرب عالمية، ومهما كثرت التهديدات من الجانبين وتصريحات الفناء النووي.

على الجانب الآخر تبين استراتيجية الأمن القومي الأميركي أن الخوف، كل الخوف، من الصين، فالصين تسعى بنهاية هذا العقد إلى بناء حائط صواريخ نووي جديد، قوامه نحو 1000 صاروخ باليستي محملة بأحدث أشكال القنابل النووية، ناهيك بتمددها براً وبحراً، ومن غير إغفال نجاحات صواريخها الفضائية، ووصولها أخيراً إلى الجانب المظلم من القمر، وهي خطوة تبدو وكأنها بداية طريق لعسكرة الفضاء صينياً.

ويذهب بريان كيرج المقدم وزميل مبادرة الأمن الهندي - الباسيفيكي في مركز "سكوكروفت" للاستراتيجية والأمن التابع للمجلس الأطلسي، إلى أنه لن تكون هناك حرب "قصيرة وحادة" بين واشنطن وبكين، بل إنه من المرجح أن تستمر المعركة بين الولايات المتحدة والصين سنوات، كيف ولماذا؟

ببساطة تبدو المفاهيم الحربية القديمة التي كانت منتشرة بين القادة العسكريين والمخططين والمنظرين، إذ معركة من شأنها أن تلحق بالعدو هزيمة مذهلة، فتنكسر إرادته في القتال، مما يجبر قيادة العدو على طلب السلام أو قبوله بطريقة أخرى شروط الاستسلام في الحرب البحرية، تبدو وكأنها ذهبت من دون عودة، وحلت محلها مفاهيم مغايرة.

نادراً ما تكون الحروب بين القوى العظمى قصيرة وحادة، إذا استثنينا صراعاً نووياً مهلكاً للزرع والضرع، لكنها في غالب الأحيان طويلة ومرهقة من الاستنزاف وتميل إلى التوسع أفقياً مما يؤدي إلى إيقاع مناطق أخرى في أعقابها.

بطبيعة الحال من الممكن أن يكون الصراع بين الولايات المتحدة والصين في شأن تايوان استثناءً، وقد يكون قصيراً ومحدوداً بدلاً من أن يكون طويل الأمد وواسع النطاق، ولكن من غير المسؤول افتراض مثل هذه النتيجة في ظل التاريخ.

فهل فكرة الحرب الطويلة مع الصين نابعة من مقدرات الصين الفكرية الكونفوشيوسية ومن زخم "فن الحرب" لسون تزو (جنرال صيني ومتخصص في الشأن العسكري وفيلسوف)؟

ذات مرة تحدث رئيس وزراء الصين العتيد شوان لاي عن فكرة صبر الصين لمدة 100 عام، بهدف الوصول إلى الغرض المراد تحقيقه، وهو ما يتجلى اليوم في عدم رغبة الصين في الدخول بصراع مع القوات المسلحة الأميركية.

لكن في غالب الأمر تميل الصين حال القارعة، إلى أن تجعل مع صراعها المسلح طويل الأمد، لا سيما أنها تدرك أن المجتمعات الرأسمالية، وسياقاتها الليبرالية، عطفاً على مداراتها التكنولوجية تتعطل بطرق عميقة وغير متوقعة في كثير من الأحيان، وهذا ما يعد مكسباً لمن لديه كثير من الصبر والنفس الطويل لمواجهة سنوات طوال من المعارك.

من هنا يمكن القطع بأن فكرة الحربين قد تكون حاضرة بالفعل، ذلك أنه وفي وقت تشتبك القوات الأميركية مع نظيرتها الصينية، ربما سينشب صراع مسلح آخر في منطقة أخرى حول العالم، مما يستدعي تدخلاً عسكرياً أميركياً عاجلاً.

