تسع ساعات بالسّيارة استغرقتنا الرّحلة التي كان من المفترض بها ألا تزيد عن ستّ ساعات. وإدراكاً منّا بأنه لا زال أمامنا ساعتان إضافيتان على الأقل، توقّفنا في رابع محطة شحن لهذا اليوم. أظنّ بأننا لو كنّا مكثنا دقيقةً واحدة أخرى في الطريق، لكنّا عالقين الآن في حالة الطوارئ نُحاول استدعاء شركة "أتومبيل أسوشيشين" (AA) لنجدتنا. وإذ تتّصل شريكتي بأهلها وتشرح لهم أسباب تأخّرنا، أُدرك فجأة وبسرعة أنني وإيّاها تحت رحمة بطارية ليثيوم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تُراودني منذ بعض الوقت فكرة شراء سيارة كهربائية. فالتّغيّر المناخي موضوع خلافي وخطير والحكومة أبعد ما يكون عن تحقيق هدفها بخفض صافي انبعاثات الكربون إلى الصّفر بحلول العام 2050، فلمَ لا أقوم بالواجب وأؤدّي دوري من المهمة؟
هذه ليست المرة الأولى التي أقود فيها سيارة كهربائية. فقد سبق وقدتُ موديلات مختلفة منها، لكن لمسافات قصيرة طبعاً. كان توقيت الرّحلة مثالياً: بعد التخطيط لقضاء إجازة صيفيةٍ في عمق أعماق كورنوال، قررتُ وشريكتي ردّ تذاكر القطار الباهظة والارتحال من لندن على متن سيارة كهربائية.
وكانت السّيارة من طراز "فولكسفاغن إي-غولف" (VW e-Golf). من ناحية المظّهر الخارجي، لا تختلف سيارة فولكسفاغن الكهربائيّة عن سيارة فولكسفاغن العاديّة، بمعنى أنّها لا تتميّز بتصميمٍ غريب ومختلف عن نظيراتها العاملة بالوقود أو الديزل، كما هي حال "نيسان ليف" (Nissan Leaf) و"تسلا موديل إكس" (Tesla Model X). كلّ ما في الأمر أنّها تحمل حرف “e” على مقدّمتها وخلفيّتها.
ما كلّ النّاس يُحبّون أن يُظهروا للعالم مدى تقدّمهم الفكري. والأرجح أنّ الجرأة والغرابة التي لطالما اتّسمت بها تصاميم السّيارات الكهربائية كانتا حجر عثرة في طريق العديد من الرّاغبين في اقتنائها. فهؤلاء ببساطة، لا يُريدون التميّز وكلّ ما يُريدونه هو الاختلاط بهدوء والمضي قدماً في حياتهم.
وبعد حواري مع عددٍ من مالكي السّيارات الكهربائية، اتّضح لي أنّ مدى البطارية، أيّ المسافة التي تقطعها السيارة حتى تفرغ البطارية من شحنتها هو العقبة الأولى التي لا بدّ من تخطيها. وبما أنّ رحلتنا تمتد على 300 ميل ومدى الـإي-غولف لا يتعدّى الـ180 ميلاً، خلتُ أنّه لن يكون علينا التوقّف أكثر من مرة، وقلتُ في نفسي بسذاجة: "لا مشكلة!"
قد تحتاج كمالك سيارة كهربائية إلى تحميل عددٍ من التّطبيقات على هاتفك المحمول؛ فأكثرية نقاط شحن السّيارات الكهربائية تستخدم أنظمة خدمة الدّفع الإلكتروني دون سواها. أنا عن نفسي، حمّلتُ تطبيقات "الطريق السّريع الكهربائي" (Electric Highway) لشركة "إيكوتريسيتي"(Ecotricity) و"نقطة شحن" (ChargePoint) و"زاب ماب" (ZapMap) و"بود بوينت" (PodPoint) و"بولار"(Polar) و"مصدر لندن" (Source London)و"اشحن سيارتك" (Charge Your Car). ولتشغيل كلّ تطبيق من هذه التطبيقات، كان عليّ أنّ أعدّ حساباً فرديّاً خاصاً وأملأ تفاصيل بطاقتي الائتمانية وسواها من المعلومات الشخصية، ناهيك عن بيانات السّيارة. أما التطبيقات التي اشترطت خطة سداد قائمة على اشتراكٍ شهري... فشكراً والسّلام!
