ملخص
تتناول الكاتبة الألمانية ذات الأصول التركية فاطمة إيدمير في روايتها "أشباح" التي ترجمت حديثاً إلى الفرنسية تعقيدات الهوية والانتماء والصراع الثقافي في المجتمع المعاصر.
تستمد الروائية الألمانية التركية فاطمة إيدمير في روايتها " أشباح" (صدرت عن دار مركور دو فرانس، بترجمة فرنسية أنجزها أوليفييه مانوني) من سيرتها الذاتية أحداثاً محورية تبني من خلالها عمارة سردية متقنة، فالرواية تتمحور حول عائلة تركية مهاجرة إلى ألمانيا تعيش تحت وطأة ماض غامض وسعي دؤوب إلى الحرية وتوقعات غير متحققة من الوالدين في مجتمع يضطهدهم ولا يتقبلهم، ووطن أصلي تربطهم به مشاعر متباينة.
تبدأ الرواية مع وفاة الأب، حسين، العامل التركي العائد إلى بلاده بعد عقود من الغربة، كي يحقق حلمه في شراء بيت وتأسيسه. أما زوجته، أمينة، التي عاشت تحت ثقل الاكتئاب لأعوام، فمكثت مع أبنائهما في المدينة الألمانية الصغيرة التي انتقلوا إليها قبل 30 عاماً. وبينما كان حسين ينهي تجهيز شقته التي تمكن من شرائها في إسطنبول، بفضل مدخراته على مدار الحياة، أصيب بأزمة قلبية، ولم يتمكن من السكن في الشقة التي حلم بها. هذه المفارقة القدرية، تهز جميع أفراد العائلة، وتدفع بزوجته أمينة وأولادها الأربعة للسفر سريعاً إلى تركيا، فيجتمع أفراد العائلة في إسطنبول لحضور جنازة الأب.
تكشف الكاتبة بجرأة ما تسببه الهجرة من انهيارات وآلام جسدية ونفسية، وبناء جدران لا مرئية بين أفراد العائلة الواحدة، تباعد بينهم، وتجعل تواصلهم عسيراً. تتساءل إيدمير: "هل من الممكن للأدب أن يشكل عبر قوة الخيال قدرة على الغفران والإصلاح؟". يحمل كل فرد في العائلة أعباء الماضي والحاضر، إلى جانب محاولات التصالح مع التناقضات الداخلية التي أوجدتها الغربة، والبعد الواقعي والنفسي. كل فصل من الرواية يعطي صوتاً لفرد من العائلة، مما يضيف عمقاً إلى الصراعات الفكرية والاجتماعية التي تواجهها كل شخصية، كما أن التوترات بين أفراد العائلة تكشف عن الألم، والمصاعب التي تنتقل من جيل إلى جيل، وكيف أن ألم أحدهم يكون مصدراً لغضب الآخر وإحباطه. هذه الصراعات الإنسانية العميقة تعكس البحث المستمر عن الاستقرار في بلد يشعرهم بعدم الانتماء، في الوقت عينه فإنهم لا يرتبطون عاطفياً ولا اجتماعياً بإسطنبول.
تشبه حكايات أبطال "أشباح" في تشابكها وتداخلها المعقد تراجيدياً إغريقية، إذ على مدار الرواية، وعقب وصول العائلة إلى إسطنبول، تتكشف العلاقات المضطربة بين الأجيال، ويتصارع الأبناء مع هوياتهم وانتماءاتهم المتباينة. الشخصيات تتحدث وتعرض وجهات نظرها على نحو متفرد، وببراعة سردية، وسلاسة تميز كتابة إيدمير. يرتبط الإخوة جميعهم بخيبة أمل مشتركة، سببتها التطلعات والتوقعات والأكاذيب التي تتوارثها العائلة، وتمنحهم القوة، لكنها تحبطهم في الوقت نفسه. يمكن اعتبار هذه الرواية تجسيداً نموذجياً لفكرة الاغتراب، ليس في عائلة حسين يلماز فقط، بل في عديد من الأسر المغتربة، التي تعيش حالة من التشظي بين مكانين وهويتين.
جدران باردة
"كما نعلم، كل عائلة غير سعيدة تكون غير سعيدة بطريقتها الخاصة"، إذ داخل جدران الشقة الباردة، "التي أصبحت موسومة بحزن أبدي، لكونها مصدر شؤم"، تتداخل الأصوات كي تعيد بناء قصة الهجرة، والحقد والصمت. كتبت إيدمير الرواية في ستة فصول، منحت فصلين للوالدين، مكتوبين بصيغة المخاطب المفرد، ثم أتاحت للقارئ سماع أصوات الأبناء الواحد تلو الآخر، بصيغة الغائب.
يبدأ السرد مع أوميت، البالغ من العمر 15 عاماً، الابن الأصغر، وهو الوحيد الذي ولد في ألمانيا، ويعيش مثليته الجنسية في الخفاء. تليه سيفدا، الابنة الكبرى، التي تركها والداها لثلاثة أعوام في القرية عندما هاجروا، ولم تتمكن من إكمال تعليمها واضطرت إلى الزواج مبكراً، لذا نمت لديها تجاه والدتها تحديداً مشاعر حقد عميقة. أما بيري، فهي طالبة مهتمة بالقضايا النسوية، قارئة نهمة لنيتشه، غادرت إلى فرانكفورت للدراسة، وتعيش حزنها على فقد حبها الأول، أرمين الذي انتحر. وأخيراً هاكان الذي يتوجه إلى إسطنبول بالسيارة مع صديقته الألمانية، ويواجه التعليقات العنصرية من والدها. تحاول الأم أمينة جاهدة لم شمل الأسرة وتوحيدها، فقد قاست مبكراً من الفقد، حين تركت ابنتها الكبرى وغادرت إلى ألمانيا، لذا فإنها ما زالت تعاني لوم الذات، ولا تستطيع مسامحة نفسها، ويزيد من شعورها هذا النظرات القاسية، وتعامل ابنتها الكبرى سيفيدا معها ببرود.
