ملخص
ليس أهم من الرد سوى تحديد وظيفته، والظاهر أن وظيفة الرد حالياً هي "العقاب". "ضربة عقابية" على تجاوز الخطوط الحمر. أما تحرير فلسطين، فإنه مؤجل إلى مرحلة أخرى. وأما العقاب، فإنه يكشف هشاشة إسرائيل ويجعلها في حاجة إلى حماية أميركية لا أحد يعرف إلى متى تدوم.
الشرق الأوسط كان ولا يزال محكوماً بما يسمى "قانون هيلي": كل ما تتوقعه وتحاول تجنبه سيحدث. ولا حدود للتوقعات التي بات الجميع في المنطقة والعالم يسلم بها كوقائع: رد مركب من إيران و"حزب الله" وكل "محور المقاومة" على تجاوز إسرائيل الخطوط الحمر باغتيال القائد العسكري في "حزب الله" فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية ورئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في طهران.
نتنياهو تحسب للرد على جريمته وأراد توظيفه. فهو، كما جاء في تقرير "معهد الشرق الأوسط" في واشنطن، سمع من دونالد ترمب وكامالا هاريس "رغبة قوية في إنهاء الحرب سريعاً، ورأى أن أمامه فرصة أشهر قليلة لتصفية حساباته مع حماس وحزب الله وإيران، وأنه لن يكون أمام أميركا سوى الوقوف معه بمجرد سقوط الصواريخ". و"محور المقاومة" أخذ وقته في تنسيق الرد ضمن حسابات الرد على الرد. وليس صحيحاً ما يقوله نتنياهو عن كون إسرائيل "مستعدة لكل السيناريوهات دفاعاً وهجوماً"، إذ هي صارت عاجزة عن الدفاع عن نفسها من مواجهة هجوم مركب من جبهات عدة. وهي خسرت قوة الردع. وكل محاولاتها لاستعادة ما تسميها استراتيجية "الردع التراكمي" اصطدمت بواقع جديد صعب.
ذلك أن مسار الصراع مع إسرائيل شهد متغيرات في الاتجاه المعاكس لمعاهدتي "كامب ديفيد" و"وادي عربة" و"اتفاق أوسلو". عودة في أوساط معينة إلى لغة الخمسينيات الراديكالية، مقابل لغة الثلث الأخير من القرن الـ20 وبدايات القرن الـ21 الواقعية. واندفاع إسرائيلي نحو اليمين المتطرف الذي يرفض التسوية مع الفلسطينيين، ويتصرف كأنه يستطيع تجاهل شعب بكامله. الإمام الخميني طرح شعار "إزالة إسرائيل". وحركات "حماس" و"الجهاد الإسلامي" و"الجبهة الشعبية" تمسكت ببرنامج تحرير فلسطين. ولم تكن عملية "طوفان الأقصى" على يد "حماس"، ثم حرب غزة حيث فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق أهدافه وحتى في تحرير الرهائن ومنع إطلاق الصواريخ على غلاف غزة سوى تمارين عملية في تأكيد المتغيرات.
أبرز المتغيرات أمران هما العامل الإيراني والصواريخ والمسيرات. الأول لم يبق في الإطار النظري بل قام بتحرك عملاني واسع: أسس ميليشيات أيديولوجية مذهبية في لبنان والعراق وسوريا وسلحها ومولها، من "حزب الله" إلى فصائل "الحشد الشعبي" ولواءي "زينبيين" و"فاطميين". دعم وسلح الحوثيين في اليمن. ومد "حماس" و"الجهاد الإسلامي" بكل ما تحتاجانه. وأدار حرباً تحت ضوابط عبر "وحدة الساحات" لإسناد "حماس" و"الجهاد" في حرب غزة. وهذا ما جعل إسرائيل مطوقة من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والأمر الثاني غير استراتيجيات الحروب. فما نراه حالياً هو حرب بلا معارك. مجرد تبادل القصف بالصواريخ والمسيرات. الحوثيون أغلقوا البحر الأحمر بعد باب المندب وخليج عدن على السفن المتجهة إلى ميناء إيلات. "حزب الله" تمكن من شل الجليل ودفع المستوطنين إلى الداخل وتدمير كثير من التحصينات العسكرية الإسرائيلية. فصائل العراق مارست القصف بالصواريخ على إسرائيل والقواعد الأميركية. وكل هذا لم يكن ممكناً في الماضي. لا بل إن إسرائيل تخاف عملياً من مواجهة شاملة مع "حزب الله" القادر على ضرب مفاصلها الحيوية.
وبكلام آخر، فإن إسرائيل في مأزق لا مثيل له. هي في حرب على غزة ومع "محور المقاومة" بقيادة إيران، لا تستطيع أن تربحها ولا أن توقفها. ولا أن تحول دون حرب استنزاف طويلة. وإيران أيضاً في ورطة. فهي محكومة بالرد على انتهاك إسرائيل لحرمتها وسيادتها وهيبتها و"شرفها"، لكنها تخشى من "الرد القوي" لأنه "قد يعرض جهودها لتحسين العلاقات الدولية للخطر" كما كتبت صحيفة "اعتماد". وهي ربحت كثيراً من خلال الحروب عبر وكلائها، لكن عليها الآن أن تدخل الحرب مباشرة وتحاذر من تحولها حرباً شاملة تواجه فيها أميركا وتجد أولى الأولويات لديها معرضة للخطر، وهي النظام، فضلاً عن أن إيران تراهن، مثل إسرائيل، على الأزمات والفوضى في المنطقة، لكن طهران تمارس اللعبة وتبقى خارج الفوضى والأزمات، فيما إسرائيل داخل الأزمات والفوضى.
وليس أهم من الرد سوى تحديد وظيفته. والظاهر أن وظيفة الرد حالياً هي "العقاب". "ضربة عقابية" على تجاوز الخطوط الحمر. أما تحرير فلسطين، فإنه مؤجل إلى مرحلة أخرى. وأما العقاب، فإنه يكشف هشاشة إسرائيل ويجعلها في حاجة إلى حماية أميركية لا أحد يعرف إلى متى تدوم. ولا أحد يجهل أن القصف الصاروخي، مهما يكن قوياً، لا يحرر أرضاً ولا يحدث تبدلاً جوهرياً في اللعبة الجيوسياسية. كذلك القصف الإسرائيلي بالطيران والصواريخ. والسؤال هو: هل التصعيد هو من أجل التهدئة أم من أجل مزيد من التصعيد؟ المؤكد أن نتنياهو لا يريد التهدئة التي تريدها العواصم الدولية. والواضح أن الجهود الدبلوماسية المبذولة حالياً لخفض التوتر تبدو كأنها تدور في عالم افتراضي، لكن الدبلوماسية ستجد فرصتها بعد التصعيد العسكري في الرد والرد على الرد. فلا حرب للحرب. ولا قتال من دون هدف سياسي. ألم يقل كلاوزفيتز إن "الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى"؟ وما الذي يتغير في المعادلة إذا صارت السياسة استمراراً للحرب بوسائل أخرى، والسؤال الكبير هو: أي قضية تقدمت، وسط تبادل التدمير، وما هي الصفقة الإقليمية الممكنة بعد الدمار؟ لا أجوبة حاسمة، لكن اللعبة تجاوزت حرب غزة. ولا مجال في صراع المصالح الإقليمية والدولية لاختصار المنطقة بالصراع بين إسرائيل وإيران. والساحة ليست للاعب الأميركي وحده في معزل عن اللاعبين الصيني والروسي.