وبالنّسبة إلى تطبيق "زاب ماب" تحديداً، فهو يجمع مصنّعي محطات الشحن الكهربائي في مكانٍ واحد ويسمح لمستخدمه بالتّخطيط لرحلته من بدايتها إلى نهايتها، مقترحاً عليه مكان وزمان كلّ محطة توقّف. لكن هذا لا ينفي حقيقة كونه تطبيقاً بطيئاً ورديئاً لا ينفكّ يتعطّل. وعلى هذا الأساس، قررتُ أن أُخطّط للرحلة بنفسي، مستعيناً بخدمات شركة واحدة ونقاط الشّحن التابعة لها فحسب، في هذه الحالة "أيكوتريسيتي" التي تملك شبكة قوية من المواقع على طول الخطّ السّريع.
"معظم محطات الشّحن لا تعمل"، حذّرتني إحدى صديقاتي قبل أسبوع من الرّحلة. وهذه الصّديقة تُصاب اليوم بأعراض "قلق البطارية" في كلّ مرة تنوي فيها القيام برحلةٍ طويلة في سيارتها الـ"نيسان ليف". كثيرون آخرون قالوا لي نفس كلامها، ولم آخذه على محمل الجدّ.
في مسار رحلتنا من لندن إلى كورنوال، كنّا نعتزم التوقّف في محطتين، على أن تكون المحطة الأولى في بريستول والثانية في إيكزتر. لكنّ خططنا ضاعت كلّها هباءً لمّا انطلقنا ببطارية غير مشحونة تماماً: غلطة مبتدئين!
فكانت محطتنا الأولى في "هيستون سيرفيسز" (Heston Services) التّابعة لـ"إيكوتريسيتي". هناك، لم تكن الخدمة بالمستوى المطلوب؛ إذ بعد ما شغّلتُ جهاز الشّحن بواسطة التّطبيق، بدأ التيار الكهربائي بالتدفق إلى السيارة. ظنّنتُ حينها أنّ الأمور تجري على قدمٍ وساق، لكنّها للأسف لم تكن كذلك. وبعد مرور 10 دقائق فقط، انقطع التيار إلى غير رجعة. ولولا أنّني ابن هذه الألفية ومتعلّق بهاتفي إلى حدّ الهوس، لما كنتُ علمتُ بوجود العطل الذي لم يردني أيّ خبر عنه إلا عبر البريد الإلكتروني، ولكنتُ أضعتُ نصف ساعة من حياتي في مقهى كوستا. على أيّ حال، وصلتُ السيارة بجهاز الشّحن المجاور. والغريب أنّ هذا الأخير لم يكن موصولاً بالتطبيق بأيّ شكل من الأشكال، وما زلتُ لا أعرف حتى الآن ما إذا كنتُ دفعتُ ثمن خدمة الشّحن أم لا.
ولأنّ عملية الشّحن في المحطات التّابعة لـ"إيكوتريسيتي" محصورة بمدة زمنيّة لا تزيد عن 45 دقيقة، كثيراً ما لا تحظى البطارية بالطاقة الكاملة لاستكمال رحلتها. أضف إلى أنّ هذه المحطات الموزّعة على طول الطّريق السريع، وإن كانت الأفضل برأي مالكي السّيارات الكهربائية، فإنّ معظمها لا يحتكم سوى إلى نوع واحد من كلّ وصلة. ولو صادف وجود عدد من الناس يقودون السّيارة نفسها، توقّع لخط الانتظار أن يطول.