المدينة والهوية
تبرز الرواية أيضاً أهمية اللغة في تشكيل الهوية، فالأفراد يتحدثون التركية والألمانية، وأحياناً الكردية، كلغة خفية تشبه الشبح، لتعبر عن جزء من الهوية المفقودة أو المكبوتة. هذا التنوع اللغوي يعزز الشعور بالاغتراب والانتماء المزدوج الذي تعيشه الشخوص. الأب حسين الذي جاء من إحدى القرى الكردية البعيدة، أسدل ستاراً ثقيلاً على تلك المرحلة الغامضة من حياته. ومن خلال ذكر هذه المعلومات عن الأب، تنعطف الكاتبة إلى بعض الأحداث المفصلية في التاريخ التركي الحديث، مثل انقلاب 1980 في تركيا، وسعي النظام السلطوي للقضاء على الأكراد، وتصاعد العنصرية في ألمانيا، وظهور مجموعات النازيين الجدد التي تحرق المباني التي تعيش فيها العائلات المهاجرة.
تلقي شخصية الأب، على رغم موته، بظلالها الكثيفة على قصص زوجته وأبنائه. لنقرأ: "من كان هذا الرجل الذي جاء إلى ألمانيا من قرية كردية في أوائل السبعينيات، وعمل بإرهاق، في مصنع للمعادن طوال حياته، يوماً بعد يوم؟ لماذا لم يفعل المزيد؟ لماذا أخفى نفسه؟ لماذا لم يتحدث أبداً عن الفترة التي سبقت قدومه إلى ألمانيا وماذا حدث آنذاك؟ تسأل ابنته نفسها مم كان يخاف؟ ولماذا لم يتحدث أبداً بلغته الأم مرة أخرى؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى رغم أن الرواية تتناول موضوعات الهجرة والهوية بصورة عميقة، فإنها لا تخلو من اللحظات الإنسانية الدافئة. فالأحداث التي تجري في إسطنبول تفتح نافذة على الثقافة التركية، وتبرز التناقضات بين الحياة التقليدية والحديثة. تنجح فاطمة إيدمير في إضفاء طابع خاص على المدينة، مكان التقاء الأجيال المختلفة، وتصارع الأرواح الهائمة بحثاً عن إرث الأب، بشقيه المادي والمعنوي. وفي الوقت عينه، يتعامل كل فرد مع خسارته بطريقته الخاصة، نجد أوميت يحاول التصالح مع مثليته الجنسية في مجتمع محافظ، وسيفدا تكافح لتحرير نفسها من قيود الزواج المبكر، وبيري تسعى لفهم مكانتها في كونها امرأة مستقلة في مجتمع مزدوج المعايير. هاكان من جهته يعاني محاولة التوفيق بين هويته التركية وصديقته الألمانية، في تحدي العنصرية التي تحيط بهما. لنقرأ: "ما هو الجني؟"، يسأل المراهق أوميت شقيقته الكبرى بيري. الليل يخيم عليهما وهما جالسان في شقة إسطنبول التي اشتراها والدهما حسين بعد تقاعده. تخبره بيري أن الجني هو شيء لا يمكن تفسيره، شيء يجده الناس غريباً وغير طبيعي، لكنه ليس بالضرورة جيداً أو سيئاً. تعتقد بيري أن الجميع ربما لديهم أو يتم استحواذهم من الجني الخاص بهم الذي يسكنهم".
الذات والحياة
ولدت فاطمة إيدمير عام 1987 في مدينة كارلسروه، الواقعة في جنوب غرب ألمانيا، في ولاية بادن. نشأت في عائلة تركية-كردية، لذا كان لهذا التنوع الاجتماعي والثقافي أن يترك بصمة مؤثرة في كتاباتها. درست الأدب الألماني والأميركي في جامعة غوته في فرانكفورت، وتعمل في الصحافة، مما زودها بمنظور فريد حول الاختلافات بين المجتمعين التركي والألماني.
نشرت إيدمير روايتها الأولى "المرفق" في عام 2017، وفي هذا العمل استكشفت الكاتبة مواضيع الاغتراب والهوية وتجربة المهاجرين في ألمانيا، من خلال تناولها قصة فتاة من أصول تركية تعيش في برلين، ينتابها شعور بالاختناق بين توقعات عائلتها التركية التقليدية، وحقائق المجتمع الألماني القاسية، ثم في عيد ميلادها الـ18، يتغير مسار حياتها بشكل درامي.
تميل فاطمة إيدمير في كتابتها إلى وضع أرضية مرنة تتناول من خلالها نقاشات عميقة حول الهوية، الانتماء، والتعايش بين الثقافات المتنوعة، ساعية إلى تقديم رؤية تأملية حول الحياة والهويات التي نصنعها لأنفسنا، ونقدمها للمجتمع الغريب، مستعرضة كيف يمكن للإبداع أن يصبح وسيلة للتصالح مع الماضي، وبناء مستقبل أفضل. تراهن إيدمير على الأدب كجسر يربط بين تجارب الأفراد المختلفة، مما يسهم في فهم أعمق للذات والعالم المحيط بنا، ويتيح فرصة لإعادة تعريف الهوية في ضوء التجارب والذكريات المشتركة.