ملخص
يخشى الطيف السياسي الفرنسي من احتمال وصول حزب التجمع الوطني المنتمي إلى أقصى اليمين إلى السلطة، ولذلك تحاول جهات مختلفة التعاون في ما بينها لمنع حزب مارين لوبن وجوردان بارديلا من الحصول على الغالبية في البرلمان الفرنسي.
مع اقتراب موعد الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية الفرنسية المقررة نهاية هذا الأسبوع، في السابع من يوليو (تموز) الجاري يسيطر الجدل في شأن احتمال فوز أقصى اليمين على جميع البرامج التلفزيونية الفرنسية، وبخاصة بعد انتصاره في الجولة الأولى مما يثير تساؤلات عدة حول السيناريوهات المحتملة في المشهد السياسي الفرنسي بعد الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات.
وتصدر حزب "التجمع الوطني" المنتمي إلى أقصى اليمين في الجولة الأولى المشهد الانتخابي محققاً 33 في المئة من الأصوات، تلاه مباشرة تحالف الجبهة الشعبية اليساري الذي حصل على 28 في المئة.
وفي هذه الأثناء يبذل خصوم "التجمع الوطني" جهوداً مكثفة لمنعه من تحقيق الغالبية المطلقة سعياً إلى عرقلة وصوله إلى الحكم. وفي السياق أعلن أكثر من 200 مرشح أنهم لن يخوضوا الجولة الثانية من انتخابات الجمعية الوطنية التي تتألف من 577 مقعداً. وكان معظم هؤلاء المرشحين من اليسار (127 مرشحاً) أو من معسكر ماكرون (81 مرشحاً) وقد حلوا في المركز الثالث في دوائرهم الانتخابية، إذ تصدر حزب التجمع الوطني نتائج الجولة الأولى.
وعلاوة على ذلك قرر تحالف "الجبهة الشعبية" اليساري سحب مرشحيه من الدوائر الانتخابية التي حلوا فيها في المركز الثالث بهدف دعم المرشحين الأكثر قدرة على مواجهة "التجمع الوطني".
ويبدو أن الجولة الثانية ستكون حاسمة. والسؤال المطروح الآن هو هل سينجح تحالف الجبهة الشعبية اليساري في تكتيكاته السياسية لقطع الطريق أمام أقصى اليمين؟ وما السيناريوهات المحتملة بعد نتائج الانتخابات الفرنسية؟ الأسئلة تتزايد والمشهد السياسي يترقب بحذر.
الوضع السياسي المحتمل بعد الانتخابات
كيف سيكون المشهد السياسي الفرنسي في اليوم التالي لإعلان نتائج الجولة الثانية من الانتخابات الفرنسية لعام 2024؟ ربما يشمل السيناريو الأول حصول حزب "التجمع الوطني" على غالبية مطلقة مع انتخاب جوردان بارديلا رئيساً للوزراء، ولكن ذلك يتطلب الفوز بأكثر من 289 مقعداً في البرلمان. وتبدو هذه الفرضية أقل احتمالية اليوم بعد انسحاب 210 مرشحين من أجل عرقلة تقدم أقصى اليمين. وفي حال عدم تحقيق "التجمع الوطني" للغالبية المطلقة بفارق صغير فقد يتمكن من تعزيز موقعه من خلال البحث عن حلفاء جدد في صفوف اليمين، مثل إريك سيوتي ومرشحيه.
ويتضمن السيناريو الثاني إقامة تحالف واسع، إذ يتعين على الأطراف المعنية التغلب على الخلافات العميقة حول قضايا مثل سن التقاعد وإصلاح التأمين ضد البطالة وتنمية الطاقة النووية. هذا الاتحاد الوطني يتطلب تقديم تنازلات كبيرة من الأطراف المشاركة كافة. وفي سياق متصل، أكدت عالمة البيئة ساندرين روسو أنها لن تكون جزءاً من أي تحالف يحجز مكاناً للجبهة الشعبية الجديدة، بل ستدعم "الجبهة الوطنية الشعبية" بأكملها.
خيارات ماكرون محدودة
ومع التطورات السياسية الحالية يواجه حزب الرئيس إيمانويل ماكرون خيارات محدودة. وتتلخص الاحتمالات في خيارين أساسيين. الخيار الأول أن يضطر ماكرون إلى قبول "حكومة تعايش" مع رئيس وزراء من أقصى اليمين، مما سيقلص بصورة كبيرة صلاحياته.
أما الخيار الثاني في حال عدم تمكن "التجمع الوطني" من تحقيق الغالبية المطلقة، فيتمثل في تعيين ماكرون لحكومة تقنية لتسيير الأمور اليومية. وتعني الحكومة التقنية أن الرئيس بموافقة الأحزاب الأخرى يمكنه تعيين كبار موظفي الخدمة المدنية والمحافظين المحايدين سياسياً لإدارة الشؤون الجارية.