وفيما كنّا نسافر يوم جمعة من بين الأكثر نشاطاً وازدحاماً هذا الصيف، وصلنا إلى المفترق الجهنميّ لخطي إم 4 وإم 5 السّريعين، إلى الشمال مباشرةً من بريستول. هناك، كانت الزّحمة شنيعة ومثيرة للتوتر، وما زادها شناعةً وجودنا في سيارة كهربائية. إذ في مرحلة ما، ظننا أننا تجاوزنا الأسوأ وأنّه سيتسنّى لنا أخيراً السّير بسرعةٍ أكبر، لكنّ ظننا لم يكن في محلّه. وهكذا أمضينا السّاعة التالية من حياتنا في محطةٍ جديدة بانتظار شحن السّيارة مرة أخرى.
عند مغادرتنا "إكزتر"، توهّمتُ أنّها ستكون محطتنا الأخيرة. فمؤشرات السيارة بشّرتنا بقدرتها على اجتياز أكثر من 130 ميلاً، في حين أنّ المسافة الفعلية المتبقيّة أمامنا لا تتعدّى الـ96 ميلاً فقط. كم كنتُ ساذجاً!
والمعروف عن سيارة الـ"إي-غولف" من فولكسفاغن أنّها مزوّدة بتقنيّة متطوّرة تسمح لها بتحليل إحداثيات الرّحلات التي قام بها صاحبها في وقتٍ سابقٍ من اليوم واحتساب مدى البطارية بناءً على أسلوبه في القيادة وحال الطقس والأوضاع المرورية وعوامل أخرى. لكنّ نتائج هذا التحليل قد لا تكون دقيقة بالكامل، وهذا ما حدث معنا أثناء الرحلة. فبعد ساعات طويلة من القيادة، كان لدى السيارة متّسع من الوقت لتُحدد مداها، لكنّ حساباتها كانت مرتفعة جداً إذا ما أخذنا في الاعتبار أداء القيادة المطلوب إلى حين الوصول.
ومع خروجنا من ديفون ودخولنا إلى كورنوال، فرغت بطارية السيارة بسرعة كبيرة، وبدا لنا أنّ محطة رابعة وأخيرة أمرٌ لا بد منه. صدّق أو لا تصدّق، انخفض مدى البطارية من 130 ميلاً إلى 100 ميل في غضون 15 دقيقة تقريباً. وفي غمضة عين، تتطابق مدى السيارة مع طول الرحلة. لحسن الحظ، كان ثمة نقطة شحن أخرى على طريقنا.
تلك كانت محطة "كورنوال سرفيسيز" (Cornwall Services)، ملجأنا الأخير لهذا اليوم. وبدخولها، يكون عدد محطات الشحن التي مررتُ بها في إطار رحلةٍ واحدة قد فاق بأشواط عدد المحطات التي زرتها على مدى الأشهر الستة الأخيرة. وصحيح أننا لم نتمكّن من شحن البطارية بالكامل، لكنّ نسبة الـ71% التي تزوّدنا بها كانت كافية لإيصالنا إلى وجهتنا. وأخيراً، أوقفنا السيارة عند مدخل بيت عمي. وكانت الساعة آنذاك التاسعة مساءً، ما يعني بأنّ رحلة الوصول إلى كورنوال من شقتنا الكائنة جنوب غرب لندن استغرقتنا قرابة الـ11 ساعة.
بعد جولتنا على كلّ محطة شحن في المنطقة الجنوبية الغربية، تحفّظنا بعض الشيء على استخدام السيارة للقيام برحلات خارج كورنوال. لكن، الحق يُقال إنّ السيارة الكهربائية أكثر من مذهلة وأكثر من فعالة لتأدية المهمات اليومية.
فالإقلاع بها بسرعةٍ كبيرة مقارنةً بالسيارات الأخرى هو نوع من الإدمان، كما أنّ عملية شحنها ليلاً وعدم التفكير بشحنها نهاراً هو حمل ناقص. عدا ذلك، يُعتبر صوت المحرّك الكهربائي الخفيف وجهاً جديداً من وجوه الحضارة. ولأجل التمتّع بكلّ هذه الخصائص والمميّزات، يكفي أن تشحن سيارتك مرة واحدة. نعم، هذا صحيح. يُمكن لدورة شحن واحدة أن تمّد السيارة الكهربائية بالطاقة لأربعة أو خمسة أيام؛ وأكثر من ذلك بكثير.