هنا التساؤل "هل لهذا تحتفظ القوات المسلحة الأميركية بأكبر عدد من القواعد العسكرية لدولة ما فوق سطح الكرة الأرضية خارج ترابها الوطني؟ وإذا كانت القواعد لها هذه الأهمية، فلماذا تعلو أصوات أميركية تطالب بإغلاقها؟

أين توجد أهم قواعد أميركا؟

على رغم إغلاق عشرات القواعد الأميركية العسكرية خلال العقدين الماضيين حول العالم، فإن واشنطن لا تزال تحتفظ بنحو 800 قاعدة موزعة في قارات الأرض الست، وفي أكثر من 70 دولة ومنطقة خارج أراضيها. وتم بناء عديد من القواعد العسكرية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية، عندما تولت الولايات المتحدة مكانتها كزعيمة عالمية وحافظة سلام في ألمانيا واليابان وما حولهما، مما يفسر سبب امتلاك هاتين الدولتين أكبر عدد من القواعد، ثم أعطت الحرب الباردة والحرب الكورية الولايات المتحدة سبباً آخر في التوسع العسكري العالمي لاحتواء الشيوعية.

وتوسعت الولايات المتحدة حول العالم في العقود الثلاثة الأخيرة، بوصفها القطب الأوحد الذي يقوم عليه النظام الدولي، وحيث بشر الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، بما أطلق عليه "النظام العالمي الجديد"، أو بمعنى أدق "النظام الأميركي العالمي الجديد".

في سبتمبر (أيلول) عام 2022 كان هناك نحو 171736 جندياً أميركياً في الخدمة الفعلية في 178 دولة، معظمهم في اليابان نحو 53 ألفاً، وألمانيا 35 ألفاً، وكوريا الجنوبية 25 ألفاً، وتملك هذه الدول الثلاث أيضاً أكبر عدد من القواعد العسكرية الأميركية 120 و119 و73 قاعدة على التوالي:

عطفاً على ذلك، هناك جزر بعينها حول العالم، مثل جزيرة غوام في المحيط الهادئ، تعد حاملة طائرات أميركية ثابتة فوق الأرض، وتلعب دوراً متقدماً ومهماً جداً عسكرياً في مواجهة النفوذ الصيني العسكري في تلك المنطقة.

تاريخياً استخدمت الولايات المتحدة الترويج للديمقراطية كمبرر لنشر شبكتها العسكرية حول العالم.

ومنذ النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي اهتمت واشنطن بالقواعد العسكرية في منطقة الشرق الأوسط بنوع خاص، حرصاً على تدفق النفط، سائل الحضارة من تلك المنطقة، عطفاً على الجهوزية للذود عن أمن دولة إسرائيل.

فمن أين تكتسب فكرة انتشار القواعد الأميركية أهميتها بالنسبة إلى العسكرية الأميركية؟

المؤكد أن قضية التمركز الدائم للقوات تنطلق من قاعدة الردع والطمأنينة التكميلية، وهو ما أشار إليه البروفيسور الأميركي توماس شيليغ، الاقتصادي الأميركي الشهير والمتخصص في الشؤون الخارجية والأمن القومي، عطفاً على الاستراتيجية النووية والسيطرة على الأسلحة، في كتابه الكلاسيكي الشهير "الأسلحة والنفوذ".

ويذكرنا شيلينغ بأن الـ7 آلاف جندي أميركي الذين كانوا محصنين في برلين الغربية زمن الحرب الباردة، قد ساعدوا في إبقاء المدينة حرة، من خلال إرسال إشارات ملموسة إلى كل من الكتلة السوفياتية وحلفائها في شمال الأطلسي في شأن التزام الولايات المتحدة بالقتال من أجل أوروبا.

وبعد مرور نصف قرن لا يزال هذا المنطق الاستراتيجي صحيحاً، والعهدة هنا على البروفيسور رافائيل س. كوهين أحد كبار علماء السياسة في مؤسسة RAND العقل المفكر والمخطط لأنشطة الدفاع العسكرية الأميركية. وعند كوهين لا تزال الأبحاث تشير إلى أن وضع القوات البرية في المقدمة، بخاصة القوات الثقيلة الأقل قدرة على التحرك، يظل أحد أفضل الخيارات لردع الخصوم وطمأنة الحلفاء .