وفي هذا السياق يوضح عالم السياسة برونو كوتريس أن "هذا هو النمط الذي عادة ما تأخذه الحكومة التقنية، وهو الوضع الذي شهدته إيطاليا بالفعل خلال عام 2021 واستمر لمدة عام ونصف العام".
ولمناقشة هذا الموضوع أجرينا مقابلة مع الباحث في الشؤون الأوروبية تميم هيكل، الذي أوضح لـ"اندبندنت عربية" أن "السيناريو الأول، وهو فوز أقصى اليمين، يبدو غير مرجح إلى حد كبير، بخاصة مع التحركات السياسية الجارية بين اليسار والوسط."
وأوضح هيكل أن "السيناريو المتوقع هو تقديم معسكر ماكرون تنازلات سياسية كبيرة". ومع ذلك، يبقى السؤال المطروح حسب قوله هو ما إذا كان ماكرون قادراً على التعاون مع حزب اليسار بعد الانتخابات، وهل يمكن لليسار أن يتعامل سياسياً مع خصمه؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هل يحقق التجمع الوطني الصدارة بلا غالبية مطلقة؟
ووفقاً لاستطلاع أجراه معهد "إيلابي"، يشير تحليل النتائج إلى أن عمليات نقل الأصوات بين الجولتين الأولى والثانية ستؤثر بصورة كبيرة في نتائج الانتخابات التشريعية في فرنسا.
وبحسب ما أشار إليه الاستطلاع، فإن "الجبهة الشعبية" (يسار) ستحاول عرقلة طريق أقصى اليمين، وبحسب الأرقام، فإن 62 في المئة من أنصارها سيصوتون لمصلحة مرشح يعارض حزب "التجمع الوطني"، بينما سيمتنع 32 في المئة منهم عن التصويت، و6 في المئة فقط سيصوتون للمرشح الذي يدعمه جوردان بارديلا. وقال واحد من كل ثلاثة فرنسيين (33 في المئة) إنهم يرغبون في أن يحصل التجمع الوطني على أكبر عدد ممكن من النواب في الجمعية الوطنية. ويريد 24 في المئة من الفرنسيين فوز "الجبهة الشعبية"، و18 في المئة يفضلون فوز الائتلاف أو المعسكر الرئاسي. وتجدر الإشارة إلى أن واحداً من كل أربعة فرنسيين، وفق استطلاع معهد إيلابي، لا يريد أن تحصل أي من الكتل الثلاث على أكبر عدد من النواب بعد الانتخابات.
ماكرون لن يستطيع منافسة لوبن
وفي هذا السياق، قال الباحث السياسي تميم هيكل أيضاً، "لا أعتقد أنه في حال فوز أقصى اليمين، سيكون هناك تعايش، وإن حدث ذلك فلن يستمر حتى نهاية فترة رئاسة ماكرون". وأضاف أنه لا يوجد أي احتمال للتعايش بين الطرفين.
ويرى تميم هيكل أن "احتمال بقاء ماكرون حتى نهاية فترة رئاسته مع حكومة من أقصى اليمين، وإن تحقق ذلك، لن يكون سهلاً على معسكر ماكرون". كما يشير إلى أن "ماكرون لن يستطيع الدخول في منافسة مع مارين لوبن"، مؤكداً أن "الخيار الأنسب أمام ماكرون هو الاستقالة".
وبالنسبة لاحتمالية تشكيل "حكومة تقنية"، يرى المتحدث ذاته أن "هذا الاحتمال وارد جداً، لكنه ربما يكون موقتاً". ومن وجهة نظره، فإن "الخيار الأسوأ هو إنشاء حكومة تكنوقراط، لأن حكومة التكنوقراط في ظل الاستقطاب الكبير الذي يشهده الشارع الفرنسي بعيداً من التوجهات السياسية، هو أمر صعب خصوصاً أمام المتغيرات الكبيرة التي تشهدها الساحة السياسية. وهذا سيزيد من حدة الاستقطاب، بالتالي يؤدي إلى اصطدام سياسي شديد، لكن على رغم ذلك، فهو احتمال وارد جداً".
أما بخصوص السؤال حول كيفية إعادة ماكرون تركيب تحالفاته السياسية في حال فشله بتشكيل حكومة، رد الباحث السياسي قائلاً إن "هذا السؤال حتى ماكرون لن يستطيع الإجابة عنه حالياً، فيما أعتقد شخصياً أن ماكرون يجب أن يتحالف مع اليسار. ويحاول رئيس الوزراء غابريال أتال الآن أن يجد حلولاً لتقوية الوسط، لكنه الطيف الأكثر خسارة في هذه الانتخابات."
كما أكد هيكل أن "سياسة ماكرون فشلت بسبب غياب فطنته السياسية، وذلك منذ توليه الرئاسة، سواء على المستوى الداخلي أو المستوى الخارجي أو حتى في إدارة الوضع الاقتصادي والأزمة السياسية، بما في ذلك قراره المتعلق بإجراء انتخابات مبكرة، تزامناً مع حدث الألعاب الأولمبية العالمي. وأيضاً توجهه المعادي لروسيا، الذي وضعه في موضع سياسي صعب".
وفي ما يتعلق بخيارات ماكرون الرئاسية للبقاء في السلطة، أشار تميم هيكل إلى أن "الخيارات صعبة أمام ماكرون ومعسكره، والطريق الوحيد الذي يجب أن يتبعه هو التحالف مع اليسار المتطرف. وهذا ليس بالأمر السهل، إذ يجب تقديم تنازلات سياسية من الطرفين". وأكد هيكل أن "الوضع السياسي في فرنسا صعب"، مشيراً إلى أن "ماكرون لن يستطيع الخروج من هذه الأزمة السياسية دون خسائر. نحن في لحظة سياسية نادرة، لحظة استقطاب كبيرة شبيهة بفترة ما بين الحربين."
على جانب آخر، رد الباحث السياسي على سؤال حول تأثير النتائج الانتخابية على علاقة فرنسا بالاتحاد الأوروبي ودورها على الساحة الأوروبية، قائلاً إنه "في حال تشكيل حكومة يمينية أو تكوين تحالفات بين اليسار والوسط، فإن المتغيرات الأوروبية مع انتشار الوجه اليميني داخل أوروبا، وما يجري أيضاً في الشرق الأوسط والحرب في أوكرانيا وغيرها من الملفات الكبرى، تجعل أمام اليمين محددات دولية لا يمكن تجاهلها حتى لو كانت سياساته تختلف عن السياسة المعتدلة لماكرون. لأن العلاقات الخارجية لها محددات دولية، بالتالي لن يكون هناك تغيير جذري". وأضاف تميم هيكل أن هناك محددات للأمن الأوروبي، فمن الصعب جداً تخيل السيناريوهات المستقبلية خارج فرنسا بسبب هذه المحددات". وختم متسائلاً، "هل الحكومة اليمينية في حال فوز معسكرها ستتنازل عن هذه المحددات بسبب توجهاتها مع روسيا؟ هل ستكون مساندة لإسرائيل أكثر من الشرق الأوسط؟ وما مستقبل دور فرنسا في القضية الفلسطينية؟".
الغالبية المطلقة
كذلك يتفق المتخصص في القضايا الأوروبية، محمد رجائي بركات مع تميم هيكل، بعدم الاعتقاد بحصول "التجمع الوطني" على غالبية مطلقة بمجرد إعلان النتائج النهائية للانتخابات.
واعتبر بركات أن "ذلك يعني أنهم قد لا يشاركون في الحكومة القادمة، كما أشار جوردان بارديلا، المرشح لرئاسة الحكومة الفرنسية المقبلة". ويرى محمد رجائي بركات أيضاً أن ذلك يعود إلى اتفاق الأحزاب اليسارية المعارضة على التنازل لمصلحة المرشحين الأكثر احتمالية في الفوز، مما قد يؤدي إلى تمكين تحالف "الجبهة الشعبية" من الحصول على غالبية في البرلمان، أما "بالنسبة إلى الرئيس ماكرون، فإنه إذا لم يتمكن من الحصول على الغالبية، فقد ينوي تشكيل حكومة تكنوقراط لإدارة الدولة حتى نهاية فترة رئاسته". وأضاف بركات أن "الرئيس الفرنسي سيواجه حتماً تحديات كبيرة بسبب الخلافات بين الأحزاب السياسية المختلفة، التي قد لا توافق على حكومة من هذا النوع".
في النهاية، تبقى التساؤلات قائمة حول ما ستؤول إليه نتائج الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية الفرنسية. التحديات التي يواجهها حزب ماكرون تعكس تعقيدات المشهد السياسي الفرنسي الحالي. سواء بقبوله "حكومة تعايش" مع رئيس وزراء من اليمين المتطرف أو تعيين حكومة تقنية، سيتعين على ماكرون التعامل مع واقع جديد يتطلب تقديم تنازلات وإيجاد توازنات دقيقة. مهما كانت النتيجة، ستحدد هذه الانتخابات مسار فرنسا في المستقبل القريب، مع تأثيرات محتملة على كل من السياسة الداخلية والخارجية. في هذا السياق المتغير، يبقى السؤال الأساس هو: كيف ستتمكن القيادة الفرنسية من الحفاظ على الاستقرار والعمل نحو تحقيق مصالح الأمة في ظل الانقسامات السياسية الحادة؟