Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كوروساوا رحل بعدما أعلن: "الآن فقط بت على استعداد لذلك!"

لمناسبة مرور 50 عاماً على رحيله الأول من بلاده: نظرة على نهايات سيد السينما اليابانية

مشهد من فيلم "مادادايو" (1993) لكوروساوا (موقع الفيلم)

ملخص

آكيرا كوروساوا لم يكن حدثاً عادياً في تاريخ السينما العالمية، ولكن في الوقت نفسه لا ينبغي أن نعتقد أنه الكبير الوحيد في تاريخ السينما اليابانية

في عام 1974، أي قبل نصف قرن من الآن وربع قرن من رحيله الفعلي في عام 1998، "ارتكب" سيد السينما اليابانية الكبير آكيرا كوروساوا "الذنب" الذي كثيراً ما اتهم باقترافه من نقاد السينما في بلاده: أي التغريب، بمعنى تحقيق سينما "غير يابانية" مصنوعة للأجانب، والحقيقة أنها تهمة باطلة تماماً. فاليوم إذ نشاهد المتن السينمائي الذي حققه كوروساوا قبل ذلك ونقارنه بما حققه بععد محاولته الانتحار يأساً عند النقطة الفاصلة بين المرحلتين سنذهل، فالتغريب الحقيقي لديه، أتى بدءاً من عام 1974 حين أنتج له السوفيات، وفي سيبيريا تحديداً فيلمه التحفة "درسو أوزالا"، ليأتي الأميركيون بعدهم ثم الفرنسيون ممولين السينما الكبيرة التي حققها خلال السنوات التالية وحتى رحيله، لمناسبة الذكرى هنا عودة للمرحلة الأخيرة من حياة كوروساوا.

"الآن عندما أصل في مذكراتي إلى هذه البوابة (يقصد بوابة فيلم ’راشومون‘- 1955) أجد نفسي غير راغب بالمرور منها. وهذا أفضل، فإذا أراد أحد أن يعرف ماذا حل بي بعد ’راشومون‘ فليحدق في أبطال الأفلام التي أخرجتها من بعده، فهذه هي الطريق الوثيقة. أنا موجود بكاملي مع كل هؤلاء الأبطال. وأجد صعوبة في أن أكون صريحاً حتى النهاية، فعندما يعرض المرء ما يكتبه على الآخرين فانهم سيستخفون برسم صورة حقيقية له. لا شيء في العالم يمكن أن يكشف عن المبدع مثل إبداعاته نفسها لا شيء إطلاقاً".

بهذه العبارات ختم أكيرا كوروساوا أواسط سنوات الـ70، كتاب مذكراته الذي آثر فيه أن يتوقف عند مرحلة مبكرة جداً من حياته ومساره المهني: المرحلة التي تلت عرض "راشومون"، أحد أبرز أفلامه وأجملها، في الغرب للمرة الأولى، وبالتحديد في مهرجان البندقية. والحال أن عرض الفيلم في ذلك المهرجان عند بداية سنوات الـ50، كان ما عرف بكوروساوا بشكل خاص، والسينما اليابانية بشكل عام، في عالم الغرب. غير أن هذا لا يجب أن يضعنا في موقف نفترض معه أن كوروساوا كان شديد الشعبية في بلده اليابان. فهو هناك كان يعتبر تغريبياً، أي متوجهاً في فنه وسينماه ناحية الأفكار والتقاليد وحتى الآداب الغربية. لذلك لم يعتبر، خلال معظم المرحلة الأولى من حياته، أيقونة قومية. ومع هذا نعرف اليوم أن تاريخ السينما العالمية، يعطي كوروساوا مكانة أولى بين كبار فناني الفن السابع، وهو حين رحل عن عالمنا في أيلول (سبتمبر) 1998 كرست له ملفات وصفحات ومقالات في معظم صحف العالم.

الاسم الأشهر ولكن...

والحقيقة أن آكيرا كوروساوا لم يكن حدثاً عادياً في تاريخ السينما العالمية، ولكن في الوقت نفسه لا ينبغي أن نعتقد أنه الكبير الوحيد في تاريخ السينما اليابانية. فهذه السينما التي ظلت مجهولة ثم شبه مجهولة عقوداً طويلة من السنين، فإن عرفت ارتبطت بسينما العنف والغرابة والرواج التجاري، عرفت أسماء عديدة لمبدعين باتت لهم، إلى جانب كوروساوا، مكانتهم المميزة في تاريخ السينما العالمية في القرن الـ20. كوروساوا هو بالطبع أشهر هذه الأسماء، ولكن هناك أيضاً يوسيجورو أوزو وكنجي ميزوغوشي وناروزي كي لا نصل باللائحة إلى نحو دزينة من مخرجين يكتشفون ويعاد اكتشافهم. ومرة أخرى نقول إن كوروساوا هو الأشهر، والأكبر بالنسبة إلى بعض أفلامه، لكنه كان في الوقت نفسه الأكثر اجتذاباً للكتاب والصحافيين، بحيث يصبح في إمكاننا أن نحصي مئات الحوارات التي أجريت معه، ولا سيما في الصحافة السينمائية الفرنسية والأميركية، إلى جانب عشرات الكتب التي وضعت عنه. والملفت أن كوروساوا على تنوع المواضيع التي كان يتناولها في حواراته ومقابلاته، وعلى جاذبية تناوله لهذه المواضيع، كان يحلو له أن يقول دائماً حين يسأل عما أراد أن يقوله في أفلامه: "أعتقد أن في أفلامي جميعاً موضوعاً واحداً. وإذا ما حاولت التفكير في هذا الأمر وتحديده، سأجد أن الموضوع الوحيد الذي استنتجته يتلخص في سؤال واحد: لماذا لا يمكن للناس أن يكونوا أكثر سعادة مع بعضهم بعضاً". وحين يسأل كوروساوا عما أحس به، حين كتب ما يعتبر "نصف" سيرته الذاتية، كان يقول "أعتقد أنك حين تكتب عن نفسك فهذا يساوي جلوسك بين أربعة جدران مغطاة بالمرايا والتحديق فيها، وهكذا شئت أم أبيت أجدني أراقب نفسي من زوايا عدة، فأرى أنني مختلف بعض الشيء عن ذاتي".