وهنا يبدو من الطبيعي ومن غير المستغرب أن تجد اللجنة الاستراتيجية للدفاع الوطني المؤلفة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي أنه "إذا كانت الولايات المتحدة ترغب في تجنب الصراع العسكري في هذه المناطق، فيجب عليها التأكد من وجود وضع يومي قادر على ردع الخصوم والانخراط في السيطرة العسكرية على التصعيد".

فهل يعني ذلك أنه لا توجد أصوات ترى أن تلك القواعد باتت تمثل عبئاً على مستقبل أميركا من جهات متعددة؟

عن رافضي القواعد العسكرية

لم تعد الجيوش فقط التي تمشي على بطونها كما قال نابليون بونابرت ذات مرة، بل الشعوب كذلك، وربما من هذه الجزئية تتجلى ملامح التضاد الواضح بين كلف تلك القواعد وفوائدها.

بعض الأرقام لا تكذب ولا تتجمل، والعهدة على مكتب المحاسبة الخاضع للكونغرس، فمنذ أكتوبر 2001 وحتى سبتمبر 2020، دفع دافعو الضرائب الأميركيون 6.4 تريليون دولار للحكومة الفيدرالية التي خاضت حروباً في أفغانستان والعراق وسوريا وباكستان. وفي السنوات التي تلت أحداث الـ11 من سبتمبر وحتى عام 2022، تلقت وزارة الدفاع زيادة قدرها 884 مليار دولار في موازنتها الأساسية.

وفي عام 2022 أنفقت الولايات المتحدة 887 مليار دولار على جيشها، وهو أكبر مبلغ أنفقته أي دولة أخرى، وأكثر من الصين وروسيا والهند والسعودية والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وكوريا الجنوبية واليابان وأوكرانيا مجتمعة.

فهل تتسق هذه الأرقام وديون الولايات المتحدة التي ناهزت 32 تريليون دولار؟ ما يعني أن كل طفل سيولد سيضحى محملاً ببضع مئات من آلاف الدولارات.

وقد يكون هذا مبرراً براغماتياً له وجاهته، لكن هناك في واقع الحال رؤى لوجيستية أخرى تدفع في طريق المناداة بحتمية إغلاق القواعد العسكرية الأميركية في الخارج، ومنها أنها لا تحمي الوطن من الهجوم المباشر، كما أن تأثيرها مبالغ فيه، عطفاً على أنها لا تمنع دائماً الانتشار النووي بصورة فعالة، وعادة ما تدفع في طريق استياء شعوب الحلفاء من وجودها على أراضيهم، وتخاطر بتوريط الولايات المتحدة في حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل.

وعلى جانب آخر يبدو أن هناك مبررات عقلانية أكثر، لا سيما في ظل أجيال الحروب الحديثة، التي تعتمد على عالم الذكاءات الاصطناعية والثورات الرقمية والطائرات والمسيرات الجوية والبحرية غير المأهولة.

وهذه الأدوات برمتها تجعل الحاجة إلى البشر أمراً غير ذي جدوى، أو هكذا يرى المخالفون لانتشار القواعد الأميركية خارج الدولة.

وفي الخلاصة، يبدو الجدل حول قدرة أميركا على خوض حربين، وانتشار القواعد الأميركية العسكرية في الخارج، أمراً طبيعياً في حالة القوى الإمبراطورية التي تدلف إلى منطقة الأفول، إذ تبلغ ذروة قوتها وسيطرتها عند لحظة زمنية بعينها، ثم يبدأ المنحنى في التراجع. حكمة كونية ورؤية إلهية "وتلك الأيام نداولها بين الناس".

المزيد من تقارير