وبالنّسبة إلى عملية الشّحن المنزلي، فهي ممكنة وغاية في السهولة. أهم ما فيها أنها غير مقيّدة بفترات زمنية محددة كتلك التي تفرضها نقاط الشحن السريعة على الطريق السريع، ما قد يُتيح لسيارتك شحن نفسها بنفسها وعلى مهل. باستخدام قوابس المنزل الثلاثية العادية، توقّع لعملية الشحن أن تتراوح بين 12 أو 17 ساعة تبعاً لنوع السيارة، وإلا فسيكون عليك أن تُجهّز مرآبك بقابس بقدرة 7 كيلواط وبكلفة ألف جنيه استرليني يُمكن للحكومة أن تُشارك في جزءٍ منها.
"لا تستخدم التكييف"، قال لي أحد أصدقائي فيما كنتُ أستعد لخوض طريق العودة إلى لندن. صحيح أنّ هناك بعض الأمور التي يمكن للمرء القيام بها لزيادة مدى البطارية والمسافة التي يمكن أن تجتازها السيارة قبل أن تنفذ شحنتها، كالتخلّي عن الإضافات التكميلية وعلى رأسها المكيّف والمقاعد المسخّنة أو بكل بساطة القيادة ببطء. ولكن إلى متى ستستمرّ بتقييد نفسك؟ فهذه السيارة تكلّف 33 ألف جنيه استرليني؛ ومقابل هذا الكمّ من المال، ما الذي يُجبرك على تقديم تسويات من أيّ نوع؟
من واقع تجربتنا المريرة ومع انطلاقنا إلى لندن بسيارةٍ مشحونة تماماً، كانت رحلة الإياب أسهل بكثير من رحلة الذهاب. يومها، وصلنا إلى المنزل بعيد الساعة السابعة والنصف مساءً بعد رحلةٍ دامت تسع ساعات (أي أقل بثلاث ساعات من سيارة تقليدية تعمل بالوقود). وبسبب أداء قيادة جديّ ورفيق بالبيئة على خط إم 4 السريع، تمكّنتُ من تفويت المحطة الرابعة والاكتفاء بثلاث محطات. لكنّ العديد من المشاكل التي واجهتني في الرّحلة الأولى، عادت وواجهتني في الرحلة الثانية: محطات الشّحن لا تشحن السيارة بنسبة 100% من المحاولة الأولى وكنتُ محظوظاً مرة أخرى بأنني لم أُصادف سائق سيارة كهربائية بحاجة إلى الوصلة نفسها. يبدو أنّ فوضى عارمة في طريقها إلينا ما لم تتطور نقاط الشحن الكهربائي بالسّرعة نفسها التي تتطور فيها عمليات بيع وشراء السيارات الكهربائية.
عديدة هي المقالات التي تناولت جودة وأداء سيارة الإي-غولف والسيارات الكهربائية عموماً على مسافات قصيرة. وأستطيع ان أقول بكلّ صدق إنني أُفضّل السيارات الكهربائية على السيارت التقليدية لتأدية المهمات اليومية، ويُزعجني كثيراً ألا أكون اليوم من أهمّ المروّجين لها وأشدّ المحفّزين على اقتنائها.
وبالعودة إلى صديقتي، صاحبة سيارة الـ"نيسان ليف" التي حذّرتني من محطات الشحن العامة، فقد أخبرتني مؤخراً أنها باتت تستأجر سيارات تقليدية لرحلاتها الطويلة. بالنّسبة إلي، هذا حلٌّ سخيف. فامتلاك سيارة هو أكثر من مجرد الحصول على مركبة نقل ملائمة، إنّه شعور الحرية الذي يُرافقك بوجودها. لذا إن كنتُ غير قادر على النّهوض صباح يوم أحد مشمسٍ لتقودها بضع ساعات باتجاه أقرب شاطئ أو لتأخذ أطفالك بها في عطلة جميلة، ما تراه الطائل منها؟ صحيح أنّ هذه المواقف لا تُشكّل سوى جزءٍ بسيط من عادات القيادة الخاصة بك، ومع ذلك، لا أرى نفعاً من اقتناء سيارة تمنعك من القيام بأيٍّ منها!
© The Independent