بين فكي كماشة

والحقيقة أن دراسة معمقة لمعظم سينما أكيرا كوروساوا، ستضعنا مباشرة بين فكي الكماشة هذين، من ناحية: السؤال حول استحالة السعادة، ومن ناحية ثانية رصد الذات في مرايا لا نهاية لها، ولكن في الوقت نفسه سيكون من الظلم لكوروساوا ولسينما كوروساوا المتنوعة والغنية أن نحصر الأمور كلها في هذين الأقنومين: السعادة والذات، حتى وإن كانت لهما السيطرة، ذلك أن ثمة بعداً أساسياً آخراً يمكننا رصده على الدوام في سينما هذا المعلم / الإمبراطور: صراع الخير والشر، صراع السادة في ما بينهم، صراع الإنسان ضد نفسه، وهي مواضيع ملأت تاريخ اليابان وهيمنت على المنتجات الثقافية التي واكبت هذا التاريخ، حتى وإن كان كوروساوا وجد دائماً أن في إمكانه أن يلجأ إلى منتجات أجنبية يقتبس منها مواضيعه. ولعل أهم الأمثلة على هذا، فيلم "ران" الذي حققه أوائل سنوات الثمانينيات في اقتباس مباشر عن "الملك لير" لشكسبير، من دون أن يعني هذا أن السينمائي الياباني الكبير حاول يومها أن يحقق نسخة جديدة للسينما، من حكاية الملك الشكسبيري المشهور. بل يعني تحديداً أن كوروساوا عرف كيف يعثر في يابان القرن الـ16 على حكاية تدنو من حكاية الملك لير، هي حكاية السيد هيديتورا، الذي كبلته السنون من دون أن تسبغ عليه كل حكمتها، فقام بتوزيع مملكته بين أبنائه الثلاثة ليكتشف الجحود في أعماقه وحقيقته. أن شكسبير ماثل أمامنا هنا بالطبع، لكن نظرة متأنية إلى الفيلم، وغوصاً في أجوائه، كفيلان بنقلنا مباشرة إلى التاريخ الياباني كما إلى الذهنية والثقافة اليابانيتين. والحال أن هذه المقالة تضعنا مباشرة في صلب مسيرة كوروساوا الدؤوبة في محاولتها التوفيق بين الأصالة اليابانية والانفتاح الثقافي على العالم، وتحديداً على الغرب، مما جعل ناقداً يابانياً كبيراً يقول عنه يوماً في عبارات تحمل كل أنواع سوء الفهم: "لقد نسي كوروساوا اليابان، فجعل نفسه واحداً من رواد السينما المبتذلة، وتحول إلى مجرد واعظ أخلاقي عاجز عن التعبير عن روح الشعب الياباني".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ظلم فادح

والحقيقة أن مطالعتنا الدقيقة لأفلام كوروساوا ستجعلنا قادرين على اكتشاف مبلغ الظلم والخطل في مثل هذا الكلام، ومهما يكن من الأمر فإن هذه الأحكام الجائزة في حق كوروساوا تضاءلت، بل اختفت منذ رحل عن عالمنا، وصارت أعماله ملكاً للتاريخ. فقبل رحيله بفترة قصيرة كان كوروساوا، الذي كان اعتاد أن يقول عن كل فيلم يحققه خلال ربع القرن الأخير من حياته أنه سيكون فيلمه الأخير، حقق فيلماً طيباً هادئاً وبسيطاً عنوانه "مادادايو"، وهذه الكلمة اليابانية تعني "لست مستعداً بعد". وهي أتت من جواب يرد في الفيلم مرات عديدة على لسان بطله، الأستاذ العجوز الذي تقاعد وبدأ يعيش أيامه الأخيرة. وإذ كان تلامذته المحبون يحيطون به، كان يسأل في كل مرة يبدو فيها السهاد أو التعب عليه عما إذا كان مستعداً ("ما آواكاي؟")، فيجيب بقوة: "مادادايو"، والحقيقة أن هاتين العبارتين انحفرتا يومها عميقاً في ذاكرة المتفرجين، لأنهما عبرتا تماماً عن أكيرا كوروساوا، وعن علاقته بالموت والحياة هو الذي كان في ذلك الحين بلغ ما ينوف عن الـ85. وكان من الواضح عبر هاتين العبارتين أن كوروساوا إنما يحاول الرد على نفسه، وعلى إبدائه دائماً رغبة في إنهاء مساره المهني المتعب. مهما يكن من الأمر فإن "مادادايو" اعتبر وصية كوروساوا الأخيرة، حتى وإن اعتبر عنوانه رمزاً للمقاومة التي كان "الإمبراطور" - وهذا هو لقبه في اليابان - يبديها إزاء الموت واعتزال العمل. والأمران كانا بالنسبة إليه أمراً واحداً، إذ إن كوروساوا ما إن مضت سنوات قليلة جداً على عرض "مادادايو" حتى استسلم أخيراً ومات، حين مات كوروساوا إذاً أتى موته ليضع حداً لواحدة من قصص الحياة الأكثر غنى وتنوعاً في تاريخ السينما العالمية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة